أهمية دمج الإسعافات النفسية كأولوية استراتيجية: نحو تعزيز منظومة الطوارئ الوطنية … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

إيسايكو: أهمية دمج الإسعافات النفسية كأولوية استراتيجية: نحو تعزيز منظومة الطوارئ الوطنية … بقلم الدكتورة ابتسام النومس
مقترح توجية أنظار المسؤولين نحو تعزيز منظومة الطوارئ الوطنية في دمج الإسعافات النفسية كأولوية استراتيجية؛
ففي مشهد الأزمات والكوارث، غالبًا ما تُسلَّط الأضواء على الجوانب المادية من إسعافات أولية، وإجلاء، وتأمين احتياجات الغذاء والماء. إلا أن هناك جانبًا بالغ الأهمية لا يُرى بالعين المجردة، وهو الصحة النفسية، التي تتعرض لاهتزازات عميقة عند وقوع الكارثة. وهنا تبرز أهمية “الإسعاف النفسي الأولي” كخط الدفاع الأول لحماية السلامة النفسية للأفراد والمجتمعات.
إن الإسعاف النفسي ليس علاجًا طويل الأمد، بل هو استجابة فورية تهدف إلى دعم الأشخاص المتأثرين نفسيًا، وتقليل التوتر، ومساعدتهم على الشعور بالأمان والطمأنينة. ويؤكد علماء النفس أن التدخل المبكر يُسهم في منع تفاقم المشاعر الصادمة ويقلل من احتمالية تطور اضطرابات نفسية مزمنة مثل اضطراب ما بعد.
حيث تتمثل الخطوة الأولى في الإسعاف النفسي في تقديم الاستماع النشط، و يُسمح للمتضرر بالتعبير عن مشاعره بحرية، دون أحكام أو نصائح فورية. تلي ذلك خطوات لطمأنته، وإعادة شعوره بالسيطرة، عبر تزويده بمعلومات واضحة ومهام بسيطة تُعيد التوازن إلى يومه.
إن هذا النوع من الدعم لا يقتصر على المتخصصين، بل يمكن أن يقدمه الأشخاص المدربون من فرق الطوارئ، أو المعلمون، أو موظفو الرعاية. وهنا تبرز أهمية نشر ثقافة الإسعافات النفسية في المجتمع، وإدراجها ضمن برامج التدريب والتأهيل
وفي العديد من الدول المتقدمة، أصبحت الإسعافات النفسية جزءًا لا يتجزأ من خطة الاستجابة الوطنية للأزمات، سواء في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الحوادث الكبرى. وقد أثبتت التجربة أن الجاهزية النفسية المجتمعية لا تقل أهمية عن الجاهزية اللوجستية. وفي الكويت والمنطقة الخليجية، ومع ازدياد التحديات الإقليمية، تُعد الحاجة ملحّة لاعتماد بروتوكولات وطنية للإسعاف النفسي، وتوفير التدريب للكفاءات المحلية ضمن الرؤية المستقبلية للاستدامة المجتمعية
إن أهمية الإسعافات النفسية لا تكمن فقط في التدخل، بل في الوقاية، عبر بناء وعي مجتمعي قادر على الاستجابة الذكية للأزمات. فتوفير البيئة النفسية الداعمة يُسهم في تعزيز المرونة النفسية للأفراد، ويحول دون الانهيار الجماعي في لحظات الكرب الشديد.
كما أن الاهتمام بالصحة النفسية في خطط الطوارئ يُعد استثمارًا في الأمن الوطني، لأن المجتمعات القادرة على التعافي نفسيًا بسرعة، هي أكثر قدرة على النهوض، والإنتاج، واتخاذ قرارات رشيدة في مواجهة المستقبل.
حيث تواجه الدول المعاصرة موجات متلاحقة من الأزمات والكوارث، تتراوح بين الكوارث الطبيعية والأزمات الصحية والأمنية، مما يستدعي جاهزية شاملة تتعدى الجوانب الطبية واللوجستية. وقد أثبتت التجارب العالمية أن الرعاية النفسية المبكرة تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من منظومة الاستجابة الفعّالة. فهي لا تسهم فقط في تخفيف الآثار المباشرة، بل تُعزز من قدرة المجتمع على التعافي والاستقرار طويل الأمد. من هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحّة إلى دمج الإسعافات النفسية الأولية في السياسات الوطنية لإدارة الطوارئ.
ومن التحديات الراهنة
• محدودية إدراج الإسعافات النفسية ضمن خطط الطوارئ في المؤسسات الحكومية.
• نقص الكوادر المؤهلة لتقديم الدعم النفسي العاجل في مواقع الكوارث.
• انخفاض مستوى الوعي المجتمعي بدور الدعم النفسي في تعزيز الصمود الفردي والجماعي.
• تجاهل التداعيات النفسية طويلة الأمد، والتي قد تؤثر سلبًا على الصحة العامة وسير العمل المؤسساتي.
ومن الآثار المتوقعة حال استمرار الإهمال
• تصاعد معدلات الاضطرابات النفسية، مثل القلق، الصدمة النفسية، واضطرابات ما بعد الكارثة.
• تراجع الأداء الوظيفي للكوادر الميدانية والمتضررين من الكارثة.
• بطء عملية التعافي المجتمعي، وزيادة الهشاشة النفسية داخل المؤسسات التعليمية والأمنية والصحية.
• زيادة الضغط على الخدمات الصحية نتيجة تراكم الحالات النفسية المزمنة غير المعالجة.
لذلك نقدم السياسات المقترحة
1. دمج الإسعافات النفسية الأولية ضمن بروتوكولات الاستجابة للطوارئ في جميع الوزارات المعنية، وفق إطار تشريعي واضح.
2. إعداد برامج تدريب وطني لموظفي الطوارئ، الكوادر الصحية، التربوية، والأمنية، على مفاهيم الدعم النفسي الأولي.
3. إنشاء وحدة وطنية للدعم النفسي أثناء الكوارث تتبع لوزارة الصحة أو تُدار بشراكة مع الهلال الأحمر الكويتي.
4. تضمين مهارات الإسعاف النفسي في المناهج الدراسية بالكليات الصحية، الأمنية، والتربوية، كجزء من الإعداد المهني.
5. إطلاق حملات توعوية عبر وسائل الإعلام والمنصات الرقمية لتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الدعم النفسي أثناء وبعد الأزمات.
ومن التوصيات التنفيذية
• إصدار تعميم وزاري مشترك يُلزم الجهات الحكومية بإدراج الإسعاف النفسي في خطط الطوارئ والتأهيل المؤسسي.
• تخصيص بنود مالية واضحة في ميزانيات الطوارئ الوطنية لدعم برامج التدريب والتأهيل النفسي.
• اعتماد مؤشرات أداء وطنية لقياس جاهزية المؤسسات في مجال الدعم النفسي والاستجابة المجتمعية.
• إقامة شراكات استراتيجية مع المنظمات الدولية ذات الخبرة، مثل منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر، لنقل وتطبيق أفضل الممارسات.
وفي الختام نُذكر إن دمج الإسعافات النفسية ضمن إطار الاستجابة الوطنية للأزمات هو استثمار استراتيجي في الأمن المجتمعي، وليس خيارًا ثانويًا. فبقدر ما نُسرع في تضميد الجراح النفسية، نُسرع في استعادة التوازن والاستقرار المؤسسي والاجتماعي.
الكويت التي تطمح إلى جاهزية شاملة وصمود مستدام، تبدأ من الإنسان… ومن داخله. في نهاية المطاف، قد لا نتمكن من منع الكوارث، لكننا نستطيع أن نُخفف آثارها، ونُعيد للإنسان شعوره بالأمان والانتماء. فكما نُداوي الجراح، يجب أن نُرمم النفوس. فالإسعاف النفسي ليس رفاهية، بل حاجة إنسانية أساسية تُنقذ الأرواح من الانهيار الصامت.
الدكتورة ابتسام النومس