بين الجهل العلمي والأذى النفسي … بقلم الأستاذة ياقوت توبة

إيسايكو: بين الجهل العلمي والأذى النفسي … بقلم الأستاذة ياقوت توبة
حين يتحول التوحد من اضطراب إلى تعبير مُجتمعي خاطئ.
“حاسس حالي توحدت”، “صرت أرتاح بالعزلة”، “مش عارف إذا هذا اللي أنا فيه نضج أو توحد”، أو حتى عبارة socially autistic — كلمات وعبارات نسمعها يوميًا، وأحيانًا نكررها بعفوية، دون إدراك أننا نختزل اضطرابًا نمائيًا عصبيًا حقيقيًا في جملة تُقال للمزاح أو وصف حالة مؤقتة.
في هذا المقال، أوضح المعنى العلمي للتوحد، ونسلّط الضوء على الأثر النفسي والاجتماعي لاستخدامه في غير موضعه، ولماذا يُعتبر ذلك مُسيئًا على أكثر من مستوى .
اضطراب طيف التوحد:
اضطراب نمائي عصبي مُعتمد علميًا
اضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder – ASD) حالة نمائية عصبية تؤثر على:
التواصل الاجتماعي: صعوبة في بدء أو استمرار المحادثات، أو فهم الإشارات غير اللفظية مثل تعابير الوجه ونبرة الصوت ولغة الجسد.
التفاعل الاجتماعي: اختلاف في بناء العلاقات أو المشاركة الاجتماعية، وتفضيل أنماط تفاعل مختلفة عن المُعتاد، مثل الانشغال بمواضيع مُحددة أو أنشطة فردية.
السلوكيات والاهتمامات: وجود أنماط سلوكية مُتكررة، أو وجود روتين صارم، أو ردود فعل غير مُعتادة عند وجود تغيرات.
المُعالجة الحسية: حساسية مفرطة أو منخفضة تجاه الأصوات، الأضواء، الروائح، أو الملمس.
هذه السمات لا تعني أن الشخص “اختار” الانعزال، ولا أن البعد عن الآخرين مريح له بالضرورة، بل هي نتيجة لاختلافات حقيقية في طريقة عمل الدماغ ومعالجة المعلومات.
التوحد ليس شعورًا ولا حالة مزاجية، بل اضطراب مُثبت في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5-TR)، وله معايير دقيقة للتشخيص، وبرامج تدخل سلوكية وتربوية تحتاج وقتًا وجهدًا ودعمًا أسريًا ومجتمعيًا.
حين يتحول المصطلح العلمي إلى أداة استهانة، عندما يستخدم الناس كلمة “توحد” لوصف الانطوائية أو الراحة في العزلة، النضج أو الخجل الاجتماعي، فإنهم يُرسِخون مفاهيم خاطئة، ويقلّلون من قيمة التجربة الحقيقية التي يعيشها الشخص من ذوي اضطراب طيف التوحد وأسرته.
هذا الاستخدام يضر على مستويين:
إهانة الأشخاص من طيف التوحد واختزال معاناتهم في مزحة أو وصفٍ عابِر.
وإضافة عبء نفسي على الأسر التي تخوض يوميًا تحديات التعامل مع التنمر المجتمعي والنظرات الخاطئة تجاههم وتجاه طفلهم.
أما عن الطفل الذي يسمع كلمة “توحد” كمصطلح سلبي قد يشعر بالخجل من نفسه إذا كان لديه اضطراب بالفعل، أو قد يتعرض للتنمر.
والأم التي تُناضِل لتطوير مهارات طفلها، قد تشعر بالخذلان حين ترى معاناته تختزل في كلمة عابرة.
ومن هنا يأتي دورنا في تصحيح المفهوم والنهوض بالوعي
فالمُشكلة لا تكمُنُ فقط في الاستخدام العفوي، بل في الصورة النمطية الخاطئة التي تربط التوحد بالانعزال أو غياب المشاعر .
ففي الحقيقة، هذا الاضطراب واسع؛ قد تكون بعض الحالات شديدة وتحتاج دعمًا مُكثفًا، وأخرى خفيفة بسمات دقيقة، لكن لا يمكن أبدًا اختزاله في “حب العزلة أو نتيجة نضجك وبعدك عن الناس.
المصطلحات العلمية ليست أدوات للتعبير العشوائي، بل تحمل وزنًا ومعنى دقيقًا.
وتصحيح استخدامها مسؤولية جماعية،
فبدلًا من أن نقول:
“حاسس حالي توحدت” → يمكننا أن نقول: “بحس إني محتاج مساحة خاصة”
“أنا متوحد اليوم” → يمكننا أن نقول: “ما عندي طاقة اجتماعية حاليًا”
وفي الخِتام أنوه بأنَّ التوحد ليس شعورًا مؤقتًا… بل اضطراب نمائي عصبي.
ليس حالة مزاجية… بل اضطراب له سمات ومعايير مُحددة
وليس تعبيرًا اجتماعيًا… بل واقع حياة يعيشه ملايين حول العالم.
فكر مرتين قبل أن تستخدم أي كلمة قد تؤذي بِها غيرك، حتى لو لم يكن ذلك قصدك.
الأستاذة ياقوت توبة