تعرف على أعتى العواصف النارية في العالم
[ad_1]
- جيز فردينبرا
- بي بي سي
عندما يصل نطاق حرائق الغابات إلى مستويات هائلة، يتغير كل شيء في المناطق المحيطة بها، إلى حد أنها تخلق “طقسها الخاص”. لذا يسابق العلماء في مختلف أنحاء العالم الزمن، لفهم طبيعة هذه الحرائق، وما يترتب عليها.
بعد ظهيرة أحد أيام شهر يونيو/حزيران 2017، رأى سكان بيدروجاو غراندي، وهي منطقة صغيرة المساحة تقع بوسط البرتغال، عمودا من الدخان يصل عرضه إلى نحو متر (ثلاثة أقدام) مقبلا عليهم من على بعد عدة أميال. في غضون دقائق، وصل رجال الإطفاء إلى المكان، لكن سرعة انتشار الرياح والنيران كانت قد تسارعت، وهو ما جعل عرض هذا العمود يصل إلى قرابة كيلومتر (نحو 0.6 من الميل).
وبمرور الساعات، تزايدت قوة الرياح والنيران بإيقاع متسارع، وبات عمود الدخان أشبه بسحابة رعدية داكنة بدأت في التكون على ارتفاع عالٍ في الغلاف الجوي. لكن ذلك لم يمثل إشارة مُرحبا بها تبشر بهطول الأمطار، وإنما علامة منذرة، بتكون نوع غريب من نوعه من السحب الرعدية.
الأنباء الخاصة بهذه التطورات عبرت المحيط لتصل إلى واشنطن على يد عالم استرالي، أبلغ بها خبير الأرصاد الجوية مايك فروم، الذي يعمل في مختبر أبحاث تابع للبحرية الأمريكية، ويتعاون مع وكالة الفضاء والطيران (ناسا).
ولتحليل ما يحدث، استعان فروم، الذي يعمل ويقيم في العاصمة الأمريكية، ببيانات وصور مأخوذة من بعض الأقمار الاصطناعية. وهنا بدأ يشتبه في أن السحابة الكبيرة التي تتشكل في البرتغال، والتي كانت بحلول ذلك الوقت قد صارت تلبد أجواء وسط البلاد، ربما تنتمي إلى فئة السحب الركامية الرعدية التي تتكون بفعل مصادر للحرارة مثل حرائق الغابات أو ثوران البراكين، وتُحدِث مجموعة ظواهر جوية مثل الرياح والبرق، بل وتسبب كذلك تيارات هوائية منخفضة، تقود إلى اتساع رقعة النيران على نحو مميت.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُرصد فيها هذا النوع من السحب فوق غرب أوروبا، منذ بدء تسجيل مثل هذه الظواهر الجوية. لكن تأكيد حدوث ذلك، تطلب شهورا من البحث والدراسة، بمشاركة خبراء الأرصاد الجوية في البرتغال.
ويقول فروم إن وجود تلك السحابة الركامية الرعدية يشكل “عَرَضا لشيء خطير للغاية يحدث على الأرض. فحتى تتكون سحب على هذه الشاكلة، يتطلب الأمر وجود حرائق تستشري بشكل مكثف ومجنون”.
بجانب ذلك، تتسم السحب المنتمية لهذا النوع، بأنها “أكثر ارتفاعا وغموضا وبرودة بين مختلف أنواع السحب، وهو ما يعني أن نيران الحرائق التي تسببت في تشكلها، هي في حدها الأقصى من الكثافة أيضا. ويفيد ذلك أيضا، بأن تلك الحرائق أشد كثافة وخطورة، ويصعب كذلك توقع مساراتها، مقارنة بأي حرائق أخرى، أقل منها احتداما”.
وبالعودة إلى بيدروجاو غراندي، سنجد أنها شهدت في الساعات الأولى من مساء ذلك اليوم المشهود من أيام عام 2017، حجب سحب الدخان الكثيف لأشعة الشمس، وهو ما جعل من العسير على السكان الرؤية أو حتى التنفس. كما اجتذب الحريق الهواء باتجاهه، وهو ما أدى إلى هبوب رياح بسرعة تصل إلى 117 كيلومترا/ساعة (73 ميلا/ساعة)، واهتزاز السيارات في مناطق مجاورة. بالتوازي مع ذلك، واصلت ألسنة النيران اشتعالها، لتلتهم كل ما تمر به، بمعدل بلغ – في تلك المرحلة – 4460 هكتارا من الغابات في الساعة (17 ميلا مربعا/ساعة).
لكن اللحظة الأكثر دراماتيكية وخطورة لم تكن قد حلت بعد. ففي الساعة الثامنة تقريبا من مساء ذلك اليوم، “انهارت” سحابة الدخان القاتم التي ولّدتها الحرائق، وبلغ ارتفاعها وقتذاك 13 كيلومترا (ثمانية أميال)، على طول عمودها، مما أدى إلى توليد رياح باردة انطلقت إلى أسفل، باتجاه الحريق المضطرم على الأرض، وإذكائه بالأوكسجين. وفي وقت لاحق، نقل تحقيق أُجري بتكليف من الحكومة البرتغالية، عن سكان في المنطقة وصفهم للحظة التي اندفع فيها الهواء إلى أسفل بالقول، إن الأمر كان أشبه بـ “قنبلة مفاجئة” من النار، نشرت ألسنة اللهب والشرر في كل الاتجاهات.
وتبين أن التزايد المتسارع لرقعة الحريق، مثلَّ السبب في سقوط العدد الأكبر من الضحايا الـ 64، الذين لقوا حتفهم جراء ما حدث في هذه المنطقة البرتغالية. فغالبية هؤلاء فقدوا حياتهم بعدما حاصرتهم النيران، وهم يحاولون الفرار.
ولم تكن تلك هي السحابة الرعدية الركامية الوحيدة، التي شهدتها البرتغال في يونيو/حزيران 2017، بل عانت البلاد من ثلاث ظواهر مشابهة خلال الشهر نفسه، قبل أن تواجهها مرة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته. وفي ذلك العام، بلغ عدد ضحايا حرائق الغابات في البرتغال أكثر من 120 قتيلا.
وبعدما شهدت البرتغال في يونيو/حزيران 2017، الظهور الأول لهذه السحابة الركامية الرعدية التي تكونت بفعل وجود مصادر للنيران، طُلِبَ من الخبير الإسباني في إجراء التحقيقات المتعلقة بحرائق الغابات مارك كاستيلنو، دعم التحقيق الذي أجرته السلطات البرتغالية وقتذاك، لكشف ملابسات ما حدث. واستفاد كاستيلنو، وهو رجل إطفاء مدرب ومهندس مدرب في هذا المجال أيضا، من خبرته التي اكتسبها بفضل مشاركته في الدراسة الميدانية، لعدد من حرائق الغابات الكبيرة التي وقعت في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأستراليا والأمريكيتين منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، مُحاولا فهم طبيعتها على نحو أفضل.
ورغم أن كاستيلنو عَلِمَ مسبقا أن حرائق الغابات، تشكل حدثا شائعا ومعتادا في البرتغال، فإنه كان يدرك أيضا أنها لم تكن تقع على هذه الشاكلة. كما أن السحب الرعدية الركامية التي تكونت في سماء البرتغال في ذلك العام، بدت له مألوفة بشكل يبعث على القلق.
فقبل خمسة شهور من ذلك، قاد كاستيلنو فريقا تابعا للاتحاد الأوروبي، لإجراء تحقيق بشأن حرائق غابات هائلة اجتاحت منطقة ماولي التشيلية، الواقعة على بعد نحو 270 كيلومترا (168 ميلا) إلى الجنوب من العاصمة سانتياغو. ويقول هذا الخبير الإسباني إن حرائق تشيلي تشابهت مع نظيرتها التي شبت في البرتغال، في أن وتيرتها تسارعت هي الأخرى بشدة وبشكل مفاجئ. فقد شبت في 15 يناير/كانون الثاني 2017، وبعد ذلك بعشرة أيام اتسعت رقعتها بواقع أربعة أضعاف وعلى نحو مباغت، لـ “تنتشر على امتداد 110 ألف هكتار (425 ميلا مربعا) خلال ليلة واحدة”.
وفي إطار تحقيقاته، تتبع كاستيلنو مسار الحرائق وحلق فوقه على متن إحدى المروحيات، في مسعى للعثور على أدلة ومؤشرات تفسر له ما جرى. وفي ذلك الوقت، تبين له وجود نمط مميز، يتمثل في صفوف من الأشجار، سقطت كلها صوب الاتجاه نفسه. كما وجد أشجارا لا تحمل أي علامات، تفيد بأن ألسنة اللهب بلغت قممها، كما يحدث عادة عند اشتعال حرائق مستعرة. وبدا ذلك مؤشرا على أن الحرائق ظلت في مستوى منخفض قريب من الأرض بشكل عام، وأنها أوجدت نظاما لدوران الهواء خاصا به، وهو ما ولّد رياحا قوية بما يكفي لإسقاط الأشجار.
ويقول كاستيلنو: “لقد أدركنا أن هذا لم يكن يمثل سلوكا مألوفا لحرائق الغابات، وأن الطاقة التي تسببت في حدوثه لا بد أن تكون قد أتت من مصدر آخر. إذ كان ذلك يعني وصول هواء بارد للحريق. ولا يمكن أن يحدث هذا سوى من خلال جلب هذا الهواء بشكل رأسي، أي عبر اجتذاب الحريق للهواء من مناطق أكثر ارتفاعا في الغلاف الجوي، بما يؤدي لانتشار ألسنة اللهب على الأرض. ومن شأن ذلك جعل هذه النيران قادرة على إحراق مساحات أكبر بشكل كامل، وتوليد قدر أكبر من الطاقة التي تساعد على دفع أعمدة الدخان إلى ارتفاعات، تجعلها تلامس فيها الهواء البارد”.
ويضيف: “في كل مرة يتضاعف فيها ارتفاع عمود الدخان، تتضاعف قوة الرياح على الأرض بواقع ستة أضعاف. ويعني ذلك أن قوة الرياح قد تزيد (بسرعة) مما يتراوح ما بين 5 – 10 كيلومترات/ساعة (3 – 6 أميال/ساعة) إلى 150 كيلومترا/ساعة (93 ميلا/ساعة)”.
من جهة أخرى، لم تقتصر أوجه الشبه بين ما حدث في منطقة ماولي التشيلية وبيدروجاو غراندي البرتغالية، على أن كلتيهما شهدت رياحا عاتية. فقد رُصِدَت في ماولي كذلك، عملية “انهيار” تلك السحابة الركامية الرعدية، على نحو مماثل لما وصفه القرويون البرتغاليون. لكن اللافت أن الأحوال الجوية غير المعتادة التي سببتها حرائق الغابات، امتدت في حالة تشيلي إلى دول أخرى كذلك. فقد وصل الدخان المنبعث جراء الحرائق، إلى نقطة تبعد نحو ألف كيلومتر (620 ميلا) إلى الشمال من ماولي، تحديدا إلى مناطق تقع قبالة جزر خوان فرنانديز، وهو ما أدى – حسبما قال كاستيلنو – إلى أن تتقلص معدلات الرطوبة هناك من 90 في المئة إلى 20 في المئة، وتقل درجات الحرارة بنحو ثلاث إلى أربع درجات مئوية.
ويوضح الرجل بالقول: “لا تمضي حرائق (مثل هذه)، فيما يتعلق بالظروف الجوية المصاحبة لها والناجمة عنها، على الشاكلة التي يمكن لنا توقعها وفقا للنماذج المعتمدة لدينا. فهي لم تعد تتحرك وفقا للعوامل الخاصة بالطبوغرافيا واعتبارات الأرصاد الجوية” وغيرها. بدلا من ذلك “تمضي هذه الحرائق على نحو يلائم أحوال الطقس الذي تسببه هي نفسها، ما يعني أيضا أنه لن يصبح بوسعنا توقع ما الذي سيكون عليه الطقس عند اندلاع أحدها”.
وفي السنوات الثلاث التالية لتلك الحرائق التي شبت في البرتغال وتشيلي، طُلِبَ من كاستيلنو المشاركة في دراسات وتحقيقات، تناولت سحبا رعدية ركامية تكونت بفعل وجود مصادر للنيران، وغير ذلك من الظواهر المترتبة على حرائق الغابات ذات الطابع الحاد والمكثف، في دول مثل جنوب أفريقيا وأستراليا وبوليفيا، وفي ولاية كاليفورنيا الأمريكية كذلك، وهي البقعة التي زارها الرجل ثلاث مرات لهذا الغرض. وبعدما كان عدد التحقيقات التي يجريها كاستيلنو بشأن أمور مثل هذه لا يزيد على اثنين أو ثلاثة في تسعينيات القرن الماضي، بات العدد في الوقت الراهن يصل إلى 83 تحقيقا، كلها لا تزال مفتوحة.
ويمثل فهم السحب الرعدية الركامية التي تتكون بسبب وجود مصادر للنيران، الشاغل الرئيسي لـ ” كاستيلنو” في الوقت الحاضر. ويقول في هذا الشأن إن تحليل هذا النوع من السحب “أمر بالغ الأهمية، إذ أن نجاحنا في بلورة توقعات دقيقة بشأنها، سيجعل بوسعنا حماية أنفسنا (من أي تبعات سلبية لها). وما لم يحدث ذلك، يمكن أن نفقد كل شيء”.
ويحذر كاستيلنو من أن تحول المناخ إلى الدفء، وتغير أساليب إدارة الأراضي والتعامل معها، قد يؤديان إلى أن تشهد مناطق شمال أوروبا قريبا هذا النوع من الوقائع، التي ترتبط فيها حرائق الغابات الهائلة بتغيرات في الأحوال الجوية. ويعلق هذا الخبير الإسباني آماله في الوقت الحالي، على عالم يُدعى مارك فيني، يعمل في مختبر ميسولا لعلوم الحرائق في ولاية مونتانا الأمريكية، وهو المختبر الوحيد المخصص في الولايات المتحدة، لإجراء تجارب على حرائق الغابات.
ويقود فيني فريقا يضم خبراء من مختلف أنحاء العالم، يتخصصون في الأرصاد الجوية وتحليل سلوك حرائق الغابات، ومن بينهم كاستيلنو بطبيعة الحال. وقد طوّر فيني نموذجا، يجعل بوسعه أن يتوقع بشكل أدق، التأثيرات التي يمكن أن تُخلّفها حرائق الغابات الهائلة بشدة، على أحوال الطقس، وذلك لأن الأمر ينطوي على تحدٍ كبير، كما يقول هذا الرجل، إذ أن الحرائق قابلة للتأثر بأدنى تغيير محتمل، في البيئة المحيطة بها.
ويمضي فيني قائلا: “نحلل الأمور إلى عناصرها الأساسية في المختبر، لكي يتسنى لنا فهمها. ونفكك الحرائق بشكل أساسي إلى جزئيات، أملا في أن نفهم كلا منها على حدة وبشكل مستقل، قبل أن نعيد تجميعها معا، في نموذج بسيط للغاية”.
ويوضح بالقول إن أي نيران مهما كان حجمها تُحدِثُ – في الأساس – تغييرات في طبيعة تدفق الهواء من حولها، وكذلك في الطقس السائد في المنطقة التي توجد فيها، حتى وإن كان الأمر يتعلق بلهب شمعة. فهذا اللهب يؤدي إلى تسخين الهواء، وهو ما يقود إلى تمدده وارتفاعه، ليحل محله هواء أكثر برودة ينجذب ناحية النيران.
ويوضح فيني قائلا : “كلما زاد حجم الحريق، زادت مساحة الغلاف الجوي التي يغطيها. ومن شأن وصول الحريق إلى حجم كبير بما يكفي، إحداث ردود فعل مختلفة ذات صلة بالغلاف الجوي”.
ويشكل تكوّن الغيوم والسحب واحدا من ردود الفعل هذه. فالرطوبة الناجمة عن حدوث الحريق، ترتفع حتى تصل إلى مستوى الهواء البارد، وهناك تبرد بدورها وتتكاثف لتكوين سحب بيضاء ركامية كبيرة وغير ضارة. لكن الأمر يختلف، إذا كان الحريق مستعر بشدة، فحينها تندفع الرطوبة بفعل الحرارة والطاقة إلى ارتفاعات أعلى، حتى يتحول الماء إلى جليد في طبقة الستراتوسفير، الواقعة على ارتفاع يتراوح ما بين 10 – 50 كيلومترا من الأرض (6 – 31 ميلا)، وهي الطبقة التي تمتد في المنطقة التي ينتشر فيه غاز الأوزون.
ففي كل مرة تتبدل فيها الرطوبة من الحالة الغازية إلى السائلة، ثم تتكاثف في شكل جليد، يتولد قدر أكبر من الطاقة نتيجة لذلك، وهو ما يدفع السحابة إلى ارتفاعات أعلى، ويخلق ما يمكن أن نسميه ردود فعل مواتية.
ويقول فيني في هذا الشأن: “في مرحلة ما، يصل ارتفاع السحابة إلى مستوى تفقد فيه الطاقة اللازمة لمواصلة التحرك إلى أعلى. ينتهي بك المطاف مع كثير من جسيمات الدخان، التي يمكن أن تصبح نواة لتكاثف عناصر أخرى حولها، سواء كانت قطرات سائلة أو قطعا ثلجية صلبة. ويؤدي ذلك إلى زيادة حجم هذه النوى، سواء كانت في صورة سائلة أو صلبة”، قبل أن تبدأ في التساقط على الأرض، بمجرد أن يصبح وزنها أثقل، من أن تظل عالقة في الهواء.
وفي هذه المرحلة، تمضي العملية في الاتجاه العكسي، حيث تشهد تحول الثلج إلى ماء ثم إلى غاز، كلما جرى امتصاص قدر أكبر من الطاقة.
ويشير فيني إلى أن ذلك يقود إلى تدفق تيارات الهواء بشكل أسرع “ما يفضي إلى حدوث هذه التيارات الهوائية المنخفضة، التي تصطدم بالنيران وتبدأ في نثر ألسنتها في كل مكان. كل هذا بسبب الماء، إن لم يكن لديك ماء من الأصل، لم يكن أي من ذلك سيحدث”.
وبرأي كاستيلنو، يشكل ذلك أحد الأسباب، التي تؤدي إلى تشكل العدد الأكبر من السحب الرعدية الركامية التي تتكون بسبب وجود مصادر للنيران، في أجواء دول مطلة على مسطحات مائية. فالبرتغال تطل على المحيط الأطلسي، بينما لدى تشيلي وولاية كاليفورنيا الأمريكية سواحل على المحيط الهادي، فيما تجمع جنوب أفريقيا بين الإطلال على المحيطيْن الأطلسي والهندي. أما استراليا فهي مطوقة بطبيعة الحال بالمياه بشكل كامل. وفي عام 2020، وقع عدد كبير من أسوأ الحرائق التي شهدها هذا البلد، قرب السواحل.
وبحسب فيني، تؤدي تيارات الهواء المنخفضة التي تشملها هذه الظواهر الجوية، إلى دفع المواد المحترقة في بعض الأحيان لعدة كيلومترات، قبل أن تسقط على مناطق بعيدة عن تلك التي تشهد الحرائق الأصلية، ما يؤدي لاندلاع حرائق جديدة.
بجانب ذلك، قد يؤدي تكون هذا النوع من السحب الركامية الرعدية، إلى التسبب في اندلاع حرائق جديدة بطريقة أخرى. إذ أن تشكلها يقود، كما يقول فيني، إلى توليد صواعق برق. وفي غمار هذه الصواعق “تنطلق صاعقة من السحابة، لتقابلها أخرى قادمة من (الحريق المستعر على) الأرض”.
لكن للسحب الركامية الرعدية التي تتكون بفعل وجود مصادر للنيران، فوائد كذلك، قد تسهم في إخماد الحرائق. فبخلاف غالبية العواصف والسحب الرعدية الأخرى، لا تقود هذه السحب – في غالبية الأحيان – إلى سقوط أمطار، نظرا إلى أن جسيماتها الموجودة في الهواء، تسفر عن تكون قطرات ماء صغيرة، تتبخر قبل وصولها إلى سطح الأرض.
ويسعى فيني في الوقت الحاضر، إلى بلورة نموذج يساعد على توقع بعض من هذه التطورات، قبل حدوثها على أرض الواقع، بما يعطي الفرصة للمسؤولين عن الإطفاء وعن إدارة الأراضي التي تجتاحها النيران كذلك، للتصرف بسرعة عند اندلاع حرائق كبيرة.
ويقول مايك فلانيغان، العالم الكندي في مجال المناخ بجامعة ألبرتا، إن حرائق الغابات الهائلة قد تؤثر على المناخ، وذلك على مستوى المنطقة التي تشب فيها، على الأقل. ويحذر فلانيغان من أن ظاهرة التغير المناخي تؤدي منذ 20 عاما على الأقل، إلى حدوث عدد أكبر من حرائق الغابات الأكثر شدة، وذلك عبر تقليص نسبة الرطوبة في أنواع الوقود المختلفة، وإطالة أمد موسم الحرائق، فضلا عن إمكانية تسببها في حدوث عدد أكبر من صواعق البرق.
لكن فلانيغان يشير في الوقت نفسه، إلى أن المعلومات المتاحة بشأن الدور الذي تلعبه حرائق الغابات في تغير المناخ، لا تزال محدودة. ويقول في هذا الصدد: “هناك الكثير من الضوابط والتوازنات والكوابح في نظامنا المناخي. بعض الأشياء التي تجلبها الحرائق، تؤدي إلى رفع درجات الحرارة، بينما يقود بعضها الآخر للعكس تماما”.
وبينما يقول البعض إن التأثيرات المُبرّدة للرياح، تفوق نظيرتها التي تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، يعتقد آخرون أن العكس هو الصحيح. لكن البت في هذا الصدد برأي جازم، لا يزال أمرا بعيد المنال. فـ “الأمر ينطوي على كثير من الأجزاء المتحركة، ولهذا لم يتم حسم الخلاف الناشب في هذا الشأن، بشكل كامل حتى الآن”.
فبحسب فلانيغان، يفضي إحراق الوقود إلى إطلاق الكثير من الغازات المُسببة للاحتباس الحراري، وهو ما يسهم في رفع درجة حرارة الأرض، خاصة إذا كان الأمر يتضمن احتراق “الخُث”، وهي نباتات متفحمة غنية بالكربون. لكن طبيعة دور مواد تُخلّفها الحرائق مثل السناج أو الكربون الأسود في هذا المجال، لا تزال غير واضحة بشكل كافٍ.
ويوضح عالم المناخ الكندي رؤيته في هذا الشأن بالقول: “يلعب الكربون الأسود دورا شديد الفعالية في رفع درجة حرارة الغلاف الجوي، سواء بشكل مباشر (عبر امتصاصه) لأشعة الشمس، أو من خلال سقوطه على قطع الثلج والجليد نظرا إلى أن الأسطح سوداء اللون تمتص الإشعاعات الشمسية، بينما تعكسها نظيرتها البيضاء. لكن على الجانب الآخر، يحجب الدخان أشعة الشمس، ويمكنه أن يغطي مساحات واسعة من الكوكب، ما يسبب تراجعا في درجات الحرارة في هذه المناطق”.
ويحدث ذلك نتيجة إيصال السحب الرعدية الركامية التي تتكون بسبب وجود مصادر للنيران، بعض المواد لطبقة الستراتوسفير، التي تتسم بأنها من بين الأجزاء المستقرة للغاية في الغلاف الجوي، وهو ما يسمح للجسيمات بالبقاء فيها لفترة أطول. وكلما زادت كمية الدخان الموجودة في الستراتوسفير، أصبح مفعول التبريد الناجم عن ذلك، أكثر شدة.
وفي هذا الإطار، يستشهد فلانيغان بإحدى الدراسات، التي أظهرت أن الدخان المنبعث من حرائق الغابات التي شهدتها استراليا في مطلع عام 2020، حجب قدرا من أشعة الشمس، على نحو فاق ما تسبب فيه أي من الحرائق الموثقة التي وقعت في هذا البلد من قبل. وبدا تأثير تلك الحرائق الأسترالية، مماثلا لما يمكن أن ينجم عادة عن ثوران بركاني متوسط القوة.
ويضيف عالم المناخ الكندي بالقول، إن انخفاض درجات الحرارة، بسبب عوامل مرتبطة بمثل هذه السحب الركامية الرعدية، يمكن أن يستمر لفترة تتراوح ما بين شهر وعام، وأن نطاق هذا التأثير قد ينحصر في قارة، أو يشمل نصف الكرة الأرضية بأسره فـ “كل هذه احتمالات قائمة”. لكن هل يرى فلانيغان، أن الأرض تتجه نحو مستقبل، يسوده انخفاض لدرجات الحرارة على نطاق كوكبي، بالنظر إلى ما تسببه ظاهرة التغير الحراري، من تزايد في عدد حرائق الغابات الأكثر كثافة وحدة؟
يجيب فلانيغان بالقول: “إذا طُرِحَ عليّ هذا السؤال قبل بضع سنوات، كنت سأجيب بـ `كلا على الأرجح`. لكنني الآن سأقول `نعم` فقد غيرت رأيي”.
وإذا عدنا إلى خبير الأرصاد الجوية مايك فروم، الذي يعمل في العاصمة الأمريكية واشنطن، فسنجده قد رصد باستخدام الأقمار الاصطناعية، وصول دخان الحرائق إلى طبقة الستراتوسفير فوق استراليا عام 2020. كما ساعد في رصد سابقة أخرى، تتعلق ببعض ظواهر الأحوال الجوية، الناجمة عن حرائق الغابات.
فقد تكونت “فقاعة” من الدخان تمتد لنحو ألف كيلومتر (620 ميلا)، والتفت تدريجيا حول الأرض بشكل بيضاوي. وقد تشكلت هذه “الفقاعة” بفعل عمود من الدخان، ارتفعت درجة حرارته بشدة، إلى حد أنه ولّد منظومة خاصة به تتعلق بما يُعرف بـ “دوران الغلاف الجوي”، كما يقول فروم. ويشير هذا الخبير في الأرصاد الجوية، إلى أنه يشتبه في أن تلك التطورات نتجت عن سحب ركامية رعدية يتراوح عددها بين واحدة وثلاث، رغم أنه يردف بالقول إن العلماء، لم يتحققوا من صحة هذا الافتراض بعد.
ويضيف فروم: “بدأت هذه الفقاعة في الدوران في اتجاه معاكس لاتجاه حركة الأعاصير. وخلال دورانها، تحركت عبر الغلاف الجوي، وصعدت إلى أعلى كذلك، وكان بوسعنا تعقبها في مختلف أنحاء العالم. ليس لدينا حتى الآن أي نظرية (تتناول التأثير المفترض لذلك)، لكننا نتوقع بأنه قد يكون من شأنه تغيير التركيب الكيمياوي لطبقة الستراتوسفير”.
ويشير فروم إلى أن السحب الركامية الرعدية التي تتكون بفعل وجود مصادر للنيران، تتشكل على نحو مستمر، وأن العلماء لا يزالون يبحثون، عما إذا كانت هناك أدلة، تثبت أن عددها في ازدياد أم لا. لكنه يردف بالقول: “رأينا (منذ ما حدث في البرتغال عام 2017)، لا أقول اتجاها واضحا في هذا الشأن، وإنما وقائع لم نرصدها من قبل على ذلك الصعيد، أو ظهور ذاك النوع من السحب في أماكن لم نره فيها قبلا. فخلال الحرائق التي وقعت في استراليا عاميْ 2019 – 2020، رأينا مجموعة من هذه السحب؛ كانت ذات طابع أكثر دراماتيكية من المعتاد، سواء في حجمها أو عددها أو كثافتها، مقارنة بما كان يحدث سابقا، على الأقل خلال عصر الأقمار الصناعية”.
ورغم أن ذلك يشكل، حسبما يقول فروم، أحد الجوانب الكثيرة التي يتعين استكشاف ملامحها فيما يتعلق بالظواهر الجوية الناجمة عن حرائق الغابات، فإن هذا الرجل، يشير إلى أن المحور الرئيسي للبحث الآن، يتعين أن يتمثل في الربط بين تلك الظواهر وما يحدث على الأرض، قبل أن يصبح أكثر شدة وتطرفا.
[ad_2]
Source link