ماذا تعرف عن البلد الذي يذهب فيه الناس إلى الحانات لشرب الحليب؟
[ad_1]
- غلوري إرباجيزا
- بي بي سي
حانات الحليب الفريدة من نوعها في رواندا تعكس حقيقة غير معروفة على نطاق واسع، وتكشف مدى أهمية الأبقار والحليب في ثقافة هذا البلد.
كانت الساعة العاشرة صباحا في العاصمة الرواندية كيغالي، وتكتظ هذه الحانة العادية في منطقة نياروجينجي وسط العاصمة بالرواد، وقد اصطف خارجها عدد من الدراجات النارية. واستقبلني مالك الحانة، يوسف غاتيكابيسي، بابتسامة عريضة وهو يقول: “مواراموتسي!” – صباح الخير بلغة كينيارواندا، وهي اللغة المحلية في رواندا.
وحول الطاولات الأربع المشتركة الموجودة في الحانة، كان راكبو الدراجات صغار السن يجلسون إلى جانب العزاب والآباء والأمهات الذين يحملون أطفالهم الصغار. وكان البعض يأكل الفاصولياء مع خبز الشباتي الخالي من الخميرة، بينما يتناول آخرون الكعك أو الفطائر المحلاة. لكن المثير للاهتمام، أن الجميع كانوا يشربون نفس الشراب، ولم يكن هذا الشراب عبارة عن جعة أو نبيذ، فهنا في حانة “كوروهيمبي”، كما هو الحال في مئات الحانات المماثلة في أنحاء رواندا، يقدم شراب واحد فقط، وهو الحليب.
وتعتبر حانات الحليب هذه الفريدة من نوعها، والتي تميز رواندا، بمثابة الرابط الذي يجمع الشرائح الاجتماعية المختلفة في مكان واحد. إنها أماكن اللقاء لتناول الإفطار أو الغداء، والتواصل مع أشخاص من خلفيات مختلفة، وشرب كوب من “إكيفوغوتو” (حليب مخمّر) البارد المغطى بالرغوة الذي يُسكب من أسطوانة معدنية ضخمة ويضاف إليه العسل أو السكر، أو كوب ساخن من “إنشيوشيو” (حليب خام مغلي يقدم ساخنا). وفي حين أن هذه الحانات المحلية الصغيرة، قد لا تبدو أكثر من أماكن شعبية رخيصة، إلا أنها تعكس حقيقة غير معروفة على نطاق واسع عن مدى أهمية الأبقار والحليب في الثقافة الرواندية.
ونظرا إلى أن حوالي 70 في المئة من سكان رواندا يعملون في القطاع الزراعي، فإن الأبقار تعتبر من الأصول الاقتصادية في البلد، كما أنها رمز للثروة والمكانة الاجتماعية في المناطق الريفية.
وحين تريد أن تتمنى الخير لشخص ما في رواندا، تقول له “جيراينكا” (أرجو أن تصبح لديك بقرة) أو “أماشيو” (أرجو أن تصبح لديك آلاف الأبقار)، أما رده فيكون “أماشونغور” (ولديك الآلاف من إناث الأبقار). وعندما تريد التعبير عن امتنانك العميق تقول: “نغوهاينكا” (أقدم لك بقرة).
كما أن العديد من الرقصات الرواندية التقليدية مستوحاة من الأبقار. وفي رقصة “أوموشايايو”، التي غالبا ما توصف بأنها بمثابة الباليه الرواندي، تحاكي النساء حركات الأبقار اللطيفة بينما يظهرن جمالهن ورشاقتهن. وفي رقصات أخرى مثل رقصتي “إيكينيمرا”، و”إيجيشاكامبا”، يرفع الرجال والنساء أذرعهم إلى الأعلى لمحاكاة قرون البقر.
في الواقع، تحظى الأبقار بتقدير كبير هنا لدرجة أنه من الشائع دمج اسم هذه الحيوانات في أسماء الأطفال، وتحظى أسماء مثل مونغانينكا (ثمين مثل بقرة)، وكانيانا (بقرة صغيرة)، وجيراماتا (حلوب) بشعبية كبيرة في رواندا اليوم. وفي حانات الحليب أو الأسواق أو أي مكان آخر، حين يرغب الروانديون بإطراء امرأة وجعلها تحمر خجلا، يقولون ما معناه “عيناك مثل عيني عجل”.
ووفقا لموريس موغابواغاهوندي، الباحث في التاريخ والأنثروبولوجيا في أكاديمية التراث الثقافي الرواندي، فقد كان الروانديون تاريخيا يتبادلون الأبقار في احتفالاتهم العائلية المهمة. وتقليديا، كانت الأبقار تقدم لعائلة الزوجة كجزء من المهر، وعندما تلد إحدى تلك الأبقار لاحقا، يُقدم العجل هدية للزوجين الجديدين لمساعدتهما على تأسيس أسرتهما الخاصة.
ورغم أن هذا التقليد لا يُمارس الآن إلا في أجزاء معينة من البلاد، إلا أنه في كل حفل زفاف رواندي تقليدي، لا تزال عائلة العريس تقول مهنئة “نقدم لكم آلاف الأبقار”، أو “نمنحك بقرة وعجلها”، حتى لو لم يكن هذا هو المقصود حرفيا.
ويوضح موغابواغاهوندي أن الأبقار كانت تُستخدم كشكل من العملة المتداولة في المنطقة التي تعرف اليوم برواندا خلال الفترة من القرن الخامس عشر وحتى عام 1954حين أنهى الملك موتارا الثالث رودهيجوا هذا التداول. وكان الخدم من الرجال الذين يطلق عليهم اسم “أباغاراجو” والخادمات المعروفات باسم “أباجا” يعملون في منازل العائلات الثرية ويقومون برعاية أبقارها وتخمير الحليب، إضافة إلى واجبات أخرى، ويحصلون على أبقار مقابل عملهم.
ويُستهلك حليب الأبقار في رواندا، ويقول موغابواغاهوندي إن بيعه كان يعتبر من المحرمات تاريخيا، بل “عار” أيضا، لأنه أثمن من أن يكون سلعة تباع وتشترى.
ويقول موغابواغاهوندي: “بشكل عام، كانت البقرة الواحدة في رواندا تنتج ما بين لتر إلى لترين من الحليب يوميا. ولم يكن الحليب يكفي الأسرة. ويعود السبب الأساسي في ذلك إلى أن الأبقار كانت تعتمد في تغذيتها على العشب فقط، من دون أن تعطى أي مكملات لزيادة إنتاجها من الحليب كما هو الحال الآن”. لذلك، ومنذ القرن السابع عشر، وبأمر من الملك ميبامبوي جيسانورا، دأبت الأسر الغنية التي لديها أبقار وحليب على مشاركة إنتاج أبقارها مع جيرانها من الفقراء.
ولم يبدأ الروانديون بيع الحليب إلا في أوائل القرن العشرين، عندما استعمرت الإمبراطورية الألمانية بلادهم. وأُجبر الروانديون حينها على السفر لمسافات طويلة ليعملوا في بناء الطرق والمدارس والكنائس باعتبارهم جزءا من مستعمرة شرق أفريقيا الألمانية. وبدأ التجار من جنوب السودان وأوغندا وتنزانيا، والذين سافروا مع الألمان، ببيع الحليب للعمال الروانديين (كانوا يشترون الحليب من الأهالي الذين يعيشون بالقرب من مواقع البناء) كطريقة لتوفير تغذية لهم خلال فترة ابتعادهم عن منازلهم.
وسرعان ما أدرك الروانديون أن شراء الحليب وبيعه ليس من المحرمات، وبدأوا في بيعه لبعضهم، في الأسواق المفتوحة أولاً. واعتبارا من عام 1907 تقريبا، بدأوا بيعه في متاجر مغلقة مخصصة لذلك، والتي تعتبر الشكل الأولي لما تطور لاحقا ليصبح حانات الحليب.
ويقول موغابواغهوندي إن “تجارة الحليب ازدهرت في عام 1937، عندما افتتح الملك رودهيجوا مصنع حليب نيابيسيندو، وهو الأول من نوعه في البلاد. وكانوا يشترون الحليب من الناس ويحفظونه ويبيعونه، إلى جانب منتجات الألبان الأخرى مثل الجبن والزبادي”.
ومع ذلك، استمرت ندرة توفر الحليب في رواندا طوال معظم سنوات القرن العشرين. ووفقا لموغابواغهوندي، وجدت دراسة أجراها جوزيف روانياغاهوتو عام 1961 أن المواطن الرواندي العادي يستهلك 12 لترا من الحليب فقط خلال عام كامل.
ويقول موغابواغهوندي: “بدأت هذه الندرة في إنتاج الحليب تتغير في أواخر الثمانينيات، عندما بدأت الحكومة في استيراد سلالات محسنة من الأبقار المنتجة للحليب مثل أبقار هولشتاين فريزيان”. لكن في كارثة مأساوية، ذُبح ما يقدر بنحو 90 في المئة من الماشية في رواندا خلال الإبادة الجماعية عام 1994.
ومع التوسع العمراني الكبير الذي شهدته كيغالي بعد الإبادة الجماعية، لم يعد لدى سكان العاصمة مساحات كالسابق ليربوا فيها الأبقار، وبدأت الحانات المخصصة للحليب في الظهور كطريقة لتزويد سكان المدينة ببديل للحليب المجفف أو المبستر الذي كانوا يشترونه من المتاجر.
تقليديا، كان الحليب الخام (غير المبستر) المغلي والمفضل لدى الروانديين يحفظ دائما في غرفة منفصلة عن تلك المخصصة للكحول لأنه يعتبر مقدسا. وهكذا، عندما أعادت رواندا تجميع نفسها في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، أصبحت الحانات الحديثة مخصصة بالكامل للحليب، يقدم فيها حليب “إيكيفوغوتو” الكثيف وحليب “إنشيوشيو” ذي اللون الأصفر، في حين اختفت منها الخمور.
ويعتقد موغابواغاهوندي أن عدد حانات الحليب بلغ ذروته بين عامي 1998 و2000. ومع ذلك، وبينما كان حب الروانديين للأبقار يزداد عمقا، فإن حانات الحليب المستقلة بدأت تختفي رويدا رويدا مع تحول مزيد من الناس إلى محلات السوبر ماركت لشراء الحليب المبستر المخفف بالماء والذي يباع في علب كرتونية ويمكن الاحتفاظ به لفترة أطول بكثير.
علاوة على ذلك، في عام 2006، أطلقت الحكومة الرواندية برنامج “جيرينكا” (الكلمة تعني حرفيا: فليكن لديك أبقار) على مستوى البلاد، بهدف منح الأبقار للأسر الفقيرة كمبادرة للقضاء على سوء التغذية لدى الأطفال. وبحلول عام 2020، جرى توزيع نحو 400 ألف بقرة، ورغم فائدة البرنامج غير القابلة للشك، إلا أنه يعني أن عددا أقل من الروانديين أصبحوا يشعرون بحاجة للتوجه إلى حانة الحليب في حيّهم.
وتعتقد إيفيت موريكاتيت، التي تدير حانة الحليب “جيرا أماتا” في منطقة كيكوكيرو جنوبي شرق كيغالي، أن عملها لم يعد مربحا اليوم كما كان عندما افتتحت حانتها عام 2009 لأن بعض زبائنها عادوا إلى شراء الحليب المبستر من المتاجر. كما تحول آخرون إلى الذهاب إلى أحد الفروع الـ 80 من حانات الحليب التي أنشأتها شركة “صناعات إنيانيه” الرواندية للمواد الغذائية، والتي ظهرت في كيغالي منذ عام 2013. وردا على تراجع الأرباح، كما تقول موريكاتيت بدأ العديد من مالكي حانات الحليب المستقلة تقديم الطعام وتغيير حاناتهم إلى محلات سوبر ماركت أو مقاه.
واليوم، تشجع الحكومة الروانديين على تربية ماشيتهم في قرى “كرال” المغلقة أو في مزارع المواشي الكبيرة بعيدا عن المناطق السكنية، كجزء من نظام الرعي الصفري للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يعني تقديم العشب الطازج للماشية في الحظائر بدل بحثها عنه في المراعي. ونظرا لأن عددا أقل من الأشخاص الآن يربون الأبقار في منازلهم، فقد ارتفع سعر الحليب. إلا أن أشخاصا مثل موركتيت وغاتيكابيسي، يعملون على ضمان أن تبقى هذه السلعة، التي عانت من الشح في يوم من الأيام، متاحة لكل من يحتاجها.
يفتح غاتيكابيسي أبواب حانة كوروهيمبي يوميا في الساعة السادسة صباحا، وبحلول الساعة التاسعة، يكون المكان عادة قد امتلأ تقريبا. وفي هذا الوقت أيضا تصل إلى الحانة دراجة تحمل برميلين معدنيين مليئين بالحليب الخام. يُحفظ بعض الحليب في الثلاجة ليغلى في صباح اليوم التالي، بينما يُغلى الباقي على الفور. وخلال الليل، يُوضع جزء من الحليب المغلي، الذي يكون قد برد حينها، في وعاء بعد إزالة القشدة عن سطحه، ويضاف “إمفوزو” (كمية صغيرة من الحليب المخمر) إلى الحليب ليبدأ بالتخمر. ويُحفظ الحليب بعد ذلك في مكان دافئ طوال الليل لتسريع عملية التخمير، وفي الصباح، يتم تبريد حليب “إيكيفوغوتو” الذي أصبح سميكا ويقدم باردا.
ويقول باسكال كوبويمانا، الذي يواظب على التوجه إلى حانة “كوروهيمبي” يوميا تقريبا منذ عامين، إنه لن يذهب إلى أي مكان آخر. ويضيف وهو يشرب كوبا من الحليب الساخن بعد أن تناول خبز الشباتي والفاصوليا: “أحب الحليب هنا. وحين أتناوله على الإفطار يساعدني على الشعور بأنني جيد طوال اليوم. حتى أنني آخذ بعضا منه معي إلى المنزل في المساء. أطفالي يحبونه”.
أما غاتيكابيسي فيقول من خلف البار في حانته: “أشعر بالفخر لكوني أعمل في تجارة الحليب، لأن الحليب مقدس، أنا لا أحقق الكثير من الأرباح، لكنني أحب عملي”.
[ad_2]
Source link