تعرف على القرية التي يتكلم سكانها لغة خاصة في سلطنة عُمان
[ad_1]
- دانيل ستيبالز
- بي بي سي
تفصل صحراء صخرية تمتد على مسافة تصل إلى مئة كيلومتر، قرية كمزار العُمانية، عن باقي أنحاء السلطنة. وتنعم هذه القرية بـ “عزلة رائعة”، على نحو أدى إلى أن تصبح لها لغتها وثقافتها الخاصة.
بين المضايق ذات التضاريس الحادة الواقعة في شمالي سلطنة عُمان، تقبع قرية صغيرة تحمل اسم كمزار، تبدو وكأنها مختبئة في خليج وادع، يفصل بين الجبال ومياه المحيط. ورغم أن ذلك المكان، يقع على أقصى الحدود الشمالية للسلطنة لا خارج هذا البلد، فإن القرية تتسم بطابع مميز عن باقي أنحاء عُمان. وقد أدت “العزلة الرائعة”، التي تنعم بها هذه القرية، إلى أن تصبح لها لغتها وثقافتها الخاصة بها.
فالسبيل الوحيد لبلوغها يتمثل في ركوب البحر؛ إما عبر رحلة بقارب سريع تستمر لنحو ساعة، أو على متن سفينة شراعية تقليدية تُعرف بـ “داو”، تنطلق من “خصب”، وهي أقرب مدينة لكمزار. وستستغرق الرحلة في هذه الحالة ساعتيْن ونصف الساعة.
وتدين كمزار للجغرافيا، في ما يتعلق بالكثير من السمات، التي تُشَكِل ملامح شخصيتها الفريدة من نوعها. فهي تقع في شبه جزيرة مسندم، التي تشكل جيبا ساحليا صغيرا، تفصل بينه وبين باقي أنحاء عُمان، صحراء صخرية تمتد لنحو مئة كيلومتر، وتقع في دولة الإمارات.
ويُطلق على مسندم لقب “نرويج الجزيرة العربية”، وذلك في ضوء ملامح ساحلها ذات الطابع البري بشكل دراماتيكي، والذي تتخلله أخوار شبيهة بالمضايق البحرية. لكن الفارق يتمثل في أن هذه الخلجان الصخرية الصغيرة، لم تتشكل جراء الانزلاقات المستمرة للأنهار الجليدية، كما حدث لنظيرتها الإسكندنافية، وإنما بفعل تصادم الصفائح التكتونية، التي تؤدي إلى تصدع القشرة الأرضية من أسفلها، وكأنها تحركات مخلوقات مرعبة، تتصارع لكي تخرج من قلب بيضة.
ويقع مضيق هرمز ومن ثم إيران، خلف خليج كمزار. ولنحو 700 عام، تشرّب القرويون مزيجا من التأثيرات القادمة من هذا المضيق، الذي طالما شكَلَّ بوتقة للأحداث الدرامية للغاية، المتعلقة بالتجارة الخارجية، وكذلك بالجوانب الثقافية، والقضايا الجيوسياسية أيضا.
ويتجسد ذلك على نحو لافت للنظر بشدة، في اللغة السائدة في القرية، والتي تختلف عن أي لغة أخرى سواها. وتقول مكية الكمزاري، وهي إحدى القاطنات في القرية، إن تلك اللغة تمثل مزيجا من مفردات عتيقة عربية وفارسية، بجانب كلمات من لغات أخرى، مثل الأكادية والسريانية والتركية والإنجليزية والهندية. وتشير هذه السيدة، التي تدرس لغة كمزار وثقافتها، إلى أن اللغة المُستخدمة في القرية، لا توجد في أي مكان آخر في العالم.
وتمثل اللغة الكمزارية، مصدرا قويا للشعور بالفخر في هذه المنطقة. وقال لي معاذ الكمزاري، وهو ربان إحدى سفن الـ “داو” التي تقوم برحلات في المنطقة المحيطة بمسندم، إن “الكمزارية هي لغتنا الأم. وعندما نكون معا لا نتحدث بغيرها، رغم أننا جميعا نتقن العربية أيضا”.
وقد تبدو الكثير من مفردات اللغة الكمزارية مألوفة للناطقين بالإنجليزية. وفي الوقت نفسه، تُنطق الكثير من المفردات التي أخذتها الكمزارية من العربية والفارسية، على نحو أقرب لما كانت عليه كلمات هاتيْن اللغتيْن في العصور الوسطى، لا العصر الحديث. ومنذ أمد بعيد، أدى مزيج التأثيرات المختلفة التي تحملها اللغة الكمزارية في طياتها، فضلا عن قدرتها على البقاء والصمود في بيئة تغلب عليها اللغة العربية بشكل هائل، إلى إثارة اهتمام اللغويين من أمثال كريستينا فان دير فال أنونبي وإريك أنونبي، اللذيْن عاشا وعملا في كمزار لمدة عام.
ويقول إريك إن تلك القرية العُمانية، تقبع منذ قرون في قلب منظومة إقليمية نابضة بالحياة تاريخيا واجتماعيا، ما يجعل من قبيل الخطأ أن نفكر فيها، باعتبارها مكانا معزولا، حتى وإن كان لا يمكن الوصول إليها سوى عبر البحر.
ويوضح الرجل بالقول: “كمزار كانت مهمة للغاية من الوجهة التاريخية، فقد شكلت إحدى البقاع القليلة، التي يوجد بين جنباتها بئر يحتوي على مياه عذبة بكميات كبيرة، في المنطقة الواقعة بين مراكز تجارية مثل البصرة ومسقط وزنزبار والهند وما ورائها”.
وقد حظي إريك أنونبي وكريستينا أنونبي بالترحاب من جانب سكان كمزار، ممن أشعروهما بأنهما باتا جزءا من المجتمع المحلي هناك. وقد شاركا أهل القرية في أنشطتهم اليومية، جنبا إلى جنب، مع إجرائهما الدراسات اللغوية الخاصة بهما. وقد سبق أن روت كريستينا كيف كانت تقضي ساعات الصباح من كل يوم، في تبادل الحديث مع النساء الكمزاريات، وهن يحتسين معا أقداح القهوة، المُضاف إليها حبوب الهيل. أما فترة ما بعد الظهر، فكانت تشهد انخراط كريستينا مع النساء الأخريات، في تجهيز التمور والأسماك، أو نسج سعف النخيل.
وتعتقد هذه الخبيرة اللغوية، أن هذه الحفاوة نابعة من الموقع الفريد لكمزار، قائلة : “أعتقد أنهم مضيافون للغاية، لأنهم كانوا على مر التاريخ، يستقبلون ويوفرون الرعاية بانتظام للبحارة الناجين من السفن التي تتحطم في مضيق هرمز، ويخفون كذلك السفن الفارة من القراصنة في الخلجان البحرية الصغيرة الموجودة في المنطقة، أو يساعدون السفن المارة على إعادة التزود بالمياه العذبة، بفضل مياه البئر الموجود في القرية”.
ويعتمد سكان كمزار على صيد الأسماك التي تعيش في الأخوار المحيطة بهم، في كسب قوت يومهم على مدار تسعة شهور من العام. أما في شهور الصيف، والتي تهجر الأسماك خلالها المياه بسبب شدة الحرارة، فينتقل السكان إلى خصب، للمشاركة في عمليات حصاد تمور النخيل.
ونظرا لأن المياه التي تطل عليها القرية، هي التي تمنحها حياتها، فإنها هي التي تُشكِل أيضا اللغة التي يتحدث بها السكان، كما قال لي إريك. وأشار الرجل إلى أنه وجد في كمزار “200 اسم مختلف لأنواع من الأسماك. وكثير من هذه الأسماء، تختلف عن تلك التي تُطلق على أنواع الأسماك، في لغات العالم الأخرى”.
ولم يقتصر تأثير الموقع الجغرافي الفريد لكمزار، القابعة بين جدران جبلية شاهقة من ثلاث جهات ومياه المحيط من الجهة الرابعة، على تشكيل المفردات اللغوية للسكان فحسب، بل امتد أيضا إلى الطريقة التي ينظر بها هؤلاء، إلى العالم من حولهم. فـ “بدلا من استخدام الجهات الأصلية الأربع: الشمال والجنوب والشرق والغرب (كما نفعل في اللغتين الإنجليزية والعربية مثلا)، يتمحور عالم هؤلاء السكان حول اتجاهين `أعلى` نحو الجبال، و`أسفل` صوب المحيط”.
كما أن الشؤون والتفاصيل المتعلقة بالملاحة البحرية، تلقي بظلالها طيلة الوقت، على التفاعلات الاجتماعية بين سكان كمزار. فهم – مثلا – يحيون بعضهم بعضا، بعبارة تقول ترجمتها “كيف هي الرياح؟”. ويُقال كذلك إن الشغف بالأسماك، يمتد حتى إلى الماعز الموجودة في القرية، تلك التي تلتهم السردين، عندما لا تجد شيئا آخر تقتات عليه على البر.
ولذا، من غير المستغرب أن يهيمن البحر والمحيط بشكل كبير، على التقاليد الشعبية السائدة في كمزار. فعلى سبيل المثال، يُقال إن الأصداف التي تتدلى من مؤخرات سفن الـ “داو”، تدرأ الأرواح الشريرة التي يُعتقد أنه يمكن أن تسحب البحارة إلى حطام السفن القابعة في قاع المحيط. كما تتمحور القصص الشعبية، التي تتردد بين جنبات كمزار حول المحيط والموقع الفريد للقرية.
وتوضح مكية الكمزاري ذلك بالقول: “بعد يوم طويل من الصيد، يحين الوقت لنيل قدر من الترفيه والتسلية، وهو ما يجعل سرد الحكايات والقصص أمرا محببا للغاية في القرية. وتتأثر هذه القصص في الغالب بالبيئة، إذ أنها تدور حول البحر ومخلوقاته. كما أن هناك قصصا أخرى، تتناول البئر الذي جعل كمزار، بقعة مهمة للمسافرين، يتوقفون فيها للتزود بمياه الشرب”.
ويقول إريك: “لدى سكان كمزار، مكتبتهم الشفهية الخاصة من القصص والأغاني الشعبية”. ويشير إلى أن القرية شهدت مؤخرا، وفاة أحد أشهر رواة السير الشعبية فيها، ممن كان يحفظ في ذاكرته مجموعة كاملة من الحكايات الشعبية الغنية بالتفاصيل، مثلها مثل “ألف ليلة وليلة”. لكن هذا الرجل كان يروي هذه الحكايات بأسلوبه الخاص، ويجعل أحداثها تدور في كمزار، بأبطال ذوي طبيعة محلية مئة في المئة.
وتتضمن الثقافة الكمزارية، جوانب أخرى نابضة بالحياة بدورها. فحسبما يقول إريك: “يُعرف سكان كمزار في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية، بحفلات الزفاف المفعمة بالحياة والحيوية، والتي تستمر الواحدة منها أسبوعا، وتحفل طوال الوقت بالرقصات والأغنيات الشعبية والولائم الباذخة، التي يلتئم فيها شمل القرية بأسرها”.
ومع أن كمزار ربما تكون بعيدة عن أي مكان آخر، فلا يمكن اعتبارها بقعة منعزلة. فالقرية تنعم بالاكتفاء الذاتي، إذ أن فيها مدرسة ومستشفى ومحطة لتحلية المياه. ويبدو الشعور بالفخر بالانتماء إلى هذا المكان، متقدا بشدة في نفوس سكانه. وما من مثال على ذلك أفضل ربما، من حالة فريق كمزار لكرة القدم، الذي تغلب بشكل لافت على فرق منافسة تفوقه من حيث الموارد البشرية والمادية، ليُتوج بطلا لمسابقة محلية في السلطنة عام 2016. ويُعقّب معاذ على ذلك بالقول: “لقد كان هذا إنجازا عظيما لنادينا، ويشعر كل الكمزاريين بالفخر بهذه اللحظة. فقد شجع ذلك بالتأكيد شعورنا بالهوية المحلية”.
وبالرغم من ذلك كله، يبدو أن الغموض يكتنف مستقبل كمزار بشدة. فالقرية – كما يقول معاذ – تتغير، ويكرس الجيل الجديد من السكان فيها “الكثير للغاية من الوقت والجهد للتعليم، وكثيرا ما ينتقلون للحياة في مسقط، للدراسة هناك”. وقد ولّت تلك الأيام، التي كانت فيها الأجيال السابقة من سكان القرية، تتحدث بـ “الكمزارية” وحدها، ولا تشجع تعلم العربية. وقد بات شباب كمزار، يسعون في أغلب الأحيان بعد تخرجهم، للحصول على فرص عمل في باقي أنحاء عُمان، أو حتى في الإمارات.
ويقول إريك إن عمليات الصيد التجاري، أدت إلى استنفاد مخزون الأسماك، ما قاد إلى اضطراب سبل عيش من يعملون في هذه المهنة من سكان كمزار. ويضيف بالقول: “أدى نظام التعليم ذو المناهج الموحدة (القائم في مختلف أنحاء عُمان) وشيوع استخدام التليفزيون، والآن الإنترنت، إلى أن تجد اللغة العربية طريقها إلى الحياة اليومية في كمزار، على مدار ساعات الليل والنهار. شهدت السنوات العشر الماضية، تغيرا كبيرا، إذ أصبحت غالبية الأًسر تُعلّم أبناءها العربية كلغة أولى. ورغم أن الأطفال لا يزالون قادرين على فهم الكمزارية، فإنهم لا يتحدثون بها جيدا، وبات تناقل اللغة بين الأجيال يتلاشى بسرعة”.
ومع ذلك، لا تزال هناك أسباب للتفاؤل. إذ يعكف خبراء من القرية وأشخاص متحمسون للغتها، على التعاون مع باحثين مثل إريك وكريستينا، لاستحداث نظام كتابة باللغة الكمزارية، ومساعدة أهل هذه المنطقة على الحفاظ على لغتهم وثقافتهم.
ويقول إريك: “لحسن الحظ، هناك مجموعة متفانية من الكمزاريين، لا يريدون أن يفقدوا كل تاريخهم ومعارفهم الثقافية، وقدرتهم على البقاء والنجاح رغم كل الصعاب البيئية. ولا يرغب هؤلاء أيضا في فقدان هويتهم الكمزارية الفريدة، التي تُبقيها اللغة على قيد الحياة. ومن شأن حفاظهم على الكمزارية، إثراؤهم للتراث الثقافي للعالم بأسره، نظرا لعدم وجود أي لغة أخرى (على وجه الأرض) مماثلة للكمزارية”.
وبرغم أن شباب كمزار يغادرونها للالتحاق بالجامعات المختلفة في السلطنة، فإن ارتفاع معدل المواليد في القرية، يعني أنه من غير المحتمل أن تعاني هذه البقعة، من نقص في العدد الكافي من الشبان، لحماية لغتها من الاندثار. فوفقا لمعاذ، يتزايد الآن “عدد سكان القرية، ويتم تشييد منازل جديدة في الجبال التي تُطل عليها”.
وبالنسبة لسكان كمزار، لا تقل أهمية شعورهم بالفخر بانتمائهم لهذا المكان، عن الأهمية التي يولونها لمستقبلهم. ويقول معاذ في هذا الشأن: “دائما نقول كـ `كمزاريين`: `الكمزاري ما في خوف` (الكمزاريون لا يخافون أبدا)، لأن عرفنا هو القتال، سواء ضد عوامل الطبيعة، أو في مواجهة الأعداء الآخرين. كلنا فخورون بأننا من كمزار. وتقع على عاتقنا مسؤولية أن نكبر جنبا إلى جنب في ظل التحديات المعاصرة، لكننا لن نهجر ثقافتنا ولغتنا”.
[ad_2]
Source link