هل تعد الوحدة سببا في نجاح كثير من الفنانين والمبدعين؟
[ad_1]
- بيفيرلي ديسيلفا
- بي بي سي
طالما افتتن فنانون وكتّاب بالعزلة، لكن لماذا يؤثر هؤلاء الاختلاء بأنفسهم بعيدا عن الناس، وما الذي نتعلمه منهم؟ تتحدث بيفرلي ديسيلفا إلى تريسي إمين وغيرها للبحث في هذا الأمر؟
تزخر الثقافة بعبارات عن الوحدة، بدءا من تجول الشاعر ويردزويرث وحيدا كسحابة، ووصولا إلى آلاف الأغاني الشعبية عن هاجس الفراق والحب المفقود. وتغنّى بعض المؤلفين بفوائد الوحدة، إذ ذكرت فيرجينيا وولف أن الوحدة جعلتها تستجيب لصدى “غناء العالم الواقعي”. وتنبض رواية “مرتفعات وذرينغ” لإيميلي برونتي بالوحدة الموجعة، بدءا من مستنقعات يوركشاير، وحتى بطلها الانطوائي متقلب المزاج، هيثكليف.
ويقال إن الكاتبة كانت تفضل الانزواء عن المجتمع، ونادرا ما كانت تغادر مسقط رأسها هاورث في يوركشاير. وكتبت ليلي توملين، الممثلة الكوميدية والكاتبة الأمريكية: “تذكر أننا جميعا هنا بمفردنا”.
ودرج الفنانون على قضاء أوقاتهم بعيدا عن بعضهم بعضا، حتى يتواصلوا مع مصدر الإلهام. فقد ألّف شكسبير رائعته “الملك لير”، أثناء الحجر الصحي في مطلع القرن السابع عشر، عندما اجتاح الطاعون لندن. وذكرت فريدا كاهلو أنها كانت ترسم لوحات لنفسها لأنها كانت في الغالب بمفردها.
وغادر فان جوخ باريس على أمل أن يمنحه البقاء في مدينة آرل الهادئة، جنوبي فرنسا، الصفاء الذهني. وفي كتابه “حياة الفنانين” عام 1550، وصف جورجيو فاساري الفنان والمهندس المعماري في عصر النهضة، الفنان بأنه شخص يعيش على هامش المجتمع، حرفيا ومجازيا.
لا أحد بالطبع يرغب في أن يعيش منعزلا. وقد فاقمت قيود الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي دون شك مشاعر الوحدة، ولا سيما بين الشباب. لكن إذا كانت الوحدة مؤلمة، فإن البعض يستمتع بالعزلة. وقد اختار البعض أن يعيشوا بمفردهم منذ قديم الأزل. إذ يقال إن بولس الطيبي كان أول ناسك مسيحي يعيش بمفرده في صحراء مصر لعقود عديدة. ورأى أنتوني ستور، في كتابه “العزلة: العودة إلى الذات”، أنه لا بد من قضاء وقت بمفردك للحفاظ على صحتك النفسية وتعزيز الإبداع، وأن أكثر التجارب البشرية تأثيرا في النفس لا تمت بصلة لعلاقاتنا مع الآخرين. وقد اشتهرت مقولة لبيكاسو في هذا الصدد، مفادها: “لا يمكن إنجاز أي عمل جاد من دون العزلة”.
وحشة الروح
وجسد معرض الفنانة البريطانية تريسي إمين اقتران الوحدة بالحزن والألم. ويحمل معرضها المشترك مع أعمال الفنان إدفارد مونك بالأكاديمية الملكية للفنون بلندن، عنوان “وحشة الروح”، ويعكس المعرض السمات التي رأت أنها تعبر عن مشاعرها في أعمال الفنان التعبيري النرويجي إدفارد مونك الذي “وقعت في غرامه” في سن 18 عاما، على حد وصفها.
واشتهرت إمين على مستوى العالم بأعمالها الفنية التركيبية “الصريحة” والمثيرة للجدل في التسعينيات من القرن الماضي، مثل “سريري”، المحاط بأعقاب السجائر وقوارير الفودكا وفوقه مرتبة متسخة، و”كل شخص مارست معه الجنس”، المنقوش عليه 102 اسما بالقماش.
واشتهرت أيضا إمين بعشقها للمتع والملذات وصراحتها العاطفية الصادمة حول حياتها العامة والخاصة. وتقول: “أنا أعرض الحقائق كما هي”. لكن حياتها وفنها طرأت عليهما تغيرات كبيرة. إذ توظف الآن موهبتها الفذة في الرسم في التعافي من مرض خطير.
وفي يوليو/تموز العام الماضي، شُخصت إمين بسرطان الخلايا الحرشفية، وهو نفس المرض الذي فارقت أمها الحياة جراء الإصابة به في عام 2016. وخضعت إمين لجراحة كبرى لاستئصال المثانة والرحم وأنابيب فلوب والمبايض والغدد الليمفاوية، وقناة مجرى البول وجزء من القولون والمهبل.
وأعلنت في برنامج “نيوزنايت” على قناة بي بي سي في أبريل/نيسان الماضي، أنها تخلصت من السرطان. وقالت إنها ستقضى بقية حياتها بإعاقة شديدة. وتقول: “لم أدرك مدى حبي للحياة إلا عندما كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت”
ونشرت صحيفة الغارديان صورها الذاتية التي التقطتها لنفسها على سرير المرض في المستشفى وبعد الجراحة.
وقبل تشخيصها بالسرطان، كانت إمين، التي تبلغ من العمر الآن 57 عاما، تستعد لمعرض في الأكاديمية الملكية للفنون. إذ اختارت 18 لوحة زيتية وبالألوان المائية من بين آلاف الأعمال الفنية للفنان مونك في أوسلو بالنرويج، وتوضع الآن هذه اللوحات إلى جانب 25 عملا فنيا من أعمال إمين، منها لوحات ومنحوتات وكذلك أعمال فنية بمصابيح النيون. وتفصل بين الكثير من أعمالها وأعمال مونك نحو 100 عام. ولأول مرة يجمع معرض بين أعمال كلا الفنانيْن.
وتجسد الأعمال الفنية، المفعمة بالتفاصيل والمثيرة للشجن، مشاعر الحزن والوحدة، ولا سيما في اللوحات التي رسمتها إمين عن مرضها. وتتجلى في أعمال “أنا آخر الباقيات من نوعي” (2019)، و”لقد أتيت” (2018)، مظاهر الضعف الشديد والألم التي تجسدها الأجسام العارية الوحيدة، وتبدو تجليات الصدمة النفسية واضحة في عملها الفني “هذه هي الحياة من دونك- لقد انتابتني هذه المشاعر بسببك” (2018)، ويشير عملها الفني بمصابيح النيون “المزيد من العزلة” (2014) إلى حتمية الوحدة.
ويعكس شغفها بمونك التشابه بين حياتهما ونظرتهما للعالم. فقد رسم مونك حالته النفسية بصراحة صادمة كانت بمثابة إرهاصات للمدرسة التعبيرية. وعكست “لوحات الروح”- الأرواح المعذبة وأشباح العشاق- اهتمامه بالحركة الروحانية وشغفه بالظواهر الخارقة للطبيعة. وقد ذكرت أيضا إمين أن أقاربها في مدينة مارغيت كانوا يعقدون جلسات لتحضير الأرواح في المنزل. وقد عانى مونك من إدمان الخمر، وأجبر على التوقف عن شرب الخمر حتى لا يصاب بالجنون. وتوقفت أيضا إمين عن شرب الخمر للحفاظ على صحتها.
وذكرت إمين في حديث عبر الهاتف من منزلها في لندن: “أشعر أنني أشبهه في الطريقة التي ينظر بها للعالم بمفرده. فقد كان عاطفيا لكنه أيضا وجوديا، وكان دائما يرى العالم من منظور شخص غريب”. ولم يكن مونك سعيدا كما قد يظن البعض من أعماله. وتقول إمين: “أقام علاقات عاطفية عديدة، لكنه لم يمارس الجنس إلا لعدد محدود من المرات”.
وتتحدث إمين أيضا دائما بصراحة عن حياتها العاطفية، وتقول إنها لم ترتبط بعلاقة عاطفية منذ 11 عاما، وعاشت بمفردها 20 عاما، وتقول: “أعيش مع قطي دوكيت، لكنه مات العام الماضي”. وكان دوكيت رفيقها الروحي الصغير، وبعد وفاته تشعر أن ثمة مساحة لاستقبال الحب في حياتها.
وتقرأ إمين تجسيد مونك للموت في أعماله الفنية – فقد قضت أمه نحبها عندما كان في الخامسة، وأخته عندما كان في سن 14 عاما- في ضوء الوباء الحالي. وتقول: “كان الموت يحيط بمونك منذ الصغر. لكن قبل الوباء لم يعان بعض الناس ألم الفقدان إلا عند وفاة آبائهم أو أمهاتهم، والآن عانى الكثيرون ألم فقدان أحبائهم. فقد أصبح الناس أكثر إدراكا للنهاية الحتمية وهشاشة الحياة”.
وعندما شُخصت إمين بمرض السرطان، نأت بنفسها عن أصدقائها لادخار طاقتها للجراحة والتعافي. وأثناء فترة التعافي، كانت تعمل لساعات أقل، وسمحت لأصدقائها بالعودة إلى حياتها تدريجيا، وسعدت بالدعم والمساندة التي قدموها لها. وتقول: “لم أشعر بهذه السعادة من قبل. فقد تضاءلت جميع المشاكل بجانب مواجهة الموت. فقد كان الحزن في الماضي يتملكني عندما أواجه مشاكل أو تحديات، ولكني الآن أتعامل معها”.
وتولدت لديها الآن رغبة جارفة في الحياة. وتنوي وضع تمثالها البرونزي الذي يبلغ طوله تسعة أمتار، بعنوان “الأم”، أمام متحف مونك في أوسلو، وتقول عنه: “سأمنح مونك الأم التي لم يعرفها”، ومن المتوقع أن يكتمل مركزها الفني في مدينة مارغيت قريبا. وتستعد الآن للمعرض الذي من المقرر إقامته في فينيسيا عام 2024، بعد تأجيله بسبب مرضها. وتقول: “لا أمانع إقامة علاقة عاطفية، وأشعر أنني أستحقها، ربما لم يخالجني هذا الشعور من قبل”.
وتشعر إمين أن هذه المحنة ساعدتها في التخلص من الصدمة النفسية. وتقول إنها سعيدة الآن “بحياتها الرائعة وتقدر كل شيء فيها”. وتحاول الآن أن تنعم بحياة أكثر هدوءا وسلاما”، وتعتزم أن تملأ أيامها برسم لوحات على صوت تغريد الطيور. وتقول: “لم أعد أشعر بالوحدة، وأعتقد أن فرص موتي بمفردي باتت منعدمة”.
الهرب إلى أحضان الطبيعة
يرى الكثير من الفنانين والكتّاب أن ثمة علاجا للوحدة، وكانت الشاعرة الأمريكية مايا أنغيلو تقول إنها تنسى الخوف من الوحدة بالموسيقي، وتضيف: “أزحف في المساحات بين النغمات وأدير ظهري للوحدة”. لكن البعض يهرب من الوحدة في أحضان الطبيعة، بممارسة رياضة المشي والسباحة في البحيرات.
وأدرك المؤلف مارتن شو، فوائد العزلة في الهواء الطلق. ودأب شو على اصطحاب مجموعات من الناس في براري دارتمور في الريف الإنجليزي، وغيرها من المناطق النائية، حيث يتفرقون ويتعلمون تجديد الصلة بالطبيعة وبذواتهم. ويقول شو، مؤلف كتاب “ثقب الدخان: مراقبة البرية في عصر التلسكوب”، الذي يعيد صياغة الأساطير لتناسب عصرنا الحالي، إن هذه الرحلات في الهواء الطلق تعود إلى عهد الكلتيين قديما.
ويقول شو إن هذه المجموعات من الباحثين عن العزلة في البرية قد تضم مراهقين ومحاربين قدامى يتعافون من الصدمة النفسية، وكلهم قد يشكون من الملل أو الحنين إلى الوطن، ويردف القول: “لا أحد من المشاركين اشتكى يوما من الوحدة، فهناك الكثير من المحفزات في البرية، وربما لا مكان للوحدة”.
ويشعر شو أن موطنه هو الهواء الطلق، فقد عاش في خيمة لأربع سنوات، لكنه رغم ذلك، شعر أنه مقيد الحركة في متنزه دارتمور في ظل قيود الحجر الصحي. ويقول: “شعرت حينها بالوحدة الحقيقية وكنت أفتقد التحدث والتفاعل مع الآخرين”.
ويقول دكتور أندريا ويغفيلد، من مركز دراسات الوحدة بجامعة شيفيلد، إنه من الممكن علاج الوحدة بإقامة علاقات هادفة. وأثبتت أبحاث المركز أن الأنشطة التي تعتمد على الفنون، مثل تعاون الأجداد والجدات والأطفال في مشروعات فنية عبر الإنترنت، قد تساعد الناس على التواصل، إذا تعذر مقابلة الآخرين وجها لوجه.
ويمول هذا العام أسبوع الوعي بالوحدة في المملكة المتحدة، صندوق “مارمليد”، ويروج لفكرة تقبل الوحدة بوصفها جزءا من الطبيعة البشرية.
وعندما انتقلت الكاتبة أوليفيا لينغ إلى مدينة نيويورك بعد انفصالها عن شريك حياتها في الثلاثينيات من عمرها، كانت الوحشة تعتصر قلبها يوميا. وألفت كتاب “المدينة الموحشة: مغامرات في فن العيش منفردا”، الذي حقق مبيعات هائلة. وتناول الكتاب الطرق التي جسد بها الفنانون مشاعر الوحدة، وضم الكتاب مقالات عن الكبسولات الزمنية لآندي وورهول ولوحة صقور الليل لإدوارد هوبر، وغيرها.
وذكرت لينغ أن تسليط الضوء على لوحات هوبر، وما تنطوي عليه من مشاعر الفراق والأسوار والحواجز وتقييد الحركة، والخوف الذي يكاد لا يحتمل من المجهول، ساعدها في التخلص من المشاعر التي كانت تؤرقها. وتقول: “لقد اكتشفت أن شخصا آخر استطاع التعامل مع الوحدة ووجد جانبا مضيئا منها وأحس بقيمتها”.
[ad_2]
Source link