كيف أنقذت الصين أكثر من 20 ألف يهودي خلال الحرب العالمية الثانية؟
[ad_1]
- رونان أوكونيل
- بي بي سي
وقعت أحداث أروع القصص في تاريخ شنغهاي في حي تيلانكياو، الذي كان بمثابة “سفينة نوح” لليهود في التاريخ المعاصر في خضم الحرب العالمية الثانية.
لمحت في قلب شنغهاي، بالقرب من ناطحات السحاب البراقة بالمدينة، مبنى عتيقا من الطوب تعلوه نجمة داوود. ومع أن الشعار اليهودي كان صغيرا وقد لا يلاحظه الكثيرون، إلا أنه يشهد على واحدة من أروع القصص في تاريخ شنغهاي، والتي دارت أحداثها هنا في حي تيلانكياو.
وكانت هذه المدينة الصينية المزدحمة الملاذ الأخير للآلاف الذين تقطعت بهم السبل في الثلاثينيات من القرن الماضي. فقد أغلقت معظم البلدان والمدن في العالم أبوابها في وجه اليهود الذين كانوا يحاولون الفرار من الاضطهاد النازي العنيف.
لكن شنغهاي، هذه الواحة متعددة الثقافات، التي كانت تحتضن سكانا بريطانيين وفرنسيين وأمريكيين وروسيين وعراقيين، كانت بين المناطق القليلة على وجه الأرض التي فتحت أبوابها للاجئين اليهود دون تأشيرة.
وقد لاذ ما يربو على 20 ألف يهودي من عديمي الجنسية بالفرار إلى كبرى مدن الصين التي تبعد أكثر من 7000 كيلومتر عن أوطانهم في ألمانيا وبولندا والنمسا، هربا من المحرقة التي وقعت في الفترة ما بين عامي 1933 و1941. ولم تكن شنغهاي ملاذا آمنا فحسب، بل كانت أيضا مدينة حديثة رسّخ اليهود الروسيون فيها أقدامهم قبل ذلك بعشر سنوات، وأقاموا المبنى الذي يحمل نجمة داوود، وهو “كنيس أوهل موشي” (خيمة موسى).
واستقبل سكان شنغهاي اللاجئين اليهود بحفاوة. وفي هذه البيئة الآمنة أقام السكان الجدد مجتمعا قويا يتضمن مدارس ومشهدا اجتماعيا ينبض بالحياة. وعمل بعض اللاجئين أطباء أسنان وأطباء بشريين، بينما أسس آخرون متاجر ومقاهي ونوادي في الحي.
لكن هؤلاء اللاجئين لم يخطر على بالهم أنهم سيقطعون هذه المسافات الطويلة ليقعوا في براثن الحليف الأقوى للنازيين. ففي عام 1941، استولت اليابان على شنغهاي. وجمعت القوات اليابانية، بإيعاز من النازيين، جميع اليهود بالمدينة في حي تيلانكياو وفرضت عليهم العزلة. ومن ثم، ظهر أول حي يهودي “غيتو” مغلق في شنغهاي.
واستحضرت هذا التاريخ الأسود بينما كنت أعاين لوحة تذكارية حجرية في متنزه هوشان بحي تيلانكياو، وهو متنزه صغير هادئ حيث الحدائق الخضراء التي تتخللها طرق متعرجة. وبدت علامات الدهشة والاستغراب على وجه مجموعة من المسنين الذين كانوا يراقبونني بينما كنت ألتقط صورا للوحة.
صحيح أن تاريخ اليهود في تيلانكياو يستقطب بعض الزوار من أنحاء العالم، لكن هذا الحي لا يزال بعيدا عن المعالم السياحية التي اشتهرت بها المدينة.
وكانت هذه المنطقة التي يتوسطها متنزه هوشان، كما تكشف اللوحة التذكارية، باللغات الإنجليزية والعبرية والماندرين الصينية، هي حي اليهود المغلق، الذي تبلغ مساحته ميلا مربعا تقريبا. وكان يعيش في هذا الحي 15 ألف يهودي في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي. وكان متنزه هوشان بمثابة غرفة جلوس عامة يتجمع فيها الكثير من اليهود نهارا.
وخلافا لبعض أحياء اليهود في أوروبا في ذلك الوقت، لم يكن تيلانكياو محاطا بأسوار، لكنه، بحسب دفير بار-غال، الصحفي الإسرائيلي والخبير في التاريخ اليهودي بشنغهاي، كان مكانا فقيرا ويبعث على الكآبة.
ويقول بار-غال: “تخيل أن تكون طبيبا أو محاميا أو ملحنا في فيينا ثم فجأة تجد نفسك عاطلا في حي مغلق في شنغهاي. فلم يكن المكان مبهجا، لكن سكانه كانوا يحاولون الحفاظ على حياتهم اليهودية بممارسة عاداتهم، كالمسرحيات والموسيقى، وكانوا يحصلون على مبالغ زهيدة نظير ذلك. لكن تيلانكياو كان يعج بمظاهر الحياة اليهودية في الثلاثينيات من القرن العشرين”.
وبحسب بار-غال، فإن اللاجئين اليهود في تيلانكياو، حتى قبل الغزو الياباني، كانوا يعانون الفقر وضيق ذات اليد مقارنة بأنماط حياتهم المرفهة في أوروبا. وتدهورت أوضاعهم بشدة بعد أن جمعهم الجنود اليابانيون من مختلف أنحاء شنغهاي وأجبروهم على العيش داخل حدود هذا الحي المغلق، ومنعوهم من مغادرته نهائيا، ولو حتى للعمل، ما لم يحصلوا على تصريح من الجنود اليابانيين، وهو أمر نادر الحدوث.
وتفشت الأمراض وسوء التغذية في المنازل الجماعية العديدة المكتظة بالسكان. ويقول بار-غال: “تدنى مستوى الحي من فقير إلى معدم، وكان معظم سكانه عاطلين ويعيشون في سكن مشترك مليء بالأسرّة ويتقاسمون المراحيض والمطابخ. ولا يتمتعون بأي خصوصية قط، ولا يكادون يجدون ما يسد رمقهم”.
وبينما قُتل ستة ملايين يهودي في المحرقة، وراح 14 مليون صيني، جنودا ومدنيين، ضحية الحرب مع اليابان التي دارت رحاها من 1937 إلى 1945، فإن معظم اللاجئين اليهود في شنغهاي بقوا على قيد الحياة. ووصف ديفيد كرانزلر، مؤرخ المحرقة، إنقاذ هؤلاء اللاجئين بأنه “معجزة شنغهاي”. ويعزو بار-غال نجاة هؤلاء اليهود إلى أنهم لم يكونوا مستهدفين من القوات اليابانية.
وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان والنازيين في عام 1945، انسحبت القوات اليابانية من شنغهاي، وغادرها اليهود سريعا، وهاجروا إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا. لكن لولا سماح شنغهاي لهؤلاء اللاجئين الذين يزيد عددهم على 20 ألف يهودي بدخول أراضيها، لما نجا الكثير منهم من كتائب الموت النازية.
واليوم، أصبح تيلانكياو حيا صينيا بامتياز، لا يكاد يعيش فيه أي سكان أجانب. وكان عدد اليهود في شنغهاي قبل الوباء، 4000 يهودي، ولا يعيش فيها الآن سوى 2000 يهودي، ولا يمت أي منهم، على حد علم بار-غال، بصلة قرابة لليهود الذين عاشوا في هذا الحي المغلق. لكن الكثير من أحفاد هؤلاء اللاجئين يزورون حي تيلانكياو الذي أسهم في إنقاذ أجدادهم.
وكان بار-غال، قبل الوباء يصطحب الزوار اليهود في جولة داخل حي تيلانكياو ليشاهدوا المباني المنخفضة المتهالكة التي كان يعيش فيها أجدادهم. وبالرغم من أنه غادر شنغهاي العام الماضي بعد تفشي فيروس كورونا، إلا أن قصة الحي اليهودي المنعزل لا يزال يحكيها متحف اللاجئين اليهود في شنغهاي الذي أقيم على أراضي كنيس أوهل موشي.
وكان هذا الكنيس اليهودي مركزا اجتماعيا في الحي إبان الحرب العالمية الثانية، ثم تحول إلى متحف في عام 2007، وأعيد افتتاحه في ديسمبر/كانون الأول الماضي وخُصص لتوثيق الدور الذي قامت به شنغهاي بوصفها “سفينة نوح” لليهود في العصر الحديث، بحسب الموقع الإلكتروني للمتحف.
وأصبحت قاعة الصلاة بالكنيس، التي لم تطرأ عليها تغيرات منذ أن كانت تستخدم بانتظام، مدخلا للمتحف. وتقول صوفيا تيان، مديرة قسم الأبحاث والمعارض بالمتحف، إن المعروضات تكشف عن بداية ظهور المجتمع اليهودي في تيلانكياو، وتسرد قصص بعض اللاجئين اليهود.
وقد استوقفتني قصة الطبيب جاكوب رونزفيلد، اللاجئ اليهودي الذي هرب من النمسا إلى شنغهاي عام 1939، وانضم لاحقا إلى صفوف الجيش الصيني في الحرب التي خاضها لصد الغزو الياباني، وعمل طبيبا ميدانيا وأنقذ حياة الكثير من الجرحى من الجنود الصينيين. وبعد أن حاز على ميداليات عسكرية عديدة من الجيش الصيني، عاد روزنفيلد إلى النمسا في عام 1949 ليجتمع شمل عائلته.
ويضم المتحف أيضا مجموعة مقتنيات جيري موسى، الذي كان في السادسة من عمره عندما هرب مع عائلته من ألمانيا إلى شنغهاي في عام 1941. وذكر موسى في إحدى الوثائق: “لولا رحابة صدر سكان شنغهاي، لكنا عشنا في بؤس وشقاء. ففي أوروبا إذا هرب يهودي، كان يُرغم على التخفي والاختباء، لكن هنا في شنغهاي يمكننا أن نرقص ونصلي ونمارس أعمالنا”.
ويشجع المتحف الزوار على التجول في شوارع الحي اليهودي، ويوفر كتيبات تعرض بالتفصيل خرائط المواقع التاريخية اليهودية في تيلانكياو التي تتضمن لافتات باللغة الإنجليزية. وعندما تجولت في شوارع الحي، تمكنت من تصور مظاهر الحياة فيه قبل 80 عاما، عندما اجتاحته القوات اليابانية.
وكان أول مبنى أصادفه هو سجن تيلانكياو القديم الضخم، فقد اعتقل اليابانيون عشرات من اللاجئين اليهود وكذلك المتمردين الصينيين خلف أسواره الحجرية السميكة. وبسبب وحشية اليابانيين، واجه اليهود والصينيون عدوا مشتركا وتقاسموا المعاناة معا.
وتقول تيان: “أقام المجتمع اليهودي علاقة من نوع ما مع سكان شنغهاي المحليين وتعاونوا معهم وأحسوا بمعاناتهم وتعاطفوا معهم. وجلبوا معهم الثقافة الأوروبية إلى شنغهاي وعاشوا في انسجام واندمجوا ثقافيا مع سكانها”.
ومررت في شارع شانغيانغ بسبعة مبان متعددة الطوابق كانت تؤوي سابقا أكثر من 3000 لاجئ يهودي في مطلع الأربعينيات، وأصبح معظمها الآن وحدات سكنية. وكانت المنطقة بمحاذاة شارعي هوشان وزوشان تعرف في الماضي باسم فيينا الصغيرة، وكانت تعد المنطقة الأكثر ثراء في حي تيلاكياو اليهودي.
وفي أواخر الثلاثينيات، كانت هذه الشوارع عماد المجتمع اليهودي في شنغهاي، وكانت تغص بالشركات والمشروعات اليهودية وتنظم فيها الحفلات والمناسبات الاجتماعية بانتظام في حديقة على سطح مبنى مسرح “برودواي” سابقا. وكان هذا المبنى مصدرا للبهجة لسكان المدينة اليهود قبل الحرب العالمية الثانية.
وكانت هذه العلاقات الودية ضرورية لرفع الروح المعنوية لأفراد المجتمع اليهودي في شنغهاي، الذين كان الكثير منهم قلقين على أفراد عائلاتهم المهددين بالموت في كل لحظة في أوروبا. وفي وقت حوّل فيه المستثمرون الحالمون بالثراء من أنحاء العالم شنغهاي من قرية متواضعة إلى خامس أكبر مدينة في العالم، لم توفر تيلانكياو للاجئين اليهود الثروة ولا الرفاهية، بل منحتهم شيئا أثمن، وهو الأمان.
والآن بعد مرور ثمانية عقود، عرفت هذه القصص المثيرة للمشاعر التي دارت أحداثها هنا طريقها للعالم. وإذا بحثت عن نجمة داوود وحيدة أو لوحة تذكارية حجرية صغيرة أو دخلت إلى الكنيس المقدس، ستتعرف على دور الصين الملهم في إيواء وحماية لاجئين يهود خائفين بلا حقوق ولا أمل في أوطانهم.
[ad_2]
Source link