سعد الحريري: من يرث زعيم السنة في لبنان وما هي آثار انسحابه من المشهد السياسي على النخبة الحاكمة؟
[ad_1]
- إبراهيم شمص
- بي بي سي – بيروت
في 24 يناير/كانون الثاني، علّق سعد الحريري نشاطه السياسي وغادر لبنان، تاركا خلفه الطائفة السنية تبحث عن من يتزعمها بدلا منه، وتيار المستقبل بلا قيادة، وبلدا، يعاني من أعمق أزمة اقتصادية في تاريخه.
أمس عاد الحريري إلى لبنان ليلتقي بأعضاء تياره، ولإحياء ذكرى والده اليوم، رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الذي اغتيل وسط بيروت في 14 فبراير/ِشباط 2005. التاريخ الذي أدخله اللعبة السياسية ثلاثينيا، يحمل ثقل وراثة أبيه، ليغادرها بعد سبعة عشرة عاما تغيرت فيها موازين القوى الداخلية والإقليمية.
طرح اعتزال الحريري، الذي يعد حدثاً نادرا في المشهد السياسي اللبناني، علامات استفهام حول هوية من سيخلفه- في ضوء طرح بعض الأسماء لنفسها، فضلا عن أسئلة حول توزيع التمثيل السياسي داخل الطائفة السنية بعد خروجه من المشهد، وأثر هذا الخروج على التركيبة الحاكمة في لبنان.
إرث الأب
سطع نجم رفيق الحريري مع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989، ليتولى الرجل، الذي كان حتى وقت قريب من ذلك التاريخ شخصية ثانوية في المشهد السياسي اللبناني، رئاسة الوزراء للمرة الأولى عام 1992، ويشرع بخطوات رسمت معالم الاقتصاد اللبناني حتى اليوم.
تلك السياسات، القائمة في جزء منها على الاستدانة لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، ظلت بنظر كثيرين تتحمَّل مسؤولية أساسية في الأزمة التي تفجرت في لبنان بعد احتجاجات 17 أكتوبر/تشرين أول 2019، والتي جاءت أصلا احتجاجا على الوضع الاقتصادي والانسداد السياسي الذي كان لبنان قد وصل إليه بعد ثلاثين عاما من طي صفحة الاقتتال الأهلي.
لكن الحريري الأب لم يكن مجرد واضع لسياسات اقتصادية. فعلاقاته الدولية الواسعة ومشروعه، الذي كان الدعم السعودي فيه مطلقا لشخصه، جعلا منه ركنا أساسيا في توازنات داخلية، نظّمت علاقته المضطربة بالوصاية السورية، والقوى الداخلية المدعومة منها.
كما برع الرجل في التعامل مع البعد الخارجي لتلك التوازنات المرتبط بتشابك المصالح السورية السعودية وانفكاكها، والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط المعنية بالداخل اللبناني، إضافة إلى الدور الفرنسي التاريخي فيه.
داخل اللعبة
غداة اغتيال والده، أصبح سعد الحريري، الذي كان يدير شركة “سعودي أوجيه” عمود خيمة الإمبراطورية المالية لوالده، وريثا سياسيا لرفيق الحريري.
وبينما قد يرى البعض أن الحريري ثبت إلى حد بعيد على شعاراته التي تبناها خلال مسيرته، والتي تمثلت بانضوائه ضمن ما عرف فيما بعد بقوى 14 آذار المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح حزب الله، فإن تحالفاته وتفاهماته لم تكن كذلك.
تقلّب الحريري، ومعه تيار المستقبل، في علاقته بالنظام السوري. اتهمه لسنوات باغتيال والده، قبل أن يطوي تلك الصفحة وينزل في ضيافة الرئيس السوري بشار الأسد أواخر عام 2009.
لكن مع اندلاع الأزمة السورية، هاجم الحريري النظام في دمشق، ودعا إلى إسقاطه.
وبعد سقوط أولى حكوماته عام 2011، إثر انسحاب المعارضة منها بعد فشل مبادرة سعودية سورية لتطويق الأزمة التي نجمت على خلفية صدور قرار ظني من المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري باتهام عناصر من حزب الله، غادر الحريري لبنان لثلاث سنوات، متنقلا بين فرنسا والسعودية.
خلال تلك الفترة، أطل الحريري على جماهيره في المناسبات السياسية عبر الفيديو، وظهر في عدة مقابلات تلفزيونية. ورغم الغياب، بقي ينظر إليه على أنه الزعيم الأقوى للسنة.
عاد الحريري إلى لبنان عام 2014، في ظل شغور رئاسي بدأ مع انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان ولم ينته إلا بعد أكثر من عامين شهدا مزيدا من الخلط في بعض أوراق التحالفات الداخلية.
ومع دعم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لترشيح ميشال عون، زعيم التيار الوطني الحر، لم يجد الحريري، الذي كان يدعم ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، في نهاية المطاف بدا من دعم ترشيح عون حليف حزب الله للرئاسة.
كان عون مناوئا للحريري، وانتقد مرارا السياسات الاقتصادية التي اتبعها أبيه ودافع عنها هو. لكن تسوية توصل إليها مع الحريري ساهمت في إيصاله إلى كرسي الرئاسة في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، بعد حصوله على أصوات أغلبية أعضاء البرلمان.
هوة مع الرياض
جاءت التسوية الرئاسية كمخرج للجمود السياسي اللبناني. لكنها في الوقت عينه، زادت التوتر بين الحريري والسعودية، بحسب المحلل السياسي ربيع دندشلي.
وتجلى اهتزاز العلاقة بوضوح في احتجاز الحريري لمدة أسبوعين خلال زيارته الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ليتلو بيان استقالة من رئاسة حكومته الثانية، بدا أنه أجبر عليها، وقد تراجع عنها بمجرد عودته إلى لبنان.
لكن دندشلي يشير إلى أن بداية تأزم العلاقة مع السعودية سبقت تسوية الحريري مع عون المدعوم من حزب الله. إذ يقول إن العلاقة بدأت بالتدهور مع تسريب تسجيل صوتي نشرته قناة محلية عام 2011، يشبّه فيه سعد الحريري ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف، بنائب وزير الدفاع السوري السابق آصف شوكت، الذي يصفه بـ “السفاح”، خلال جلسة مع لجمي محمد علي، كبير محققي المحكمة الدولية في قضية اغتيال والده.
“زاد من ذلك إخفاق المنظومة المدعومة خليجيا في لبنان من تلبية تطلعات دوله، في ظل النقد الذي طال المملكة بسبب دورها في المنطقة من قبل حزب الله”، وفق دندشلي.
لم يثر مضي الحريري في التسوية مع عون حنق السعودية فقط، بل دفع بعض كوادر تيار المستقبل إلى رفض انتخابه.
وفي السياق، يرى دندشلي أن “تناغم الحريري مع عون، قسم تيار المستقبل إلى توجهين: الأول ينحو صوب السعودية، ويرغب بتشكيل جبهة بوجه حزب الله وإيران، والثاني مكون من رجال أعمال لا مانع لديهم من المضي في تسوية مع الفريق الآخر”.
وفي الانتخابات النيابية عام 2018، خسر الحريري 13 نائبا، ليتقلص عدد نواب كتلته إلى 20، في مؤشر إلى تراجع شعبيته.
مع ذلك، شكّل الحريري حكومته الثالثة بعد الانتخابات، مطلع العام 2019، والتي لم تعش طويلا، لينتهي بها المطاف مستقيلة على ضوء المظاهرات التي اندلعت في الشارع في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
واتُهم الحريري بعد تكليفه تشكيل حكومة في أكتوبر/تشرين أول 2020، أي بعد عام على استقالته من رئاسة الوزراء، بانتظار الموافقة السعودية على التأليف، الذي لم يحصل، فاعتذر عن التشكيل في يوليو/تموز 2021.
وتقول الدكتورة مهى يحيَ، مديرة مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط، إنه إضافة إلى “الأزمة الشخصية للسعودية مع الحريري، والموقف الخليجي السلبي من حزب الله، كان هناك عرقلة داخلية لتشكيل حكومة برئاسته”.
اختلف الحريري مع عون حول صلاحية كل منهما في في تشكيل الحكومة، وحول أسماء الوزراء. كانت محاولة التشكيل تسير مع المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد التوافق مع الأطراف اللبنانية، إثر انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، ونصت على تشكيل حكومة مهمة من اختصاصيين لإجراء إصلاحات، بعيدا عن الخلافات السياسية.
ابتعد الحريري عن منصب رئيس الوزراء صيف عام 2021، وخرج بعد ستة أشهر من ذلك ليعلن قراره ترك الحياة السياسية كلها.
من يرث الحريري؟
ما أن مرت أربعة أيام على تعليق الحريري عمله السياسي، حتى أعلن شقيقه الأكبر بهاء الحريري، 55 عاما، دخوله المعترك السياسي لاستكمال “مسيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري”.
لكن ردود الفعل على هذا الإعلان توحي بأن الطريق لن تكون بالضرورة ممهدة لبهاء. فعلى سبيل المثال، خرج النائب عن تيار المستقبل نهاد المشنوق معلقا على الإعلان بالقول إن “الارتكاز إلى بطاقة الهويّة لا يعني أنّه (بهاء الحريري) قادر على قيادة المشروع، ويحمل الخبرة في معرفة مسيرة الوالد ومتابعتها”.
جاء ذلك بينما كانت تقارير قد أشارت إلى رفض العائلة تسليم بهاء دفة القيادة، بعدما تم طرح اسمه كخليفة محتمل لأخيه الأصغر أثناء احتجاز الأخير في السعودية عام 2017.
ويتفق دندشلي مع هذه الرؤية، إذ يقول لبي بي سي إن “بهاء الحريري لا يملك حظوظا كبيرة في وراثة أخيه سعد”، مشيرا إلى أن “هناك حملة عليه داخل العائلة وداخل تيار المستقبل”.
بينما لا تدعمه دار الفتوى حتى الآن، التي تسعى إلى “تأطير السباق على وراثة الحريري، لتجمع القوى السنية تحت عباءتها”، وفق الدكتورة مهى يحيَ.
ويقول دندشلي “لا يوجد أيضا بوادر لقبول خليجي له”.
استحقاق انتخابي
جدل البحث عن خليفة لسعد الحريري يأتي في خضم التحضير لانتخابات نيابية حدّدت السلطات اللبنانية منتصف مايو/أيار المقبل موعدا لإجرائها.
وبينما يبدو إجراء الاستحقاق الانتخابي أمرا غير مؤكد بعد، في ظل الخلافات بين القوى السياسية والتخبط الذي تعيشه البلاد، يرى دندشلي أن الواقع الانتخابي “يتغير يوميا”، في إشارة إلى إمكانية ارتفاع حظوظ بهاء الحريري بالفوز بمقاعد أكثر في البرلمان.
ويوضح دندشلي أن “لوائح من حالة تيار المستقبل ستتشكل في كافة المناطق، فبعض مرشحي المستقبل سابقا لديهم ثقل يمكّنهم من الفوز بالمقاعد”، هذا بالإضافة إلى بيوت سياسية، وقيادات مناطقية قادرة على الفوز بمقاعد نيابية من دون الانضواء تحت راية تيار المستقبل.
ويشير في هذا الصدد إلى أن الحريري كان قد تحالف عام 2018 مع مرشحين لديهم قاعدة شعبية لزيادة عدد مقاعده النيابية.
“غير معروف”
في عام 2020، فعّل بهاء الحريري حضوره الإعلامي في لبنان، مع تأسيس منصة “صوت بيروت انترناشونال”، التي جذبت إليها العديد من المقدمين المشهورين.
بالنسبة لكثيرين، يعيد هذا إلى الأذهان خطوة شبيهة أقدم عليها الحريري الأب، الذي قام عام 1993 بتأسيس منبره الإعلامي المتمثل في تلفزيون المستقبل والذي كان لسنوات طويلة من أبرز المحطات المرئية في لبنان.
للمفارقة، أغلق سعد الحريري تلفزيون المستقبل عام 2019، بعد سنوات من التوقف والحسم من رواتب الموظفين، نتيجة لأزمته المالية.
وتقول الدكتورة مهى يحيَ إنه “ليس واضحا إن كان هناك من يمكنه أن يملأ الفراغ الذي سيتركه سعد الحريري في الساحة السنية من اللاعبين الموجودين. الحريري كان له امتداد على صعيد لبنان، لديه شعبية في العديد من المناطق، رغم تراجعها في السنوات الأخيرة”.
أما بهاء الحريري “فليس لديه شعبية كبيرة، حتى وإن امتلك الأموال التي تمكنه من تحسين حظوظه، فهو ليس معروفا لدى الناس، سيما أن سلوكه لم يكن مقنعا لدى احتجاز أخيه في السعودية”.
لكن يحيَ لا تنكر أن لبهاء “قدرة على الخرق في الساحة السنية، سيما في ظل الحالة الاقتصادية المتدنية، فهو لديه حضور على الأرض وماكينة انتخابية”، وإن كانت تؤكد نه “من الصعب الحكم على حجمه”، في الوقت الراهن.
تركيبة بلا أحد أعمدتها
لا يقتصر جدل البحث عن خليفة للحريري على مستقبل عائلته السياسية فحسب. إذ أنه في ظل النظام السياسي القائم في لبنان والمعتمد على المحاصصة الطائفية، يتوزع الثقل السياسي في البلاد على زعماء الطوائف السياسية، الذين تشكل رئاستهم للأحزاب مدخلا لزعامتهم الطائفية والعكس صحيح.
لكل من هؤلاء الزعماء نفوذ في الدولة وقاعدة جماهيرية خاضعة للتمدد والتقلص أحيانا.
من هنا فإن انسحاب الحريري من المشهد، أثار تساؤلات حول مستقبل الدور السني في الانتخابات النيابية من دونه.
تراجعت الشكوك بعدما أعلن مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، ورئيسا الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، والسابق فؤاد السنيورة أن لا مقاطعة سنية للانتخابات.
ولم يتضح بعد من سيترشح من كتلة المستقبل إلى الانتخابات المقبلة، إلا أن أصوات السنة لا تذهب فقط إلى “التيار الأزرق”، بل أيضا إلى نواب آخرين يمثلون حيثية في مناطقهم وبيوتا سياسية، كفيصل كرامي في طرابلس، وفؤاد مخزومي في بيروت، وغيرهم.
هزة للنخبة الحاكمة
ويبقى السؤال الأبرز متعلقا بما إذا كان غياب الحريري منفذا لإضعاف قبضة النخبة الحاكمة في لبنان.
فبالنسبة للنخبة السياسية، اعتزال أحد أركانها، يفتح الكوة في جدار تركيبتها، ويترك فراغا يستوجب ملأه.
وترى يحيَ أنه ورغم تفضيل المنظومة الحاكمة لعدم انسحاب الحريري، لأنه “يشكل هزة لها، إلا أنها تحاول التعامل مع مفاعيله”. تقول إن هذه النخبة تحاول الآن “تناتش الساحة السنية عبر التحالفات الانتخابية”.
لكنها لا تستبعد في الوقت ذاته أن يفسح انسحاب الحريري مجالا لدخول لاعبين جدد إلى الخارطة السياسية اللبنانية، فبرأيها، “يمكن أن يشكل انسحاب الحريري خللا على صعيد التمثيل الطائفي والتوازنات، أو إمكانية ظهور أشكال جديدة من التنظيمات السياسية أو المسلحة لملئ الفراغ”.
يبقى أفول مسيرة زعيم لبناني عبر الانسحاب الطوعي من المشهد حدثا استثنائيا. لكن الحريري غاب سابقا عن الساحة لعدة سنوات قبل أن يعود إلى الواجهة رئيسا للحكومة. ورغم أن الأسئلة الأهم هي حول خلافة الحريري، يصح السؤال حول ما إذا كان سيعود ليتبوأ موقعه بين صفوف النخبة السياسية مرة أخرى يوما ما.
[ad_2]
Source link