ريش والجدل الذي أثاره بعد عرضه في مهرجان الجونة: خيال جامح أم “واقعية قذرة”؟
[ad_1]
- صفاء الصالح
- بي بي سي
على الرغم من الضجة التي رافقت العرض الأول لفيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري في مصر ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، واتهامه بالإساءة إلى سمعة مصر، توجت لجنة التحكيم في ختام المهرجان الفيلم بجائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم عربي لتضاف إلى رصيد الجوائز التي قطفها الفيلم ويواصل قطفها في المهرجانات العالمية.
إذ سبق لهذا الفيلم أن نال الجائزة الكبرى في مسابقة أسبوع النقاد في مهرجان كان السينمائي هذا العام فضلاً عن جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما (فيبريسي)، وتوج بالجائزة الكبرى لمهرجان بينجياو في الصين. كما منح خلال مهرجان الجونة أيضاً جائزة أفضل موهبة في منطقة الشرق الأوسط المقدمة من مجلة “فارايتي” الفنية المعروفة.
وانطلقت تلك الضجة والجدل الذي أعقب عرض الفيلم من موقف بعض الفنانين الذين انسحبوا أثناء عرض الفيلم في الجونة متهمين إياه بالإساءة إلى صورة مصر وتشويهها، وقد تلقفت وسائل الإعلام هذا الموقف لتشتعل بعده وسائل التواصل الاجتماعي بجدل ما زال مستمرا بشأن الفيلم.
ويحيلنا هذا الجدل إلى مناقشة مفهوم الواقعية في السينما ومدى علاقة الفن السينمائي بالمرجع الواقعي؛ فمنتقدو الفيلم يتهمونه بتقديم صورة مشوهة للواقع المصري، ومخرج الفيلم يرد بأنه تحدث عن قصة إنسانية يمكن أن تحدث في أي مكان من العالم، وأنه لم يحدد مكانا أو زمانا لإحداثه ولا حتى أسماءً لإبطاله. ويرد المنتقدون بأنه يجري في واقع مصري وبأبطال مصريين ويحفل بإحالات إلى موسيقى وأغان مصرية رائجة فضلا عن مفردات كثيرة من هذا الواقع.
ولعل ما أغفله المخرج في معرض دفاعه عن تلك التهمة الصعبة في سياق الواقع السياسي المصري، هو الحديث عن أسرار أسلوبه السينمائي، الذى بدا غريباً بالنسبة للكثيرين وبعضهم زملاء له في المهنة، واستعاراته ومصادره الفنية الثرية والمتنوعة في هذا الفيلم، وتلك الخلطة الفنية التي قدمها من مصادر ومشارب فنية قد تبدو متناقضة وخرج منها بفيلم ناجح جلب للسينما المصرية جوائز لم تحصل عليها من قبل من مهرجانات عالمية.
وهذا التوضيح ضروري بالنسبة لمخرج حرص في محاولته الأولى لإخراج فيلم سينمائي على أن يصب كل ما تعلمه من دراسة أساليب السينما العالمية ويصهره في مختبره، ليقدم لنا إرهاصات أسلوب ونهج سينمائي يسير عليه. وقد نجح في أن يقدم نهجاً (سنفكك سماته ومصادره لاحقاً) بدا مختلفاً عن الكثير من السياق السائد في السينما المصرية التقليدية.
ومن عناصر هذا الاختلاف تعامله مع الواقع الذي قدمه في عمله الفني ويصر على أنه سياق إنساني عام بلا زمان أو مكان إنساني محدد. لقد كان الزهيري في فيلمه هذا في حوار مع مرجعيته السينمائية التي يحاول في خطوته الأولى أن يحجز له مكاناً في سياقها وليس مخرجاً يسعى إلى تقديم قضايا كبرى، كما أكد في أكثر من مقابلة صحفية على أنه يقدم نفسه “كسينمائي وليس كشخص قادم لطرح قضايا” وأنه لا يحب تصوير الواقع “أحب أن أصور من خيالي”. وهذا الخيال هو خيال سينمائي صرف، وهو أيضاً مصدر اللبس في الجدل الدائر عند محاكمته على العلاقة بالمرجع الواقعي المباشر والذي يمكن أن يتبدد عن كشف تناصاته والأساليب السينمائية التي نهل منها.
وقبل أن نغرق في التحليل لنقدم للقارئ الذي لم يشاهد الفيلم ملخصاً لحكايته، التي قرأها الكثيرون في سياق الجدل المحتدم حول الفيلم، خاصة بعد تسريب نسخة منه على وسائل التواصل الاجتماعي، من مواقع مختلفة ومتباينة حاولت تفسير ما تراه رموزاً واستعارات تعبر عن الواقع الذي يتناوله الفيلم.
الرجل الدجاجة والمرأة الصابرة
يبدأ الزهيري فيلمه بمشهد تمهيدي بشاشة سوداء وصوت همهمات ينبثق وسطها منظر مُصور من الخلف لرجل يحترق أمام مبانٍ توحي بأنها لمصنع ما (المشهد الذي رأى فيه البعض إحالة إلى احتراق التونسي بوعزيزي الذي أشعل شرارة انتفاضات ما يعرف بالربيع العربي) . ثم ينتقل ليقدم لنا مشاهد من حياة عامل مصنع (لا نعرف طبيعته) وزوجته الصامتة وأطفالهما الصغار الثلاثة. يبدو الرجل رب عائلة تقليدي يحتفظ بنقوده في صندوق صغير ويمنح الزوجة الصامتة جزءاً بسيطاً لشراء تجهيزات الطعام للعائلة، لكننا نراه أيضاً يضع ابنه الرضيع في حضنه ويلقمه حلمة قنينة الرضاعة ويحدث أبنائه وزوجته عن بلاد يُخصص فيها لكل فرد بقرة يشرب منها حليباً طازجاً أو يحلم بمنزل فسيح فيه مسبح وطاولة بليارد.
كما نرى هذا الأب الحالم في مشهد يجلب لهم تمثالاً لنافورة صغيرة لوضعها في شقتهم البائسة المتهالكة بدلاً من دفع أقساطها المتأخرة لجهاز الإسكان، أو يتملق صديقاً له في المنطقة، ربما يعمل مهرباً إذ نرى صندوق سيارته غاصاً بسلع وتجهيزات مختلفة، فيعزمه في منزله على حفلة عيد ميلاد لابنه في شقته البائسة طمعاً بما يحمله من هدايا، ومن بينها ساحر يقدم فقرات سحرية في الحفل، يدخل الزوج في إحداها في صندوق ليحوله إلى دجاجة، لكنه يعجز لاحقاً عن إعادته إلى وضعه الأصلي.
ويبدو الفيلم حتى هذه اللحظة وكأنه يغرق في مبالغات فنتازيا ساخرة، مع ملاحقة الساحر وسعي الزوجة إلى استعادة زوجها ورحلتها مع صديق العائلة المهرب بحثا عن حلول سحرية لفك السحر عن زوجها؛ كالاستعانة بسحر مشعوذين أو وصفات أخرى، لكن الزهيري ينقذ فيلمه بالعودة إلى صورة واقعية قاسية في الإغراق في متابعة كفاح هذه المرأة المقهورة الصامتة من أجل لقمة عيش أبنائها الثلاثة، تاركاً مغريات خيط الفنتازيا الساخرة الذي فتحه (هذا الخلط بين نقيضين الفنتازيا ونزوع واقعي حاد كان أحد أهم عوامل نجاح الفيلم، كما سنوضح لاحقاً)، فنتابع تحول هذه المرأة الصامتة المهمشة إلى رب البيت الرئيسي وكفاحها من أجل تربية أبنائها ودفع أقساط الشقة المتأخرة التي يحتجز موظفو الإسكان أثاثها البسيط والمتهرئ وجهاز التلفزيون الصغير القديم فيها (يجعله المخرج مفردة يلعب بها في كثير من مشاهده فهو من يمنح الأطفال في تلك الشقة البائسة أحلامهم ومتعتهم الوحيدة، ونرى الزوجة لاحقاً عندما تهرب من محاولة صديق العائلة التحرش بها واغتصابها تعود إلى سيارته لأخذ جهاز التلفزيون الذي فك رهنه بنقوده).
ويمعن الزهيري في تفاصيل هذا السرد “الواقعي” الذي وازن تمهيده الفنتازي، مع رحلتنا مع كفاح الزوجة وتنقلها في أكثر من عمل بعد رفض المصنع الذي كان الزوج يعمل فيه تشغيلها بحجة عدم تشغيل النساء، واختيار مسؤول العمل في المصنع تشغيل ابنها الطفل بدلاً من أبيه لمساعدتهم على البقاء في الشقة وتلقي راتبه ما دامت ليست هناك شهادة وفاة باسمه.
ويعمق هذا الخط السردي اكتشافها أن الزوج حي لدى مراجعتها قسم الشرطة لاستخراج وثيقة تثبت غيابه، فيقولون لها أنهم عثروا عليه مع مجموعة من المشردين ويسلمونها إياه ببطانية وهو مقعد عاجز أقرب إلى جثة هامدة وعلى جسده آثار حروق (يترك المخرج هنا للبعض فرصة الربط مع مشهد التمهيد).
ويضاف للزوجة الآن عبء جديد هو العناية بالزوج المقعد إلى جانب أطفالها الثلاثة، في وقت تُطرد فيه من العمل في منزل سيدة ثرية بعد أن كشف كلبها أنها اخفت قطعتي لحم وبعض الشوكولاتة وأشياء أخرى من منزلها لتأخذها إلى أطفالها. لكنها تنجح لاحقاً بمساعدة الصديق المهرب في الحصول على عمل في محل يزوده هو بالسلع. بيد أن كل تلك الخدمات التي قدمها صديق العائلة هذا لم تكن بدافع خير بل بدافع سعيه لامتلاك جسدها كامرأة. وهو ما تتحرر منه في المشهد الذي يأخذها فيه بسيارته إلى مكان ناء ليصارحها في مشهد عبر فيه عن أقصى أشكال الرثاثة عندما يغني بصوت نشاز أغنية رقيقة لفائزة أحمد “على وش القمر” ثم يحاول الاعتداء عليها جنسياً فتضربه وتهرب. وتستعين لاحقاً بصاحب المحل الذي شغلها فيه عندما يظل يلاحقها مطالباً بنقوده التي قدمها لها فيضربه رجاله ويحطمون سيارته.
هذه الرحلة للمرأة المسحوقة وسط قساوة عالم الرجال وعلاقات القوة وسط عالم لا يرحم، غارق بالاستلاب والفقر واليأس والرثاثة يجعل منها امرأة قوية، وأماً تفعل المستحيل لإعالة أولادها، وإدامة الحياة لهم حتى ولو كانت بقسوة الموت نفسه وارتكاب فعل القتل.
أناس عاديون وممثلون هواة
وسط شاشتين سوداوين يفتتح الفيلم ويُختتم (فسواد المفتتح يُضاء بنار جسد رجل يحترق، وسواد الختام رافقته، في مفارقة واضحة، أغنية فرحة تحتفي بالحياة؛ هي أغنية “إبدأ من جديد- الصبحية” التي لحنها هاني شنودة لفرقة المصريين) امتدّ عالم كالح شاحب وعبثي وسوداوي، عماده الفقر والاستلاب والصمت واليأس والقهر والرثاثة مع سرد سينمائي تنقل بين أقطاب متناقضة من أقصى الفنتازيا إلى الواقعية المفرطة.
فهل كان الزهيري فنانا واقعيا، يصور الواقع المصري بطريقة مسيئة أو مشوهة كما يتهمه منتقدوه، أم فناناً خيالياً يبحر في خيالاته الفنتازية؟ وهل قدم عملا تراجيديا في هذا العالم السوداوي الكالح الذي قدمه، أم عملا كوميديا ساخرا حافلا بكوميديا سوداء مادتها بؤس الإنسان واستلابه؟
واقع الحال إنه كان خليطاً من كل ذلك، وأراه أقرب إلى حاوٍ يتنقل على حبال رفيعة وسط ألغام هذه العوالم المتناقضة، وهدفه الأساس إثبات نفسه كمخرج مؤلف وسط المشهد السينمائي، الذي يمثل مرجعه الأساسي الذي يحتكم إليه. فأراد أن يلقي حجرا في بركة السينما المصرية في استعارة أساليب من السينما العالمية قد تبدو متطرفة بالنسبة إليها.
إن أبرز ما يلفت الانتباه في فيلم “ريش” شخصياته الخالية من أي تعبير والجامدة الملامح، البطيئة الحركة التي تبدو وكأنها مسرنمة؛ والمصورة عن بعد بكاميرات ثابتة في الغالب، أو في لقطات مقربة جدا في الأماكن المغلقة أحيانا قد تقتطع أجزاءً من رؤوسها أحيانا، فضلا عن أداء الممثلين الخارجي الحيادي أمام الكاميرا الذي يتجنب أي استبطان أو تماه داخلي مع الشخصيات لتقديم صياغات تمثيلية لها، بل هم على العكس يبدون كأناس عاديين يتحركون ببرود ووجوه جامدة أمام الكاميرا لا يجسدون أي مشاعر لكنهم يثيرونها لدى متلقيهم.
وقد حرص الزهيري لتحقيق ذلك على الاستعانة بممثلين هواة أو أناس عاديين لم يسبق لهم الوقوف أمام الكاميرا، من أمثال بطلته الرئيسية “دميانة نصار”؛ وهي ربة بيت وأم لثلاثة أطفال من قرية في محافظة المنيا بصعيد مصر لم يسبق لها الوقوف أمام الكاميرا وأن ظهرت في أدوار مسرحية محلية بسيطة في محافظتها بعد مرافقتها لابنتها الشابة التي بدأت العمل في التمثيل. وقد لا تتصف دميانة بالمواصفات الجمالية لنجمات السينما الشهيرات، لكنها بعينيها الغائرتين والهالتين اللتين تحيطان بهما والأنف الحاد والسمرة والشحوب تمثل صورة لإنسانة وابنة بلد عادية وليست صورة النجمات التي اعتادت السينما المصرية على تقديمهن. أما بطل الفيلم (سامي بسيوني) فهو أيضا من اكتشافات المخرج وسبق له أن قدمه في فيلمه القصير الثاني. أما نعيم عبد الملك الذي أدى دور الساحر فيقول المخرج إنه لم يسبق له التمثيل وإنه رآه في الشارع يقود سيارته فطلب منه التمثيل في فيلمه.
خلطة باردة في بيئة مصرية حارة
لقد منحت تلك الخيارات المخرج فرصته لتطبيق نهجه في التعامل مع الممثل، الذي كما أوضح في أكثر من تصريح أنه يتجنب مقابلة الممثلين قبل التصوير أو عمل بروفات لهم لتمثيل مشاهدهم، ويترك التعامل معهم لمساعدي المخرج، لكنه يراقبهم عن بعد ويزجهم في صورتهم الحقيقية أمام الكاميرا، أو يصورهم أحياناً دون علمهم ليحصل على استجابات عفوية لا فعلاً تمثيليا أمام الكاميرا.
وهذا النمط من الشخصيات والأداء يبدو غريباً على السينما المصرية، وينتمي كلياً إلى عوالم مخرجيين اسكندنافيين كالمخرج الفنلندي آكي كاوريسماكي والسويدي روي أندرسون.
ومنهما يستعير الزهيري هذا الأسلوب المقتصد (المينيمالست) في التعبير السينمائي، فنرى تصويراً بكاميرا ثابتة واقتصاداً واضحاً في حركتها فضلاً عن أقل قدر ممكن من التفاصيل والاكسسوارات في ديكورات المكان التي تغلب عليها الألوان الشاحبة الموافقة للبيئة الاسكندنافية الباردة والتي تستحيل لدى الزهيري إلى ألوان كالحة مغبرة تناسبا مع بيئته الحارة؛ أو تصوير الشخصيات عن بعد ومسافة ثابتة وسط فضاءات واسعة أو معالم معمارية “كمباني المصنع في الفيلم” ييبدون صغارا ومنسحقين أمامها.
ويلعب المكان دورا أساسيا في فيلم “ريش” سواء في اختيار أماكن التصوير الخارجية، التي تغلب عليها صور مبانٍ صناعية رثة ومصنع متهالك (لا نعرف طبيعته) ينفث دخانه وغباره في المكان (حتى النافذة الوحيدة في شقة العائلة البائسة غالبا ما تختنق بنفثات دخان مباشر تحوطها)، أو أماكن مهجورة؛ أو في المشاهد الداخلية التي تختنق بأماكن رثة وجدران متسخة وشقق تمتلئ بالبؤس أو أرضيات تفيض بالدماء والقذارة.
وهنا يصر المخرج على أن ما قدمه ليس صورة للبؤس أو الفقر في الواقع المصري بل نتاج خيالي عمد فيه إلى تشويه الواقع وتعميته كي يصبح واقعا يدل على البؤس في أي مكان في العالم وفي أي زمان دون تحديد مرحلة معينة يطوع عناصره البصرية لتقديم رؤيته السينمائية.
ويجدر أن ننوه هنا بجهد اثنين من المواهب الشابة التي عملت مع الزهيري في خلق هذه الفضاءات الغريبة والمميزة التي طبعت أجواء الفيلم؛ وهما المشرف الفني ومصمم الديكور عاصم علي ومدير التصوير كمال سامي، اللذان خاضا في هذا الفيلم أيضا أولى تجاربهما السينمائية الروائية.
ويعترف المخرج بأنه لجأ بقصدية إلى استخدام تقنيات الغرافيكس لتموية الخلفيات عند التصوير في أماكن حقيقية لأبعاد الإحالة إلى مكان واقعي محدد وفتح مساحة أوسع للتأويل والتعميم عن مكان وقوع الأحداث. وهو بذلك يحاول أن يتجاوز مفهوم الواقعية في شكلها الكلاسيكي السائد، مفضلا أن يقدم نوعا من الواقعية المفرطة ( Hyperrealism) التي يصبح فيها من الصعب التمييز بين الواقع ونسخته الشبيهة كما يقدمها الفن.
ومفهوم الواقعية المفرطة (الفائقة) تطور في فن الرسم عندما عمد رسامون إلى تقديم أعمال فائقة في دقتها الواقعية وتقترب من الصورة الفوتغرافية، ودخل كمفهوم فاعل في تنظيرات بعض فلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال الفرنسي جان بوديار، ثم باتت له تطبيقاته في الفنون الأخرى ومنها السينما، حتى أن جماعة دوغما 95 السينمائية المعروفة (من أبرز رموزها المخرجان الشهيران لارس فون ترير وتوماس فينترنيرغ) طالبت في أدبياتها بأن يكون “الحدث السينمائي” الذي تقدمه أكثر واقعية من الواقع الذي يصوره).
ويترافق ذلك مع استخدام لشريط الصوت الذي يحمل عناصر موسيقية متباينة أو أغان شعبية تستخدم بشكل متناقض مع التصميم البصري (قارن مشهد النهاية أو أغنية فائزة أحمد مع مشهد الاعتداء الجنسي أو مشهد رقص الرجل الملتحي على لحن لبليغ حمدي، حيث يستثمر المخرج في التناقض بين جماليات الألحان المعروفة وما تثيرة في ذاكرة مشاهديها من شجن وحنين مقابل رثاثة الصورة وغرائبيتها التي تقدم جماليات مضادة ممكن أن نطلق عليها جماليات الرثاثة، إذا جاز مثل هذا التعبير).
التوفيق بين المتناقضات
لقد نجح الزهيري في نقل هذه التجربة الأسلوبية وزرعها في قلب السينما المصرية باستعارة تفاصيل ومفردات محلية دفعته إلى مقدمة مشهدها السينمائي منذ فيلمه الأول، لكن ذلك ترك أيضا ناتجا عرضيا هو تلك الانتقادات التي وجهت إليه داخل بلاده.
ولعل أهم ما يميزه هنا، مرونته وقدرته على التنقل بين تقاليد فنية متباينة والجمع بين أساليب متناقضة، لأضرب مثلا في مزواجته بين الفنتازيا والواقعية المفرطة، فقد وازن بذكاء هذا الانتقال بين الجانبين، بعد أن خشيت عليه من السقوط في فخ المبالغة الفنتازية والتغريب لحظة اختياره تحول بطله إلى دجاجة على يد الساحر.
وفنتازيا التحول أو المسخ لها أشكال عديدة في الأدب والفن بدءا من الأساطير القديمة ومرورا بكتاب التحولات أو “مسخ الكائنات” لأوفيد أو حمار لوقيانوس الذهبي أو مسخ فرانز كافكا، وليس انتهاء بفيلم المخرج وودي ألن”حطام أوديب” القصير (40 دقيقة) ضمن فيلم “قصص نيويورك” (الذي ضم 3 افلام قصيرة له ولكوبولا وسكورسيزي).
وفي الفيلم الأخير نرى مشهداً تختفي فيه الأم في صندوق سحري أثناء ممارسة ساحر لفعالية ألعاب سحرية في حفل. وهو مشهد يصعب تقليده أسس له ألن عبر مقدمة منطقية تعتمد على التحليل النفسي ورغبة الابن بالتخلص من أمه المتسلطة، بررت كل التحولات الفنتازية التي قدمها. ومع تشابه هذا المشهد نسبيا مع مشهد التحول في فيلم ريش، ألا أن الزهيري نجح في تجنب غواية الذهاب عميقا في فنتازيا التحولات (الذي يبرع ألن فيه) بالعودة بقوة إلى الواقع مع التركيز على كفاح بطلته وسط الواقع القاسي.
لقد شكل فيلما الزهيري القصيران السابقان تمرينا مهما على هذا الأسلوب السينمائي الذي تكشف في فيلم ريش، لاسيما فيلمه الثاني بعنوانه الطويل “ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام في الكيلو 375 ” والذي شكل محاولة جريئة لنقل هذا الأسلوب للتعامل انطون تشيخوف أحد أبرز رموز الكتابة الواقعية في الأدب والمسرح عبر استعارة قصتة القصيرة الساخرة موت موظف.
ومن الواضح أن الزهيري قد درس جيدا سينما كاوريسماكي وأندرسون، وأعاد زرع الكثير من السمات التي ذكرناها هنا في فضاءه المحلي معطيا إياها سمات خاصة. وكان أبرز ما خرج به قدرته على إدارة التناقضات التي اكتنفت فيلمه والانتقال بسلاسة عالية وذكاء بين تقاليد فنية قد تبدو متناقضة ومتباينة؛ بين الواقعي والفنتازي وبين التراجيدي والكوميدي، وبين التناصات المختلفة مع السياقات الفنية العالمية أو السياقات الاجتماعية والثقافية المحلية. وهذه سمة اساسية في أسلوب كاوريسماكي المختلف والمناقض دائما للسائد والمتسم بالقدرة على إدارة المتناقضات وجمع عناصر من فترات زمنية وسياقات ثقافية متباينة، بحسب الناقد أندرو نستينغن في كتابه عنه.
لقد حاول البعض أن يصنف فيلم ريش ضمن جنرة “الواقعية السحرية” أو تيار السينما البرازيلية الجديدة “سينما نوفو” أو السينما الثالثة أو سينما جماليات الجوع بحسب المخرج البرازيلي غلوبير روخا في مقالته الشهيرة التي باتت أشبه بالبيان الذي وضع أسسا نظرية لها، وهو تصنيف أراه لا ينطبق كثيرا على هذا الفيلم الذي يحاول تجنب تلك الرؤية المثالية أو اليوتوبية التي تقبع تحتها أو تلك الرؤية الآيديولوجية الملتزمة التي ميزت بعض رموزها، بل أراه يستبطن نزوعاً “أناركيا” رافضاً لكل أشكال السلطة، يعززه حرص مخرجه على تأكيد أنه “مخرج سينمائي يبحث في المشاعر” وليس شخصاً قادماً لتقديم قضايا أو أفكار مجردة.
وأميل هنا إلى تصنيف الفيلم تحت لافتة “الواقعية القذرة” التي تطورت على أيدي بعض الكتاب الأمريكيين وامتدت إلى السينما والفنون الأخرى، إذ يحفل الفيلم بسماتها المختلفة: من تقديم الهامش الاجتماعي والشخصيات المهمشة والمنبوذة وقاع المجتمع إلى الأسلوب المقتصد (المينيمالست) في التعبير وفي حركات الكاميرا والعناصر السينمائية الأخرى، والذي يضع مسافة بينه وبين موضوعة، ويتجنب الاستبطان والمنولوجات الداخلية أو الاستعارات المستفيضة ويكتفي بالوصف الخارجي وترك الأشياء تعبر عن نفسها بنفسها في عالم متهرئ متداعٍ ممتلئ باليأس والعبث، ضمن أسلوب يقف على حافة الكوميديا، في تعامله مع هذا الواقع المأزوم، ويفيض بالإحساس بالمفارقة والسخرية المرة اللاذعة، وقد يصل أحياناً حد التماهي مع القسوة والوحشية التي تفيض بها المادة التي يعالجها عندما يقدمها بعناصرها نفسها وليس بتمثيلات عنها.
سيتواصل الجدل كثيراً بشأن فيلم ريش، بعد أن رمى عمر الزهيري، عبر فيلمه الناجح، حجراً في بركة السينما المصرية ستظل دوائره تُدوم في مياهها لفترة طويلة.
[ad_2]
Source link