أخبار عاجلة

أم هارون صدمة إيجابية للدراما | جريدة الأنباء


محمد بسام الحسيني

لا شك ان «سيدة الشاشة الخليجية» حياة الفهد كانت تدرك وهي تدرس سيناريو «أم هارون» الذي تعرضه «أم بي سي» حصريا أنها تدخل مساحة جدلية وحرجة لتواجه اتهامها بالتطبيع كونها تتطرق إلى قضية قومية بهذه الحساسية.

لكنها ضربت أكثر من عصفور بحجر، بانتقائها موضوعا مثيرا يُخرج الأعمال الحقبوية من مساحتها التقليدية الى أرض جديدة ومثيرة هي عالم الطائفة اليهودية في الخليج في أدقّ مرحلة بتاريخ الشرق الاوسط والمتمثلة بإعلان قيام دولة الاحتلال عام 1948، وفي الوقت نفسه استعادت «أم سوزان» بأفضل ما يمكن بريقا كان قد خَفَتَ نوعاً ما خلال السنوات الماضية من خلال سلسلة اختيارات غير موفقة او اعمال لم تُنجز كما يجب.. فحققت صدمة إيجابية منتظرة منها لجمهورها العريض.

المسلسل مثير من مشهده الافتتاحي الطويل بتلك العبارات التي قدمتها حياة الفهد بصوتها المعبر.. والذي نقله المخرج بأسلوب اللقطة الواحدة المتصلة في محاكاة لأفلام عالمية صُوِّرت حديثا.

والعمل هو الأول من نوعه بين المسلسلات الخليجية الذي نرى فيه هذا الائتلاف المجتمعي بين الرموز الدينية: المسجد والكنيسة والمجمع (الهلال والصليب ونجمة داود).. حيث يتجاور الملا والكاهن والحاخام، ويتزاور الناس ويتعايشون ويتشاركون الافراح والأتراح، ومعظم ابنائهم قد ولدوا على يد الداية «أم هارون» التي تعرف كل شيء عن كل بيت وكل شخص.

يبدو الأمر «خشناً» على أسماع شريحة واسعة من الجمهور نتيجة الربط على مدى عقود طويلة بين اليهودية والصهيونية، وكأنهما وجهان لعملة واحدة رغم الفوارق بينهما، وهو ما يحاول المسلسل، كما يبدو في حلقاته الاولى، ان يبيّنه، فضلا عن محاولة إظهار الحب كمفهوم إنساني يتجاوز كل حدود.. ومع ذلك، نرى «ام هارون» اليهودية التي تزوجت مسلما تعارض تكرار التجربة بين محمد (محمد العلوي) ابن الملا وراحيل (روان مهدي) ابنة الحاخام اللذين ولدا على يديها، والامر نفسه بالنسبة لجبر المسلم (فؤاد علي) ومريم (فاطمة الصفي) المسيحية، والمفاجأة أن بومحمد يقبل طلب يد ابنة الحاخام لابنه لكن الأخير يرفض ويعنّف ابنته.

صورة التعايش هذه التي تقف منغصاتها بين الديانات الثلاث عند حدود المشاكل العادية بين أبناء المجتمع الواحد تأخذ منحنى خطيرا مع اعلان قيام دولة اسرائيل، فتتوتر الاجواء وسط تردد بعض اليهود بين الحلم بـ «الأرض الموعودة» والبقاء في الارض التي ولدوا فيها ولم يعرفوا غيرها وحماس البعض الآخر ضمناً للمشروع… لا تأخذ الامور الا وقتا قصيرا حتى يُفتح صندوق الشرور بدءا بجريمة غامضة استهدفت رجلا يهوديا تتجه فيها أصابع الاتهام الى الملا بومحمد دون مبرر رغم ان الكاهن يرجح ان تكون الجريمة فتنة وراءها البريطانيون او اليهود المتعصبون انفسهم لتسريع خيار الهجرة، حتى امور الحياة الصغيرة كاستبدال الحليب بمشروب كحولي عن طريق الخطأ في سوق اليهود تتحول الى مبرر للتنابز. تندلع التظاهرات المنددة بإسرائيل والصهاينة ومجازرهم مثل دير ياسين، ويبدأ جمع التبرعات لفلسطين، وتتسرب الصحف العبرية التحريضية الى الشباب اليهود.. الفتنة تطل برأسها، والسياسة تفسد الجيرة وتلوث نقاء المجتمع.

لا تخلو الحلقات الاولى من تلميحات شكسبيرية نمطية تعيدنا الى «تاجر البندقية» وغيرها من الأعمال بالإشارة الى بخل الحاخام او إقدام صهره عزرا (نواف النجم) على بيع لحم الذبائح الميتة للمسلمين في عرس جبر. وتسير وتيرة الأحداث بإيقاع سريع لا يترك اي مجال للملل، وبالتزامن مع التطورات السياسية تتوازى الموضوعات الانسانية بشكل متناغم، تلعب كاريزما «الكاست» دورا مهما فيه.

التمثيل

تمثيلياً، تؤدي الفنانة حياة الفهد الدور بحب واضح للشخصية وتلقائية كاملة والمسلسل حتماً عمل من أعمالها الكبيرة والمثيرة التي سنذكرها طويلاً.

وقد وُفِّقت «أم سوزان» ومعها فريق المسلسل باختيار «الكاست»: عبدالمحسن النمر يتعملق بدور الحاخام داود ويتقمص الشخصية شكلا واحساسا واداء، فؤاد علي يقدم افضل ادوار مسيرته حتى الآن ويواصل التطور، محمد العلوي يتابع تألقه ونجوميته، ونواف النجم ناجح في شخصية عزرا.

على الصعيد النسائي، تنافس رباعي داخلي في المسلسل بين فاطمة الصفي التي تلعب دور «مريم» الشابة المسيحية الملحة على ملاحقة جبر (فؤاد علي)، ورفقة (فرح الصراف) زوجة عزرا (نواف النجم)، وروان مهدي التي تؤدي بجرأة دور راحيل في اقترابها من محمد لحدود الملامسة، ثم مفاجأة المسلسل آلاء الهندي بدور زنوبة الشابة التي كبرت مع عقدة موت والدتها احتراقا أمام عينيها وهي طفلة، ما كان له الاثر النفسي عليها وعلى تصرفاتها التي تتسم بالبلاهة والتطفل، مسببة المشاكل لمن حولها.

نصٌّ دَسِم

على مستوى النص، نحن أمام قصة جريئة وجميلة، وان كنا لا نعلم مدى انطباقها بكل تفاصيلها على الواقع التاريخي في مجال تندر فيه الدراسات والمراجع، الا انه ومن الناحية الدرامية تشير الحلقات الست الاولى بوضوح الى اننا نتابع عملا مهما ودسما بمادته. وتجعل احداث السيناريو المعد جيــدا لكل مشهد رونقا، فتكاد لا تجد مشهدا واحدا يطغى عليه الملل او يشذ عن الإيقاع السريع.

بعض الحوارات، لاسيما السياسية، تبدو ثقيلة او معاصرة وتنقصها احيانا الطبيعية، لكن بالمجمل وُفِّق المؤلفان علي ومحمد شمس في ان يقدما لنا واحدا من أهم اعمال الموسم وأكثرها جاذبية حتى الآن.

لمسات إخراجية

ولم يكن من الممكن ان يحظى مسلسل «أم هارون» بهذه الانطلاقة القوية لولا تمتعه أيضا بإخراج حيوي، المخرج الشاب محمد العدل خالف التوقعات ـ كونه مستجدا على الدراما الخليجية ـ بنجاحه الكبير وأضاف لمسات جديدة على هذا النسق من الاعمال التاريخية مستغلا الاضاءة والظلال والمجاميع الى جانب نجاحه في نقل الاحساس بالجو الديني في ثلاث بيئات مختلفة.

في النهاية، اخترنا بدء سلسلتنا النقدية السنوية التي تقدمها «الأنباء» عن الاعمال الرمضانية مع مسلسل «أم هارون» لأنه عمل اتسم قرار تنفيذه بحرية وشجاعة في نقل تجارب مجموعة من البشر كانوا يعيشون على هذه الارض قبل عقود بحسناتهم وسيئاتهم، وتُحرِّكهم، كما اي فئة اخرى، مشاعرهم الدينية والقومية، فيهم المعتدلون الطيبون كما المتعصبون والاشرار.. والسؤال المهم: عند اي حدود يجب ان تتوقف هذه المشاعر فلا تنفلت لتكون وبالاً ونقمة وفتنة تدمر نسيج المجتمع؟ وهل يمكن للتسامح الديني ان يكون درعا واقية في المستقبل لمن يتعلم من دروس التاريخ؟

في طريقه للاجابة عن هذه الاسئلة، يحقق مسلسل «أم هارون» صورة إيجابية على مستوى التغيير المطلوب في مواضيع الدراما الخليجية حتى التاريخية منها ويتحرى الحق والجمال.. وهما غاية الفن.





Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى