الجزيرة الآسيوية التي تعترف بخمس هويات جنسية مختلفة
[ad_1]
- دانيال استيبل
- بي بي سي
شعب بوغيس في جنوب سولاوسي، هو إحدى المجموعات العرقية الأقوى حضورا وتأثيرا في إندونيسيا، وهو يشتهر بثقافته الفريدة التي تعترف بخمس هويات جنسية مختلفة لدى البشر. لكن مستقبل هذه الثقافة يبدو اليوم قاتماً.
تبدو جزيرة سولاوسي الإندونيسية مثل نجم بحر عملاق مسترخ في غرب المحيط الهادئ، وله أربعة أطراف زمردية تمتد إلى ثلاثة بحار، وهي سيليبس، ومولوكا، وفلوريس. وعلى طرفها الجنوبي الغربي تقع مدينة ماكاسار الساحلية، التي يخيم فوقها ضباب دخاني، وهي مركز تجاري هام وبوابة إندونيسيا الشرقية إلى العالم.
وعند الفجر، وقفت عند الواجهة البحرية وتأملت الخطوط المنحنية التي تصنعها سفن “براهو” الشراعية وهي تتقدم بأناقة وسط فوضى ميناء باوتير، لتفرغ ما اصطادته من خيرات البحر من الحبّار وخيار البحر ومخلوقات أخرى غريبة. وتعود ملكية هذه السفن إلى أشخاص من شعب بوغيس، وهو مجتمع ملاحي، ويتميز باعترافه بخمسة أشكال جنسية مختلفة للبشر.
توضح شارين غراهام ديفيز، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة موناش في ملبورن بأستراليا، أن “شعب بوغيس لديه أسماء لخمسة تصنيفات جنسانية مختلفة، وهي تحدد خمس طرق مختلفة للتواجد في العالم (من حيث الجنس)”.
وشعب بوغيس هو أكبر مجموعة عرقية في جنوب سولاوسي، ويعيش في ماكاسار ومناطق زراعة الأرز في الريف الواقع شمال المدينة، لكن براعة أفراد هذا الشعب كبحارة وتجار منحتهم نفوذا عبر كامل إندونيسيا وأرخبيل الملايو (كما أثاروا الرعب في قلوب المستعمرين الأوروبيين، الذين كانوا يعتبرونهم قراصنة برابرة عديمي الرأفة). وعلى الرغم من أن عددهم يبلغ نحو ستة ملايين فقط في بلد يبلغ تعداد سكانه 270 مليون نسمة، فإن شعب بوغيس يتمتع بنفوذ كبير وله حضور سياسي واضح: ومن الأمثلة البارزة على ذلك، يوسف كالا، الذي شغل منصب نائب رئيس إندونيسيا مرتين، ونجيب رزاق رئيس وزراء ماليزيا السابق، وكلاهما من البوغيس.
ويقول سوديرمان ناصر، الذي ينتمي إلى شعب بوغيس، وهو يعمل في مجال الصحة العامة في جنوب سولاوسي: “البوغيس من بين أقوى المجموعات العرقية في الأرخبيل، سياسيا واقتصاديا وثقافيا”.
وتشرح ديفيز أنه في مجتمع بوغيس، تشير كلمة “ماكونراي”، إلى جنس الأنثى، و”أورواني” إلى جنس الذكر، وهما موافقتان للتعريف الغربي بهذا الخصوص. في حين تستخدم كلمة “كالالاي” لوصف الهوية الجنسية لمن تولد بجسد أنثوي، لكنها تؤدي دورا ذكوريا تقليديا، وقد ترتدي القمصان والسراويل وتدخن السجائر، وتقص شعرها وتؤدي أعمالا يدوية.
أما كلمة “كالاباي” فتشير إلى من يولد بجسد ذكر، لكنه يقوم بأدوار الإناث، ويرتدي الفساتين، ويستخدم مساحيق التجميل، ويُطيل شعره.
ويقول نيني، وهو من فئة “كالاباي” من قرية سيجيري شمال ماكاسار: “يعمل العديد من الكالاباي في صالونات التجميل، كما نساعد في التخطيط لحفلات الزفاف وأداء الرقصات خلالها”.
وتوضح ديفيز قائلة إن المنتمين إلى فئة “كالاباي” لا ينتحلون شخصيات النساء، لكنهم يمارسون مجموعة من السلوكيات الأنثوية الخاصة بهم، والتي قد تثير استياء النساء العاديات من فئة “ماكونراي”، مثل ارتداء التنانير القصيرة والتدخين والتصرف بطريقة تحمل إيحاءات جنسية أكثر جرأة. وقد تعتبر فئتا “كالاباي” و”كالالاي” مرفوضتين في بعض الأوساط داخل مجتمع بوغيس نفسه، لكن عادة ما يتم التسامح معهم، وعلى نطاق واسع، بل ويعتبرون أصحاب دور مهم في المجتمع، ولا يتعرضون بشكل عام لاعتداءات أو اضطهاد داخل مجتمعهم.
الجنس الخامس في بوغيس هو “بيسو”، والذي لا يعتبر ذكرا ولا أنثى، لكنه يمثل مجمل الطيف الجنساني. وعلى غرار فئتي “كالاباي” و”كالالاي”، يعبّر الـ”بيسو”، عن هويتهم من خلال اللباس: غالبا ما يتزينون بالزهور، وهي تقليديا رمز أنثوي، لكنهم في الوقت نفسه يحملون خنجر “كيريس” الإندونيسي المرتبط تقليديا بالرجال.
ويولد العديد من المنتمين إلى فئة “بيسو” ثنائي الجنس، لكن معنى المصطلح هنا يتجاوز الوصف البيولوجي والجنساني. وبينما ينظر إلى الهوية الجنسية لدى شعب بوغيس غالبا على أنها طيف، فإن فئة “بيسو” تعتبر أعلى من هذا التصنيف: كائنات روحية، وليست ضائعة ما بين الذكر والأنثى، وإنما تجسد قوة الإثنين في آن واحد.
وتوضح ديفيز: “يُقال إنه عند الهبوط من الجنة، لم ينفصل البيسو، ليصبح ذكرا أو أنثى، مثل معظم الناس، وإنما ظل وحدة مقدسة من كليهما معا”. على هذا النحو، يُنظر إلى المنتمين إلى فئة “بيسو” على أنهم وسطاء بين العوالم، ويحتلون دورا شبيها بالشامان (الكاهن) في الطقوس الدينية لشعب بوغيس.
غادرت ماكاسار في حافلة عامة صغيرة، تُعرف باسم “بيمو”، ذات لون أزرق سماوي، ترافقني سيدة عجوز هادئة. وبينما كنا نتحرك شمالا، كانت قمم الصخور الحادة من الحجر الجيري المتداخلة مع الأدغال ترتفع نحو السماء من بين حقول الأرز المحيطة بنا. كنا في موسم زراعة الأرز، ومررنا بحقل يندفع عبره المحراث الميكانيكي الجرار، بينما يسبقه موكب احتفالي مؤلف من مجموعة من “البيسو”، الذين يمكن التعرف عليهم من خلال أرديتهم الحمراء والخضراء والذهبية وأغطية رؤوسهم المزينة بالزهور الملونة. كانت الحافلة تتابع سيرها، وقد أخذت شمس المغيب تتوهج مثل جمرة، بينما المزارعون من شعب بوغيس منحنين وسط حقول الأرز، تتبعهم ظلالهم الطويلة.
وصلنا إلى بلدة سيجيري مع حلول الظلام، وهناك لحقت بحشد من سكان المنطقة إلى منزل خشبي كبير. كان خمسة من البيسو مجتمعين في وسط الغرفة حول كومة من الأرز. وكان دخان البخور المعطر يتصاعد في المكان شبه المظلم، ولم يلبث أن تسارع صوت الطبول، وازدادت حمى الهتافات، بينما كان “البيسو” يرقصون بجنون مستغرقين في حالة من النشوة.
ثم امتشق “البيسو” الخمسة خناجرهم الكيريس، وهم لا يزالون في غمرة انسجامهم بالحالة، وبدأوا في طعن أصداغهم وراحات أكفهم بأنصالها المتموجة، بل وحتى جفونهم، دون أن يبدو عليهم أنهم يشعرون بأي ألم، وبالكاد خرجت منهم قطرة دم.
ويُعتبر أداء هذا الطقس، المعروف باسم “ما غيري”، من دون الإصابة بأذى دليلا على أن الآلهة استحوذت بالكامل على أفراد “البيسو”، وبالتالي أصبحوا جاهزين لمنح بركاتهم.
كانت الغاية من هذا الاحتفال ومن الموكب الذي سبقه في حقل الأرز، الحصول على حصاد وافر، وضمان الصحة الجيدة، والحمل الناجح للنساء، وذلك من بين عدة أمور أخرى يأمل شعب البوغيس في أن تتحقق بفضل بركات “البيسو”.
يقول إيكا، رئيس جماعة “بيسو” في سيجيري: “حين تصبح بيسو، فأنت تلبي نداء الروح. نحن نسافر في سن صغيرة للدراسة على يد شخص من البيسو، كبير في السن والمقام، ولكي نتعلم لغتنا السرية ‘باز اتو ريلانغيك’ (لغة السموات)، التي لا يفهمها سوانا”.
وبالإضافة إلى منح البركة، يشرف إيكا على تنظيم حفلات الزفاف، ويقول: “يعاملنا شعب بوغيس بكل احترام. عليهم أن يفعلوا ذلك لأننا نشرف على ممارسة جميع تقاليدهم وأعرافهم”.
وعلى الرغم من أن طقوسهم الدينية والمفاهيم التي يحملونها عن الجنس والهوية الجنسية مشبعة بأفكار تعود إلى ما قبل الإسلام، فإن معظم أفراد شعب بوغيس يعتنقون الديانة الإسلامية، والكثير منهم متدينون. ويوضح ناصر: “كانت هناك تفاعلات معقدة بين القيم السائدة لدى شعب بوغيس والتعاليم الإسلامية، وأدى هذا في النهاية إلى شكل من التوفيق بين الإسلام وتقاليد شعب بوغيس”.
على سبيل المثال، كما توضح ديفيز، يسعى كثير من الناس من شعب بوغيس إلى الحصول على البركة من “البيسو” قبل ذهابهم إلى مكة لتأدية فريضة الحج. كما تشير إلى أن العديد من المنتمين إلى فئتي “كالالاي” و”كالاباي” يعانون من صراعات مع ميولهم الجنسية وإحساسهم بذواتهم، معتقدين أن أسلوب حياتهم (الذي قد يشمل إقامة علاقات جنسية مثلية) آثم، وفقا للعقيدة الإسلامية، لكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن الحالة التي هم عليها هي نتيجة لمشيئة الله.
ولنفس السبب، ليس لديهم المفهوم القائل بأنهم ولدوا في الجسد الخطأ، على الرغم من أن بعض “الكالاباي” قد يقومون بإجراءات تجميلية تجعلهم يبدون أكثر أنوثة، إلا أنهم لا يعتبرون أنفسهم نساء، كما وجدت ديفيز خلال أبحاثها الميدانية.
بدأ الإسلام في الانتشار عبر إندونيسيا في القرن الخامس عشر بالتقويم الميلادي، لكن السكان المحليين استطاعوا طوال قرون عديدة التوفيق بين مفهوهم الخاص عن التعدد الجنسي وبين العقيدة الجديدة. وتقول ديفيز: “كان البحارة الأوروبيون يكتبون عن مشاهداتهم وآرائهم بخصوص التعدد الجنسي في جنوب سولاوسي منذ القرن الخامس عشر على الأقل”.
وفي عام 1848، كتب المستعمر البريطاني جيمس بروك في دفتر يومياته: “أغرب عادة لاحظتها هي أن بعض الرجال يرتدون ملابس مثل ملابس النساء، وبعض النساء يرتدين زي الرجال، وليس في بعض الأحيان فقط، وإنما طوال حياتهم، ويلتزمون بالقيام بمهن ومهام جنسهم المتبنى”.
وعندما زار بروك جنوب سولاوسي، تفاجأ بالمساواة الاجتماعية التي لاحظها بين النساء والرجال، وهو شعور شاركه فيه زميله الإمبريالي توماس ستانفورد رافلز، الذي يعتبر مؤسس سنغافورة الحديثة، ويلقب باسم “أب سنغافورة”.
وهناك جنس ثالث معترف به داخل المجتمعات في أنحاء إندونيسيا منذ زمن طويل، وهو “واريا” (وهو يجمع بين وانيتا، وتعني المرأة، وبريا التي تعني الرجل). ومع ذلك، فمنذ منتصف القرن العشرين، أصبح المجتمع الإندونيسي الأوسع أقل تسامحا مع الأفكار الخارجة عن الثنائية التقليدية في النظر إلى الهوية الجنسية، ما أدى إلى تعرض فئتي “كالاباي” و”بيسو” على وجه الخصوص إلى الاضطهاد. واعتبارا من خمسينيات القرن الماضي، بدأت موجة من الهجمات العنيفة ضد مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيا.
وتقول نورحياتاي رحمن ماتامينج، المختصة بفقه اللغة في بوغيس: “عندما أرادت حركة تمرد دار الإسلام بقيادة قهر مزكار إقامة دولة إسلامية في الخمسينيات من القرن الماضي، تم القبض على أعضاء فئة “البيسو” وتعذيبهم وإجبارهم على التوبة”، وحلقت رؤوس بعضهم لكي يشعروا بالعار علانية، كما قتل بعضهم”.
وتضيف ماتامينج: “خلال حقبة النظام الجديد في عهد الرئيس سوهارتو (1967-1998)، كانت هناك مبادرة تسمى عملية التوبة. أُجبر جميع أفراد بيسو على التخلي عن لاتانغ، دين أجداد شعب بوغيس، واختيار إحدى الديانات المعترف بها رسميا في إندونيسيا بدلا من ذلك”.
وفي عام 2001، أحرق متطرفون إسلاميون مقر منظمة “غايا سيليبيس”، وهي منظمة تدافع عن حقوق المثليين في ماكاسار. وفي عام 2018، ذكرت صحيفة “جاكرتا بوست” أنه تم القبض على نساء عابرات جنسياً، ووضعهن في مراكز احتجاز في العاصمة الإندونيسية، وذلك “لردع” الأشخاص الذين يُعرفون بأنهم من فئة “واريا”.
ويقول ناصر: “تعاني فئات بيسو وكالالاي وكالاباي من وصمة العار وممارسة التمييز ضدها، وهذا يتزايد للأسف مع تنامي حضور الإسلام السياسي”.
ويضيف ناصر قائلا: “على المستوى المجتمعي، هناك اتجاه قوي نحو المزيد من التقوى والتزمت، والذي يمكن مقارنته بمفهوم الولادة الجديدة بالنسبة للمسيحيين في الغرب. إن مستقبل هؤلاء المضطهدين ليس واعدا للغاية”.
ويوافق إيكا على أن المستقبل يبدو قاتما، ويقول: “عدد المعلمين المطلعين على طرق بيسو آخذ في التناقص. وكذلك اهتمام الناس بالعيش كأحد أفراد كالاباي. في المستقبل، ستكون فئة بيسو مهددة بالانقراض”.
ومع ذلك، فالتشاؤم بشأن المستقبل، ليس شعورا يتشاركه الجميع. وهناك مثلا المساهمات التي يقوم بها هاليلينتار لطيف، وهو ناشط من شعب بوغيس وفنان وعالم أنثروبولوجيا. وتسعى منظمة “لاتار نوسا” التي أسسها لطيف لإحياء ثقافة “بيسو” و”كالاباي” من خلال الحفاظ على الأدب التقليدي، وتمكين أفراد الجماعتين من الاستفادة من العوائد الاقتصادية لأدوارهم التقليدية من خلال البحث عن عمل مدفوع الأجر كفنانين للمكياج الخاص بحفلات الزفاف، ومخططين لهذه الحفلات ومتعهدي تقديم طعام في الحفلات، وكذلك معالجين في مجال الطب التقليدي.
ويقول لطيف: “في الفترة الأولى، كانت صدمة الاضطهاد التي تعرضوا لها تعني أن لا أحد يريد أن يصبح بيسو، أو يقول إنه من البيسو”.
ويضيف لطيف قائلا: “كانوا خائفين من التعرض للاعتقال أو القتل. وكان بعضهم يشعرون بالعار. الآن، بعد مرور عدة سنوات، هناك العديد من الأشخاص الذين يُعرّفون بأنهم كالاباي، وعدد أكبر ممن يفخرون بأن يطلق عليهم اسم بيسو”.
[ad_2]
Source link