العلاج الجدلي السلوكي.. لملم أجزاء نفسك
إيسايكو: العلاج الجدلي السلوكي.. لملم أجزاء نفسك
وفي الحقيقة.. فإن العلاج الجدلي السلوكي ليس فقط أحد أشكال العلاج النفسي، لكنه أيضاً فلسفة حياتية كاملة، في منتهى العمق ومنتهى الأصالة، والسر في ذلك – كما أراه – يكمن في كلمة (الجدَلي).
(الجدَل) بفتح الدال معناه الحرفي هو المحاورة، بمعنى تبادل الحجج والجدال بين طرفين دفاعاً عن وجهة نظر معينة، والأصول الفلسفية لكلمة (جدَل) ترجع لهيغل وكارل ماركس في رؤيتهما للعالم على أنه مكون من مادة في حالة حركة دائمة، حركة تصاعدية متطورة تموت فيها ظاهرة لتحيا ظاهرة أخرى، وهناك أصول ومعانٍ إسلامية وصوفية كثيرة في فلسفة ابن خلدون لها علاقة بـ (الجدَل)، هذا غير الأصول الإغريقية واليونانية القديمة في فلسفة أفلاطون وغيره.
لكنني -هنا- سأتناول كلمة (الجدَل) بمعنى وترجمة مختلفين تماماً..
أحد أهم الأسماء المشتقة من كلمة (الجدَل) بفتح الدال، هو (الجدْل) بتسكين الدال، وهنا لنا وقفة، وبعض التحليل لتقريب فكرة وهدف المقال.
(الجدْل) بتسكين الدال يعنى التضفير.. نعم.. التضفير.. مثل تضفير شعر البنت الصغيرة.. إذ يتم تقسيم شعرها إلى جزئين (وأحياناً أكثر)، ويوضع من هذا على ذاك، وتدخل هذه في تلك، حتى تتكون ضفيرة جديدة وجميلة.
ما علاقة هذا بالعلاج النفسي؟ وما علاقته بالشخصية الحدية؟
التكوين النفسي لدى مرضى (اضطراب الشخصية الحدية) عبارة عن صندوقين منفصلين عن بعضهما تماماً.. صندوق الخير وصندوق الشر.. صندوق الأبيض وصندوق الأسود.. هؤلاء المرضى لا يرون من أنفسهم ومن الآخرين سوى (إما) هذا (أو) ذاك.. فلان هو أفضل إنسان في الدنيا، لا يخطئ، ولا يعيب.. وفلان الآخر هو أسوأ شخص في التاريخ، مليء بالأخطاء والنواقص.. وتتبدل الأماكن كل يوم، من كان (الأفضل) يصبح (الأسوأ)، ومن كان (الأسوأ) يصير (الأفضل).. اليوم أنا سعيدة وكلي ثقة وجمال وإبهار.. وغداً أنا كئيبة وكارهة لنفسي وأود التخلص منها.. عالم كامل من المتناقضات.. وعلاقات لا ثابت فيها غير (عدم الثبات).
المفاجأة هنا أننا جميعاً – في إحدى فترات نمونا النفسي أثناء الطفولة – كنا كذلك، لكن النضج النفسي الطبيعي يقوم بعدها بتجاوز تلك المرحلة وتخطيها. بيد أن البعض يظل (مثبتاً) عند تلك المرحلة البدائية جداً من النمو النفسي، بدرجات وأشكال مختلفة، قد لا تصل إلى درجة المرض.
كل منا توجد بداخله منطقة مظلمة، كما توجد بداخله منطقة مضيئة.. كلنا يوجد بداخلنا شر، كما يوجد بداخلنا خير.. لا يوجد أي استثناء لقاعدة (فألهمها فجورها وتقواها).. جميع البشر داخلهم الفجور، وداخلهم التقوى.. داخلهم الأبيض، وداخلهم الأسود.. داخلهم الحب، وداخلهم الكره.. لكننا أحياناً نتعامل مع أنفسنا بالقطعة، ونقوم بتقسيمها وتجزيئها بشكل مختزل جداً.. فلا نرى من أنفسنا (وممن حولنا بالطبع) سوى الجانب المظلم فقط، أو الجانب المضيء فقط.. الجانب الخير فقط، أو الجانب الشرير فقط.. الفجور فقط، أو التقوى فقط.. وفي الحقيقة.. قد يكون هذا هو أكبر ظلم يظلمه الواحد فينا لنفسه أو لغيره.
هل اكتشفت أنك تفعل ذلك مع نفسك؟
هل اكتشفتِ أنك ترين الناس بهذا الشكل؟
ربما..
نحن في حاجة حقيقية وعاجلة أن نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين بنفس الطريقة التي تقوم بها البنت الصغيرة بتضفير شعرها و(جدْله)..
نحتاج أن نصدق أن الظلام ليس بالضرورة عكس النور.. أو بديله.. أو منكراً لوجوده.. بل يمكن أن يكون بجانبه.. وبمصاحبته.. وأحد مصادر جماله.. فالنور الحقيقي لا يخرج إلا من أعمق أعماق الظلام.. وأجمل ما في خيوط نور الفجر هو خروجها من نقطة التقاء الليل بالنهار.
نحتاج أن نؤمن أن الشر والخير حينما يكونان جنباً إلى جنب في نفس الشخص ونفس الوقت ونفس المكان، فإن ذلك لا يعني سوى شيء واحد.. هو أننا بشر.. فالخير يستمد أحياناً قوته من بعض حيل الشر.. والشر يستمد أحياناً طاقته من بعض أهداف الخير.. وكثير جداً من الأدب الإنساني اعتمد على شخصيات مليئة بالتناقض (مثل هوديني وزورو وعلي الزيبق وغيرهم).
نحتاج أن نرى أن الفجور والتقوى ليسا دائماً أضداداً.. ولا يلزم أن يكونا طوال الوقت في خناق وخلاف.. على العكس.. قد يتصالحا، ويتكاملا.. ويسند بعضهما بعضا.. ويتضافرا في تكوين ما يطلق عليه (النفس البشرية).
إذا كان هناك هدف واحد للعلاج النفسي بكل أنواعه وأشكاله.. فهو أن يساعدك على أن ترى نفسك كلها بكل ما فيها.. بكل متناقضاتها.. وأن تقبلها.. وتضفر كل محتوياتها في كل واحد صحيح.. هو (أنت).. وأن يساعدك أن ترى الآخرين بكل ما فيهم.. بكل اختلافهم واختلافاتهم.. وأن تقبلهم.. وتضفر كل ما رأيته فيهم ومنهم في صورة بشر يخطئ ويصيب.. وينجح ويفشل.. ويضعف ويقوى.. ويقع ويقوم.
أي علاج نفسي حقيقي هو عملية (جدْل) و(تضفير).. وبدون هذا الجدْل وذلك التضفير، لن يكون هناك نمو، ولا علاج، ولا نضج نفسي.
وحينما ترى ذلك فى نفسك وفي الآخرين.. ستشعر وقتها أن أجزاءك تتقارب من بعضها، وأن بعضك يتصالح مع بعضك، وأنك تلتئم من داخلك.
وقتها.. ستستطيع أن تفرح رغم أنك متألم.. لأن الفرح ليس عكس الألم..
وتسامح بعد أن كنت غاضباً.. لأن كظم الغيظ خطوة للعفو عن الناس..
وتبدأ من جديد، مع نفسك ومع غيرك.. من أي نقطة على الطريق..
ستعرف وقتها أن النجاح ليس عكس الفشل.. بل عكس النجاح والفشل معاً هو عدم المحاولة..
وأن الحب ليس عكس الكره.. بل عكس الحب والكره معاً هو عدم وجود علاقة من الأساس..
وأن الموت ليس عكس الحياة.. بل هناك موت بالحياة، وحياة في بعض الموت..
لا تتعجب حينما تقرأ بعض أدبيات الصوفية عن موقف المشاهدة الذي تتحول فيه كل الأضداد إلى متشابهات.. ولا تتعجب حينما تقرأ أسماء الله الحسنى التي يبدو بعضها – للوهلة الأولى – متعاكساً، لكنها في عمقها وحقيقتها تنجدل وتتلاقي لدى الواحد الأحد.. ولله المثل الأعلى..
يجدر الآن ذكر أن (مارشا لينين) مبتكرة العلاج الجدلي السلوكي نفسها رأت كل ذلك فى نفسها، حينما كانت هي شخصياً مريضة باضطراب الشخصية الحدية.. هل تصدق ذلك؟
فلنبدأ الآن فى أن (نجدْل) أنفسنا..
ونضفرها..
ونلملمها..
في كل أكبر وأعمق وأجمل..
وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر.