زيارة إلى البلدة البريطانية ذات “الجنسية الثالثة”
[ad_1]
إذا كنت تهوى الألغاز الجغرافية؛ فإليك أحدها: ما هي البلدة التي تحتوي على معالم متنوعة؛ مثل نهر تويد العامر بأسماك السلمون، وموقع سكوتسغيت، الذي يشكل جزءا من جدران دفاعية أثرية لا تزال قائمة حتى الآن ومُصانة بعناية؟ وأي بلدة يمكنك أن تجد فيها متحفا مخصصا لتتبع تاريخ فوج مشاة في الجيش البريطاني، كان يحمل اسم “الاسكتلنديون القاطنون قرب الحدود والخاضعون لإمرة الملك”؟
إن أردت مفتاحا للحل؛ فلتعلم أن فريق كرة القدم الخاص بهذه البلدة ينافس في دوري الدرجة الخامسة الاسكتلندي. فأين نحن إذا؟
السؤال مراوغ ومخادع بطبيعة الحال. فالبلدة المعنية ليست في اسكتلندا، بل في أقصى شمال إنجلترا، إذ نتحدث في واقع الأمر عن “بيريك آبون تويد”، تلك المنطقة الساحلية الآهلة بالسكان، الواقعة على مصب للنهر معقوف الشكل، يقبع على الساحل الرملي لمنطقة نورثمبرلاند. ورغم وقوع هذه البلدة فعليا في إنجلترا، فإن ما تتصف به من سمات محيرة، وما شهدته من أحداث تاريخية غريبة من نوعها، يدفعك كثيرا للتفكير في اسكتلندا؛ الجار الشمالي لإنجلترا، والذي يقع على بعد أربعة كيلومترات فقط من هذه المنطقة.
وتعود أسباب التفكير في اسكتلندا إلى أن “بيريك آبون تويد” كانت – قبل وقت طويل من تحولها إلى بلدة إنجليزية – منطقة اسكتلندية مثلها مثل أدنبرة ودندي وغلاسكو. ففي عشرينيات القرن الثاني عشر، كانت إحدى بلدتين اسكتلنديتين فحسب مُنحتا صلاحيات حكم ذاتي بمرسوم ملكي. وكان ميناء المدينة غاصا بالنشاط والحركة، بوصفه واحدا من أكبر الموانئ وقتذاك في بريطانيا. ولنحو مئتي عام، كان التجار ينقلون منه الصوف والغزل إلى فرنسا ومقاطعة فلاندرز، وما ورائهما.
ويقول مؤرخون إن ميناء هذه البلدة كان يدر وحده إيرادات ضريبية تعادل ربع الإيرادات التي كانت تجنيها السلطات في إنجلترا بأسرها. وقد شكّل ذلك العصر الذهبي والحافل بالثروات أيضا لـ “بيريك آبون تويد”، التي كانت تُعرف باسم “إسكندرية الشمال”، بالنظر إلى أنها شكلت – آنذاك – الركيزة الاقتصادية الرئيسية لاسكتلندا.
لم يكن كل ذلك سوى بداية القصة، كما يقول المؤرخ ديريك شارمان، الذي عكف لثلاثة وثلاثين عاما، على دراسة التاريخ المعقد للبلدة. فمنذ هذه اللحظة في تاريخها غريب الأطوار، تنقلت تلك البلدة الساحلية الصغيرة بشكل محموم 13 مرة – وهو رقم يدير الرؤوس – بين أيدي الإنجليز والاسكتلنديين، في لعبة شد حبل سياسي واقتصادي.
في صبيحة أحد أيام شهر يوليو/ تموز المتقدة بالحرارة، صحبني شارمان في جولة بين أروقة التاريخ النابض بالحياة لهذه البلدة. وروى لي يومها أن تلك البقعة شكلت لقرون طويلة ما يشبه الكرة التي تُمارس بها لعبة تنس الطاولة. فـ”مرة تلو الأخرى، اسْتُوليَ عليها، وخضعت لسيطرة هذا الطرف أو ذاك، ونُهِبَت وخضعت للمقايضة، وحُورِب لأجل إخضاعها. فكلٌ من إنجلترا واسكتلندا أرادت السيطرة على `بيريك`. لكن تبدل ولاءاتها بشكل مستمر أدى إلى أن تكتسب تلك البلدة إحساسها الذي لا يُضارع بالاستقلالية. أما اليوم، فلا يوجد فيها أي شعور لا بالنزعة القومية الإنجليزية أو الاسكتلندية”.
ووفقا لـ”شارمان”، أصبح للبلدة الآن هوية ثالثة واضحة المعالم. وقال لي في هذا الصدد: “الناس هنا يشعرون بصدق، وفي المقام الأول وقبل كل شيء، أنهم ينتمون لـ`بيريك` دون سواها. هل يعني ذلك أن لدينا `جنسية` ثالثة؟ ربما بوسعك أن تراهن على ذلك. أقول لك ذلك وكلي فخر بأنني أنتمي إلى تلك البلدة”.
على أي حال، بمقدورك إذا جُلت في المنطقة ذات الطابع العتيق والتاريخي في وسط “بيريك آبون تويد” أن تدرك بوضوح أن هذه البلدة لا تزال بقعة يتجاذبها اتجاهان متناقضان. وحتى إذا لم تكن تلك المنطقة الآن بلدة مقسمة بالمعنى الحرفي للكلمة، فإنها تظل مكانا يسوده شعور معقد بهويته غير المألوفة، وهو ما يجعلك حين تزورها تشعر أنك لست في بلدة ما، بقدر إحساسك بأنك تتصفح قصاصات، تروي تفاصيل مراحل مختلفة من تاريخ بريطانيا.
فلنبدأ الجولة من قصر سانت أندروز القريب من نافورة الملكة فيكتوريا. هناك ستصادف سوق “والاس غرين” العتيقة، التي ربما تكون قد سُميت باسم المحارب الاسكتلندي الأسطوري ويليام والاس، وربما لا. غير بعيد عن السوق، ستجد أبرز معالم البلدة على الإطلاق، متمثلة في الأسوار والجدران المُحصنة مهيبة الشكل، التي شُيّدت في عهد الملكة إليزابيث الأولى.
وشكّلت إقامة هذه الأسوار والجدران، التي تأخذ شكل رأس سهم، المشروع الأكثر طموحا وتكلفة خلال حقبة تلك الملكة الإنجليزية العنيدة. وتمثل الهدف وراء تشييدها قبل 450 عاما في منع دخول الاسكتلنديين غير المرغوب فيهم. وبوسعك أن ترى، وأنت تقف في هذا الموقع، أراضي تلك البلدة الحدودية، التي كانت ساحة قتال بين الإنجليز والاسكتلنديين لنحو 30 مرة، ودارت فيها معارك بين الجانبين لقرون طويلة. اللافت أنك لن تجد حولك رغم هذا التاريخ الزاخر بالأحداث أكشاكا لبيع الهدايا التذكارية أو البطاقات البريدية، ولا حتى زوارا آخرين سواك.
ويشي ذلك بالابتعاد عن البهرجة والتباهي؛ وهو ما يمثل إحدى السمات التي تميز “بيريك آبون تويد”. فلن تجد مثلا عند هذه الجدران الحصينة سوى لوحة تشير إلى أنها تمثل أحد النماذج المتميزة من نوعها التي لا تزال قائمة ومُصانة جيدا في أوروبا. وخلال جولتك، ستكتشف أن رصيف محطة السكك الحديدية في البلدة أُقيم في مكان كان يشغله سابقا أحد أجزاء قلعة “بيريك”. وخلال النزاعات الحدودية التي استمرت هنا لقرون، لعب ملوك ونبلاء مشاهير من وزن ديفيد الأول ملك اسكتلندا، وإدوارد الأول ملك إنجلترا، والملك ريتشارد قلب الأسد، دورا في تاريخ هذا الحصن. المفارقة أن ذلك لا يعني بالضرورة أن من يهرعون اليوم لاستقلال القطار من هذه المحطة في طريقهم إلى هذا المكان أو ذاك يعرفون تاريخ هذا المكان الحافل بالأحداث.
وخلال سيرنا بمحاذاة نهر تويد، الذي ساعد في عام 1237 على رسم الحدود بين إنجلترا واسكتلندا بشكلها الحالي، قال لي شارمان: “لم تكن الحدود يوما بالأمر المهم بالنسبة لسكان البلدة. لكنهم يشعرون بفخر شديد بما كانت عليه بلدتهم على مر القرون. إنه فخر مُبرر، وليس شعورا مبالغا فيه أو يفتقر للأساس المنطقي. فهويتنا راسخة في أعماقنا، رغم ما يكتنفها من تعقيدات”.
ويمكن القول إن وجود هذا الشعور المتعلق بأن هناك “جنسية” ثالثة معقدة لـ”بيريك آبون تويد”، لا يعود فقط لعوامل مثل شعور أبنائها بالاعتماد على الذات أو وجود فروق دقيقة بينهم وبين أقرانهم الإنجليز في اللهجة والسلوكيات، بل يُعزى أيضا إلى عزلة البلدة، وشعورها بالقلق إزاء التفاوت المالي المتنامي بينها وبين باقي أنحاء شمال شرقي إنجلترا. فرغم أنها ليست بعيدة جغرافيا عن مدينة نيوكاسل، الواقعة على بعد يزيد قليلا على مئة كيلومتر إلى الجنوب منها، فإنها تفتقر إلى أي صناعات مستدامة، كما أن سكانها يشعرون بأنهم معزولون اقتصاديا ونفسيا، ومن أوجه أخرى أيضا، عن المناطق المحيطة بهم، كما لو كانوا يعيشون – فعليا – في جزيرة.
ومن بين السمات الغريبة الأخرى لـ”بيريك آبون تويد”، أن البرلمان في بريطانيا لم يصدر قرارا رسميا باعتبارها جزءا من هذا البلد، سوى في عام 1746، أي بعد نحو 40 عاما من الإعلان الرسمي عام 1707 عن إقامة اتحاد بين إنجلترا واسكتلندا. المعروف أن البلدة كانت قد سقطت في يد الإنجليز للمرة الأخيرة في عام 1482، وظلت تخضع منذ ذلك الوقت لحكم ملوك إنجلترا، دون أن تصبح رسميا جزءا منها، إلى أن انضمت لها أخيرا بشكل رسمي، بعدما صدر قانون ويلز وبيريك بعد ذلك بثلاثة قرون تقريبا. فكيف يفسر المؤرخ شارمان ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال، تلا عليّ شارمان نص ما ورد في وثيقة من الأرشيف، تشير إلى أن “بيريك” كانت في الفترة السابقة على صدور هذا القانون عام 1746 “تابعة لمملكة إنجلترا، لكنها لا تقع فيها”. ويقول إن ذلك شكّل “بالطبع تناقضا في المصطلحات، ونتيجة مباشرة لـ `معاهدة السلام الدائم` التي توصل إليها جيمس الرابع ملك اسكتلندا وهنري السابع ملك إنجلترا عام 1502. وكانت تعني أن `بيريك` أصبحت منطقة شبه مستقلة؛ أو بعبارة أخرى مملكة صغيرة قائمة بذاتها”.
من جهة أخرى، إذا ابتعدت عن القلب العتيق للبلدة وسرت على طول رصيف الميناء القائم فيها، ستجد أن أسماء الأماكن التي تمر بها تعكس كلها حقيقة أنك تزور بقعة هي في الأساس منطقة حدودية. فنهر “تويد”، الذي يعني اسمه “الحدود” باللغة السلتية القديمة، يمر تقريبا على طول الخط الفاصل بين الجانبين الإنجليزي والاسكتلندي، وذلك بينما تنتشر على الضفة الواقعة على الجانب الاسكتلندي منه ملاذات صيادي السلمون، التي يُطلق على الواحد منها اسم “شيّل”، وهي مفردة اسكتلندية قديمة، تعني الكوخ العتيق للصيادين.
ولا يمكنك أن تغفل خلال زيارتك لـ”بيريك آبون تويد” رؤية جسر “رويال بوردر” المهيب، الذي افتتحته الملكة فيكتوريا عام 1850، وشكل آخر خط سكك حديدية تم مده للربط بين العاصمتين الإنجليزية لندن والاسكتلندية أدنبرة. وعبر هذا الطريق، يتسنى لسكان البلدة الوصول إلى لندن الواقعة إلى الجنوب منهم في رحلة تستغرق قرابة أربع ساعات، وأن يقصدوا أدنبرة إلى الشمال الغربي خلال نحو 40 دقيقة. وأدى تشييد هذا الجسر إلى توفير بوابة جديدة إلى اسكتلندا، وبالتبعية إلى قصر بالمورال، الواقع في مقاطعة أبردينشير، والذي تقضي فيه الملكة عطلاتها.
وقد تسنى لي أن أتأمل هذا الجسر الحجري، الذي يشكل أحد المعالم المعمارية البارزة في شمال شرقي إنجلترا خلال جلوسي في مقدمة قارب، سار بي في النهر، وبصحبتي ديفيد تومسون، الذي وُلِدَ ونشأ في “بيريك آبون تويد”، ويمتلك شركة تتولى تنظيم رحلات بالقوارب النهرية.
وبعدما وصف تومسون هذا الجسر بـ “البديع حقا”، مُستخدما في ذلك اللهجة الدارجة في البلدة، أشار إلى مستشفى الولادة العتيق القابع خلفه مباشرة، قائلا: “في وقت ما، كان ينبغي لك أن تولد في هذا المستشفى، لكي تُعد ابنا لهذه البلدة بكل معنى الكلمة”.
وأضاف: ” إذا نشأت هنا، فمن الشائع أن تشعر بأنك في منطقة محرمة”، أي بقعة متنازع عليها من جانب طرفيْن آثرا الإحجام عن احتلالها لأسباب مختلفة. واستطرد تومسون، قائلا: “إذا ذهبنا إلى نيوكاسل (الإنجليزية) نُعد اسكتلنديين، ولكن إذا توجهنا إلى أدنبرة (الاسكتلندية) نُظِرَ إلينا على أننا إنجليز”.
لكن معضلة “بيريك آبون تويد” لا تقتصر على وجود إحساس بأن لها “جنسية” ثالثة من عدمه، فالأمر أكثر تعقيدا من ذلك على ما يبدو. ففي داخل البلدة، توجد العديد من الهويات الأخرى، ذات الملامح المحددة بوضوح. فإذا كنت – مثلا – من أبناء منطقة “تويدمُث” الواقعة على الضفة الجنوبية لمصب النهر في “بيريك آبون تويد”، فسيلقبك من يتعاملون معك من خارج هذه المنطقة بأنك “تويدمُثاوي”، فيما سيؤدي انتماؤك إلى “سبيتال”، تلك المنطقة القابعة في أقصى جنوب البلدة، إلى نعتك بأنك “سبيتالاوي”.
وبالتالي، فمن المنطقي أن يتقبل المرء فكرة وجود “ثلاث هويات، وشعبين وبلدة واحدة” في “بيريك آبون تويد”.
في الختام، بوسعي أن اقتبس من ديفيد تومسون قوله بفخر: “كلنا مختلفون عن بعضنا بعضا بالطبع، لكننا أيضا جزء لا يتجزأ من مجموعة أوسع نطاقا. كلنا أبناء `بيريك` ونفتخر بذلك”.
[ad_2]
Source link