المرأة: من يقرر شكل التي تستحق مكانا في عالم الإبداع؟
[ad_1]
“أحبك تعتزّين في خمس عشرة / ونهدك في خير .. وخصرك معتلّ/ وصدرك مملوء بألف هدية/ وثغرك دفاق الينابيع مُبتل”.
كم من فتيات ونساء، ولا أستثني نفسي، وقفن يوما أمام المرآة يسائلنها عن شبه باللواتي يكتب عنهن الشعراء أو تتحدث عنهن الأغاني. عن شبه ولو طفيف بتلك الحسناء ضامرة الخصر، سخية الصدر، فاتنة الثغر، يانعة الشباب، ليتأكدن من انتمائهن إلى (نادي) الأنوثة التي تثير خيال المبدعين، وتستحق الحب؟
المقطع السابق، كما قد لا يخفى على كثير منكم، هو للشاعر نزار قباني من قصيدة “أحبك”. وهي اليوم، لا تزال متداولة بكثرة على المواقع الإلكترونية بوصفها من أجمل قصائد الحب، رغم أنها بالتأكيد ليست أهم ولا أجمل ما كتبه قباني، ولا تلخص إطلاقا إرثه الشعري، لكن انتشارها الكبير دليل على السائد في الصورة النمطية للأنثى المرغوبة.
الأمثلة لا تحصى على المواصفات الجمالية المقولبة، والتي يعتبر شرط الشباب الغض من أولها، وذلك في كافة جوانب الحياة اليومية، كما في الأدب، والسينما والرسم والنحت والغناء والفن بشكل عام، وبالطبع في الإعلانات التجارية ومسابقات الجمال.
وفي السنوات الأخيرة، أضيف شكل جديد قد يكون الأقوى والأوضح، وهو وسائل التواصل الاجتماعي حيث تظهر النجمات والنساء المؤثرات بأشكال مثالية لا تشبهنا، شبه بلاستيكية، لا يشوبها عيب، أما من كانت دون ذلك، فعليها الاكتفاء بدور”السنيدة” الثانوي.
والرسالة هي: هذا ما يجب أن تكون عليه المرأة العصرية الناجحة والمرغوبة.
رسالة لا تعبأ بكيان المرأة، أو شخصيتها، أو جمالها الخاص وعمرها وتجربتها وميزاتها الإنسانية، وإنما المهم أن تفي بمواصفات (السلعة) المرغوبة.
من دون شروط
لكن، ماذا عن امرأة فقط! من دون أي اشتراطات خاصة، في أي عمر كان، وأي شكل كان؟ ألا يليق بها أن تكون ناجحة، وحبيبة ومرغوبة وحاضرة في الإبداع؟
لمقاربة هذه القضية التي أصبحت تضع الصحة الجسدية والنفسية للنساء في مواجهة أخطار حقيقية، والإضاءة على أبعاد أعمق وأكثر ثراء في التعبير عن امرأة لا يمكن حصرها ضمن مواصفات مظهرية، نلتقي الشاعرة رشا عمران والفنان التشكيلي فادي يازجي، ونستعرض تجربتين ابداعيتين لافتتين، حيث عادية الشكل أو حتى عيوبه، جزء حميم من دفء وحقيقية الحضور المتفرد لكل امرأة.
تقول الشاعرة رشا عمران لبي بي سي “هناك عنصرية مرعبة في العالم كله تمارس ضد النساء اللواتي لا تتناسب أشكالهن مع معايير الجمال التي لا يُعرف من وضعها أصلا”.
أما الرسام والنحات فادي يازجي فيؤكد منذ البداية رفضه للمعايير الجمالية المتداولة، والتي هي غالبا غربية، بل على العكس، يعتبرها “منفرة وسطحية”.
ويقول “الصورة النمطية والمستوردة غالبا من قيم جمالية تفرضها الإعلانات أو مسابقات الجمال، تشعرني بإطار ورؤية محدودة لقيم سطحية ونمطية، هناك إسفاف من قبل الإعلام والمسلسلات والأفلام والأعمال التي تخاطب جمهورا ساذجا بمعايير مزدوجة، على تناقض ما بين واقعه ورغباته”.
ويضيف “من قال بأن امرأة عادية من بلادنا، مثل أم فاتح المدرس التي رسمها في لوحاته هي أقل جمالا وأحقية بالرسم من ‘مس ديور’!”.
التنميط وإحساس المرأة بالنقص
تقول رشا “نحن النساء بتنا محاصرات بكل ما يجعلنا نكره أشكالنا الحقيقية، ونكره تقدمنا بالسن. للأسف تحول شكل المرأة وجمالها إلى غاية وجودها، كلنا نحلم أن نكون شبيهات بعارضات الأزياء أو بالنجمات المشهورات، كلنا نحلم أن نكون رشيقات القوام نضرات البشرة خاليات من التجاعيد، كلنا غير راضيات عن أشكالنا”.
وتضيف “أظن أن هذه المعضلة الكبرى التي خلفها تنميط الجمال ووضع معايير صارمة لشكل المرأة: عدم الرضا عما نحن عليه والإحساس الدائم بالنقص”.
وتوضح رشا أن المعاناة من هذه الضغوط التي تمارس على النساء لا تقتصر على فئة أو عمر أو وضع. وتقول “وهنا لا أتحدث فقط عن نساء ليس لديهن ما يتميزن به غير الشكل، بل عن نساء حاضرات بقوة ومبدعات. شخصيا مررت بهذه المرحلة خصوصا بما يخص وزني”.
السن وانتهاء الصلاحية
لعل كلمة “متصابية” من أقل ما يقال عن امرأة تعدت سن الشباب، وما زالت شغوفة بالحياة ومقبلة عليها. وكأن هناك صلاحية افتراضية للمرأة تتوقف على العمر، تدخل بعدها في خانة “جندر البدون” وتسحب منها ميزات الأنوثة.
“تريد أن تحب وتتزوج وعمرها 47 عاما!!”. جملة سمعتها أنا شخصيا، كان القائل يحدثني عن زميلة، وللحقيقة كان الرجل متزوجا وعلى أعتاب الستين، لكنه أيضا مستمر في البحث عن (الحب)، ولم يعتبر أبدا أن ما قاله عن الزميلة العازبة قد ينطبق عليه أكثر منها، إذا ما تبنينا منطلقه نفسه.
“لست جميلة”
رشا عمران، الشاعرة السورية المقيمة في القاهرة، صوت شعري متميز وحاضر بقوة اليوم، ولعلها من القلة، التي ذهبت بالعادية إلى آفاق فنية غير مسبوقة، وامتلكت الجرأة لتجعل من عيوب الجسد، والتقدم في السن، وانكسارات المرأة الخمسينية، نصوصا مدهشة.
تقول رشا “اكتشفت مؤخرا أنني مهما فقدت من وزني فلن أتحول إلى ما كانته بريجيت باردو مثلا، لدي جسد يشبه التفاحة لن أفلح في تغييره مهما حاولت، عليّ التصالح معه عبر الكتابة عنه، وعبر استخدامه كمادة شعرية مناقضة لجسد المرأة المنمط الذي يكتب عنه الشعراء، الجسد غير الموجود حقيقة معهم. يكتبون عن أجساد أنثوية مثالية يرونها عبر الشاشات أو في الصور، بينما نساؤهم طبيعيات وعاديات، جميلات أو غير جميلات، هن حقيقيات فقط”.
تكتب رشا عن امرأة خارج المعايير، وتكشف ما تجد النساء عادة أنفسهن مضطرات إلى إخفائه، وهذا يشمل وصولها خمسينات العمر، والندبة التي خلفها تعرضها لعميلة قلب مفتوح قبل بضعة سنوات، والتي تحضر في قصائدها، ولا تسعى لإخفائها حتى في ملابسها اليومية.
تكتب عن الجسد وترهلاته بوصفها سجل حياة، ودليلا على التجربة، عن جسد يستحق الاحتفاء بكل أشكاله، وتبحث عن جمال لا قوانين له، بل تتقصد أن تقول إنها بالمعايير الوضعية “ليست جميلة”، ولا ضمن السن المتعارف عليها للشباب.
وفي مقطع من قصيدة بعنوان “تفاحة” من مجموعتها الشعرية الأخيرة “زوجة سرية للغياب” تقول:
ثمّة ثنية واضحة في جفني الأيمن
وانتفاخات قليلة أسفل عيني
وهناك خطوط الحزن على جانب فمي
جسمي مكوّر كما لو أن أمي اشتهت التفاح حين حملت بي”.
في تجربة رشا الشعرية الكثير مما يجدر التوقف عنده، وقد صدرت لها حتى الآن سبع مجموعات منها “معطف أحمر فارغ”، و”بانوراما الموت والوحشة”، والتي سكنت البيت قبلي”، لكن ما يهمنا هنا، هو الجانب النسوي، وكتابتها الجريئة عن التصالح مع الجسد والمرأة الخمسينية في عزلتها وتأملها، وأيضا في اندفاعها وشغفها بالحياة وعواطفها واستثنائيتها المختلفة.
تكتب رشا عن تجربتها، التي تدرك جيدا، كما تقول إنها أيضا تجربة آلاف النساء.
وعن جرأة الكتابة، تؤكد رشا “إنها ليست منقطعة عن سياق عام في الحياة، أقصد اكتشاف حقي في أن أكون كما أنا عليه، نفسيا وجسديا”.
وتقول “تصالحي مع شكل جسدي، واستخدامه كموضوعة شعرية، لم يحصل منذ زمن بعيد، وهنا تكمن المشكلة، في أن تتمكن المرأة من تجاوز أمر كهذا بعد أن تصبح حياتها خلفها، حتما كنت أفضل لو أن هذا حدث باكرا”.
وتشير رشا إلى أنها في فترات سابقة عانت أيضا من التنميط، وتقول “لم أكن، ظاهريا، اكترث بشكلي، لكنني في الحقيقة كنت أعاني من ذلك وأتظاهر بالعكس”.
لماذا لا ينشغل الرجل بشكله وتجاعيده؟
كم من تعليقات ساخرة طالت سيدات في مناصب أو مواقع عامة، ووصفن بـ “العجائز الشمطاوات” لأنهن في الأربعينات أو تجاوزنها، أو بسبب اكتسابهن وزنا إضافيا.
وفي عام 2016 وصل الأمر إلى إصدار رئيسة اتحاد الإذاعة والتلفزيون في مصر حينها صفاء حجازي بإيقاف ثماني مذيعات عن العمل لحين خضوعهن لنظام غذائي لإنقاص أوزانهن.
في المقابل، تركت للمذيعين إمكانية الاسترخاء تماما بينما تمر عليهم السنوات، وتترك آثارها المختلفة.
ويتجلى هذا بوضوح أكبر في عالم التمثيل، حيث يبدو أن مواصفات النجم مطاطة أو غير موجودة حتى.
فيحيى الفخراني ومحمد ممدوح مثلا تسند إليهما أدوار “الفتى الأول”، وهناك أعمال تتنافس فيها على واحدهما أكثر من امرأة، ويعتبر الأمر مقبولا، ولا يثير تعليقات متنمرة على وسائل التواصل.
في المقابل، تتعرض نجمات للتنمر إذا زادت أوزانهن، أو بدت عليهن علامات التقدم في السن. وإن كافحنها بعمليات تجميل، يتعرضن لتنمر أيضا لأنهن “متصابيات” و”منتفخات بالبلاستيك”.
ومن نفس المنطلق، تقول الشاعرة رشا عمران “أفكر أحيانا لماذا لا تكتب الشاعرات عن أجساد الرجال بوصفها أجسادا مثالية؟ لماذا لا ينشغل الرجل بشكله وسنه وتجاعيده مثل المرأة؟ لماذا إعلانات التجميل وعملياته موجهة دائما للنساء لا للرجال؟ حتى من يعملون في مهنة التمثيل، جاك نيلسون مثلا تقدم في السن، وكسب وزنا كبيرا، وترهل جسده ومع ذلك ما زال يحظى بأدوار بطولة”.
لكن مقاومة الخضوع للتنميط لا تعني أن تتوقف المرأة عن العناية بنفسها، برأي رشا، وهي كما تقول “أمشي يوميا 5 كلم على الأقل، وأحاول الحفاظ على نضارة وجهي برتوش بسيطة من دون نفخ وعمليات، وعلى أن يكون جسدي صحيا، لا أريد أكثر من هذا”.
المرأة في رؤية الفنان
فادي يازجي، من مواليد عام 1966، وهو خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق، ومقيم في العاصمة السورية، لكن أعماله طافت العالم في معارض فردية وجماعية، وهي تباع في أشهر دور المزادات الفنية، كما تقتني أعماله متاحف شهيرة مثل “المتحف البريطاني” في لندن، و”معهد العالم العربي” في باريس، و”المتحف” في الدوحة.
تجربة فادي الفنية طويلة ولافتة، وهو لا يكف عن البحث والتجريب، سواء بالمواد التي يستخدمها أو التقنيات، أو في تصوير شخوصه التي تتميز بمقدار عال من العاطفة والتعبيرية.
وبدل تصوير الكمال، يحتفي فادي بعادية شخوصه، ويبحث عن الإبداع في عيوبها وآلامها وصراعاتها الداخلية. وبالنسبة له، جمال الأنثى لا يمكن حصره في صفات جسدية معينة، وهو أعلى من كل المعايير الموضوعة.
ويقول “جمال المرأة سؤال لطالما شغلني. إنه شيء خارج جميع الأطر، جميع النساء يحملن قيما جمالية ومعاني تلفتني بصريا. المرأة هي عشتار، وهي الخصب والاستمرار. بل كل شجرة جميلة تذكرني بالمرأة”.
فكيف يرسم فادي المرأة؟ يقول “أرسم امرأة تشبه نساء المكان الذي أعيش فيه. أرسم أنثى المكان، والضوء الطبيعي الذي يكلل وجهها، أرسم بشرتها بلون ترابي يشبه حنان الأم ودفء الحبيبة. أنثى العمق بتعبيريتها وجمالها المجرد، وأقدس أيقونتها الخاصة”.
كما لا يستعين أبدا بموديل بصفات نمطية من الطول، وشكل الجسم، أو اللون، كما يشير.
ويقول “لم يخطر ببالي أبدا أن أرسم أنثاي بواقعيتها، أرسمها من ذاكرة عميقة، بعينين حنونتين وحزن دفين لأحلام انكسرت. امرأة من مجتمعنا، لطالما كانت ملهمة أساطير منطقتنا وديانتها القديمة، وأنا لا أزال أتفيء بظل حنانها”.
ويشير إلى أنه من الطبيعي أن يكون العمل الفني وشخوصه وليدا بيئته “كل الفنانين من بدء التاريخ حتى الآن تكون أعمالهم استمرارا للمكان والزمان اللذين يعيشانهما، أي هو توثيق لحياتهم وأزماتهم وفرحهم، منذ منحوتة الأنثى المغزلية في العصر الحجري حتى عصر النهضة، إلى الزمن المعاصر”.
وهو يرى أن الفن في أحد جوانبه، إضاءة على مناح أخرى للجمال، بعين ترى الأعمق وتحول ما قد يعتبر عيبا إلى ما يستحق الاحتفاء.
ويقول “لم يكن مفهومي لجمال الأنثى متعلقا يوما بعمرها أو شكلها وتكوينها بالمعنى الجنسي الجسدي. يهمني الحوار والصدق في المشاعر، وهذا ما أبحث عنه في العمل الفني، أما صورة فتاة الإعلانات فلا تعنيني”.
ويضيف “مفهوم الانتماء للمكان، ولون البشرة التابع للجغرافيا، هو الهوية الجمالية الحقيقية”.
ولا يعتبر فادي أن منطلقاته الفنية جديدة أو تندرج تحت شعار مبادرة مقصودة لتصوير المرأة بطريقة مختلفة، وإنما استمرارية لحالة فنية حقيقية متجذرة في عمق تاريخ المنطقة.
ويقول “لم يشهد التاريخ فنا مثل الذي صنعه الآشوريون في ألواحهم الحجرية، ولعل لوحة ‘رحلة الصيد’ الموجودة في المتحف الوطني البريطاني، خير مثال لعمل يقوم على قيم جمالية بمقاييس معاصرة، وفيه تبسيط رائع للجمال التشريحي المحلي”.
وعن الربط التنميطي بين شباب المرأة وجمالها، يقول فادي “المرأة كما أراها هي الأنثى من دون أقنعة، من دون خوف من زمن مر عاتيا على زهورها ورحيقها. أنثى القيمة. بكل فصولها، في ربيعها أو في خريفها، رونقها حاضر دائما”.
ويضيف “نحن نعيش ذاكرة ببعد واحد، ولا ندرك بأن الزمن سيف على الجميع. قد يكون الفن ملهما لأجيال لاحقة تعرف عمق أنثى فقدت مكانتها”.
إنها ليست فقط “سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها”، كما قال محمود درويش في قصيدته الشهيرة “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، وإنما “امرأة تحتفظ بكامل ألقها و’مشمشها’ في كل عمر وشكل وأوان” كما يختم الفنان الفنان فادي يازجي حديثه.
[ad_2]
Source link