أغاثا ولعنة عشتار: حب وجنس وقتل وخيانة وسط خرائب آثار العراق
[ad_1]
ما الذي يجمع كاتبة القصص البوليسية البريطانية الشهيرة، أغاثا كريستي، بإلهة الحب والحرب السومرية/البابلية عشتار (إينانا بالسومرية)، الذي دفع منتجي فيلم “أغاثا ولعنة عشتار” إلى صنع فيلمهم عنه؟ وما هي تلك اللعنة التي ينسبونها إلى إلهة الحب والحرب في بلاد ما بين النهرين؟
توحي تلك الأسئلة بمدخل مثير ومشوق بين عالمين مختلفين: أدب الجريمة والتشويق وعالم الميثولوجيا الدينية القديمة، ولكن تظل لهما سمة مشتركة تتمثل في جاذبيتهما العالية لفضول القراء والمشاهدين وتلك المسحة من الغموض والإثارة التي تغلفهما والتي دفعت كاتب السيناريو توم دالتون للجمع بينهما؛ لا سيما أن ما يوفر هذا الجمع لديه قصة حب ووقائع حقيقية عاشتها الكاتبة البريطانية في موقع تنقيب عن الآثار في بلاد ما بين النهرين “ميزوبوتاميا” في العراق المعاصر.
فقد بنى دالتون (وهو نفسه منتج الفيلم) نصه على رحلة قامت بها الكاتبة البريطانية إلى العراق عندما كانت تمر بأزمة بعد طلاقها من زوجها الأول في عام 1928، وبناء على دعوة من كاترين وولي زوجه عالم الآثار ليونارد وولي الذي كان يرأس بعثة آثارية تنقب في أور جنوبي العراق، وفي تلك الرحلة، (الرحلة الحقيقية حدثت عام 1930)، تعرفت أغاثا على ماكس مالوان المنقب الآثاري الشاب الذي كان يعمل في تلك البعثة والذي أصبح زوجها الثاني وعاشت معه حتى وفاتها في عام 1976.
وقد رافقت أغاثا زوجها مالوان في العديد من البعثات التنقيبية التي عمل فيها في الشرق الأوسط في الثلاثينيات؛ ومن بينها عمله في التنقيبات في موقع النمرود بنينوى (قرب الموصل) في شمال العراق وفي حوض نهر الخابور وفي سوريا، وأسهمت في عمليات تصوير وتوثيق الكشوف الأثرية.
وقد عاد مالوان إلى العراق بعد الحرب العالمية الثانية ليصبح أول مدير للمدرسة البريطانية للآثار في العراق عام 1949. فقد شغل التنقيب الأثري في العراق واستكشاف المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين معظم حياته المهنية، إذ عمل هناك بدءا من عام 1925 حتى عام 1958، وقد رافقته زوجته أغاثا في الكثير من رحلاته إلى هناك.
ولم ينشغل الفيلم بتلك الفترة التاريخية الطويلة، بل اقتصرت أحداثه على رحلة أغاثا الأولى إلى العراق التي تعرفت فيها على مالوان في تنقيباته الأولى عن الحضارة السومرية في أور بجنوبي العراق.
وكانت هذه الواقعة التاريخية خميرة رحلة خيالية صاغها دالتون يصعب تصنيفها في “جنرة” فنية محددة، فهي تمزج الرومانس بالتشويق والإثارة والحبكة البوليسية والكوميديا والرعب أحيانا.
وقد تبنت عرض هذا الفيلم التلفزيوني القناة الخامسة البريطانية، ضمن ثلاثة أفلام كتبها السينارست نفسه عن أغاثا كريستي. والفيلمان الأخران هما : “أغاثا وحقيقة الجريمة” الذي عرضته أواخر عام 2018 وتناول واقعة اختفائها الغامضة لمدة 11 يوما في عام 1926؛ و “أغاثا وجرائم منتصف الليل” الذي عرض أواخر عام 2020.
وقد توزع على إخراج هذه الثلاثية ثلاثة مخرجين مختلفين وأدت دور أغاثا فيها ثلاث ممثلات مختلفات، فأخرج الفيلم الأخير جو ستيفنسون، الذي مثلت دور أغاثا فيه الممثلة هيلين باكسنديل. وأخرج الفيلم الأول تيري لون ومثلت دور أغاثا فيه الممثلة روث برادلي، أما فيلم “أغاثا ولعنة عشتار” فكان من نصيب المخرج سام ييتس والممثلة ليندسي مارشال.
عكس التيار
لا شك أن لأغاثا كريستي أثرة خاصة في عالم السينما، فهي أحد أكثر الكتاب الذين أقتبست أعمالهم ونقلت إلى الشاشة في عشرات الأعمال السينمائية والتلفزيونية بل وحتى أفلام التحريك وألعاب الفيديو.
وقد وفرت غزارة إنتاج كريستي، التي تركت خلفها نحو 65 رواية بوليسية و14 مجموعة قصصية، فضلا عن ست روايات باسم مستعار؛ مادة ثرة لاستثمارها في أعمال سينمائية أوتلفزيونية أو مسرحية. (فمسرحيتها المصيدة عدت أكثر عرض مسرحي استمر تقديمه على المسرح، إذ استمرت عروضها من عام 1952 إلى عام 2020 حتى توقفت إثر توقف العروض المسرحية جراء تفشي فيروس كورونا).
وعلى العكس من هذا التيار السائد الذي يعتمد على نقل روايات كريستي إلى الشاشة والتعكز على حبكات قصصها البوليسية، سعى دالتون في ثلاثيته إلى أن تكون حياة الكاتبة نفسها هي خميرة مادته الخيالية، التي يحاول فيها أن يستعير حبكة قصصها البوليسية المشوقة ويزرعها في قلبها كبطلة بدلا من شخصيات التحري الشهيرة التي أبدعتها مثل: مس ماربل أو المحقق بوارو (هيركيول بويرو).
وفي ” أغاثا ولعنة عشتار” يبني دالتون نصه على تساؤل هو: ما الذي يحدث لو كتبت أغاثا قصة رومانسية بدلا من قصص التحري والجريمة، فيعود إلى لحظة حرجة في حياتها بعد طلاقها من زوجها الأول أرشيبالد كريستي، إثر ما يلمح الفيلم إلى أنها خيانة زوجية من جانبه، تبحث بعدها عن حياة جديدة، أو “رومانس” حسب تعبيرها في حوارها في الفيلم مع صديقتها كاترين وولي التي تدعو زوجها الآثاري وولي ليحدثها عن أن بلاد مابين النهرين التي يعمل منقبا آثاريا فيها كانت منبع مثل هذا التوجه عبر حكايات حب الألهة القديمة كعشتار ودموزي “تموز”.
ويُظهر لنا الفيلم أغاثا تتفق مع ناشريها على أن تقدم قصة جديدة خارجة عما عرفت به من قصص بوليسية، فيحددان لها شهرين لكتابتها. وتنطلق أغاثا في رحلة عبر قطار الشرق السريع إلى العراق، تلبية لدعوة صديقتها وبحثا عن مغامرة رومانسية ما، بيد أنها حال وصولها الى العراق تدخل في أجواء قصة تحرٍ بوليسية (كتلك المعتادة في أعمالها) مع وقوع سلسلة من الجرائم في موقع التنقيب عن الآثار في أور.
وهكذا يصبح مدخل دالتون المزاوجة بين “جنرتين” أو نوعين فنيين: بين رقة وحلمية القصة الرومانسية وكثافتها العاطفية، وقسوة عالم الجريمة وصرامة التحري البوليسي وما يتسم به من برود عاطفي واستنتاجات منطقية.
حب وسط الخرائب الأثرية
وحال وصول أغاثا الى موقع التنقيب ترى شخصا مصابا بإطلاقة صغيرة، نعرف لاحقا أنه المنقب الآثاري الشاب ماكس مالوان (أدى دوره الممثل جونا هاور-كينغ)، وأنه تعرض لمحاولة اغتيال بعد أن اكتشف مقتل صديق أثاري له مسموما داخل سرداب للتنقيب في الموقع الأثري وكان يحمل بيده رقيما أثريا سومريا.
فتدخل مباشرة في سلسلة من المغامرات في تلك البيئة الغريبة عليها لإنقاذه بنقله إلى طبيب محلي يستخرج الرصاصة الصغيرة من رأسه (أطلقت من مسدس صغير لن يكون قاتلا إلا إذا أطلق من مسافة قريبة جدا!)، وبعد شفائه تنتقل معه إلى منزل الآثاري وولي وزوجته التي تطلب منها مباشرة التحقيق في مقتل قردها المدلل، الذي قام أحد ما بشنقه.
وهنا تجتمع كل شخصيات القصة في مكان واحد على طريقة الكثير من قصص كريستي وسط مناخ من التشويق والجرائم المتسلسلة. وهم الآثاري وولي (الممثل جاك ديم) وزوجته كاترين (الممثلة كاترين كنغسلي)، ومارمديوك أو اللورد بونسونبي الشاب الثري غريب الأطوار الذي يمول بعثة التنقيب (الممثل روري فليك بيرن)، والدبلوماسي السير كونستانس (الممثل ستانلي تاونزند) وزوجته لوسي (برونا وو) وفتاة شابة سوداء بيرل (كريستال كلارك) تعمل مساعدة مع كاترين، فضلا عن ضابط شرطة محلي عراقي (الممثل واج علي).
وتبدأ أغاثا بالتحري في قصة مقتل القرد بمساعدة مالوان والسعي للتعرف على من حاول اغتيال مالوان وقتل صديقه المنقب الآثاري، والذي تتطور على هامشه قصة حب عاصفة بينهما، لتكتشف أن القرد قد قتل بالسم وليس شنقا كما حاول القاتل أن يوحي بذلك. وتستنتج أنه السم ذاته الذي قتل به المنقب الآثاري الذي عثر على الرقيم السومري، وانه لم يمت بلدغة أفعى كما قيل.
لكن أغاثا ومالوان يتعرضان إلى محاولة اغتيال أخرى بأصابع الديناميت أثناء ممارستهما الجنس في سرداب في موقع التنقيب الأثري.
وتعثر أغاثا على خيط أولي تحاول عبره حل لغز الجرائم يتمثل في لوسي التي تخون زوجها الدبلوماسي مع أحد الشباب الموجودين نعرف لاحقا أنه مارمديوك، وأن الزوج على معرفة بهذه العلاقة ويطلب ببرود مساعدة أغاثا في هذا الموضوع.
وتسعى أغاثا إلى أغلاق باب سرداب الموقع الأثري على لوسي لتكتشف أن للسرداب مدخلا سريا تعرفه لوسي فتربط بينها ومن حاول اغتيال مالوان داخل السرداب وتكتشف أن لوسي تعمل في سرقة الآثار وتهريبها. بيد أن لوسي تختفي خلال ذلك لنكتشف لاحقا أنها قد قتلت ودفنت في التابوت نفسه الذي كانت كاترين قد أصرت على دفن قردها فيه.
ويعلن مارمديوك عن إيقاف تمويل العمل وغلق الموقع، لكنه يُقتل لاحقا بتفجير داخل السرداب الأثري نفسه بعد أن تكشف أغاثا بعض تلك الأسرار للدبلوماسي كونستانس وتطلب منه ترتيب موعد معه في الموقع الأثري.
وعلى طريقة حبكة قصص أغاثا كريستي البوليسية المعتادة، تنتهي أغاثا هنا إلى جمع خيوط الأحداث والجرائم المختلفة وتدعو الجميع للحضور إلى الموقع الأثري لتكشف عن حبكة توضح دوافع الجرائم ومن هو القاتل؛ حيث نجد أنفسنا وسط شخصيات غارقة في الجشع والخيانة ونهب الآثار.
وتكشف أغاثا عن أن مارمديوك كان يقود عملية شخصية لنهب وتهريب الآثار وبيعها في السوق السوداء خارج سياق الاتفاقات التنقيبية وكانت عشيقته لوسي تُسهم في ذلك، وأنه تعمد إلى افتعال شنق القرد بعد نفوقه لشربه السم الذي يخفيه في غرفته والذي استخدمه لقتل المنقب الذي كشف الرقيم السومري، كما قتل عشيقته زوجة الدبلوماسي لاحقا ويستهدف كل من يعلم بسره أو يقف في طريقه.
ونعرف أن الآخرين، كل بطريقته، كانوا يعرفون بعمليات النهب تلك كما هي الحال مع المساعدة بيرل، التي تخفي نفسها بعض التحف الأثرية لديها، والضابط العراقي الذي كان يراقب وله تفسيره المختلف، والدبلوماسي الذي كان متواطئا مع مارمديوك في ايقاف التنقيب لأن الأرض مملوكة لشركة نفطية تحاول استخراج النفط من المنطقة ولايهمها كونها منطقة أثرية.
ثغرات
من الواضح أن محاولة السينارست دالتون التوفيق بين “جنرات” وأنواع فنية مختلفة وسعي المخرج ييتس إلى تتبع تلك الحبكة البوليسية المعقدة، قد ولدا بعض الثغرات في البناء الفيلمي، انعكست في صورة فجوات وقفزات وأحيانا مغالطات منطقية في زمن الفيلم وبنائه السردي، كما هي الحال مع اكتشاف جثة لوسي في تابوت القرد، في الوقت الذي كنا قد شاهدناها تقف عند دفنه، الأمر الذي يعني أن ثمة من نبش القبر واستبدل الجثة في القبر الذي هو في حديقة المنزل، وهو أمر صعب منطقيا ولم يظهر لنا الفيلم ما يشير إلى قصة الاستبدال تلك.
ونرى في مشهد أخر أن مالوان يحمل كف مارمديوك متصلبة على المسدس الصغير بعد قطعها في الانفجار الذي قتل فيه، ويحاول اختبار المسدس وإطلاق النار منه وهو في اليد المتصلبة في غرفة أغاثا للتأكد من أنه ذات المسدس الذي حاول صاحبه اغتياله، وهو مشهد بدا غير مقنع بل وكاريكاتيريا.
وكان لسعي المخرج لمزاوجة الجنرات الفنية والاستعانة بحس الكوميديا والطرافة دوره في إضعاف صرامة بناء حبكة الجريمة والإثارة، وخفف من حدة طابع التشويق والشد والتوتر النفسي الذي ينبغي أن تتوفر عليه هذه المشاهد؛ كما هي الحال مع مشهد قيام أغاثا ومالوان بتشريح جثة القرد الذي تحول إلى مشهد كاريكاتيري كليا.
وقد ترك ذلك أثره على أداء الممثلين، فبدت الممثلة ليندسي مارشال تُجاهد في تجسيد تلك التحولات المتسارعة للشخصية وانتقالاتها السريعة بين الأوضاع النفسية المختلفة. وبدا هاور-كينغ، رغم حضوره المحبب على الشاشة، مجرد شاب عاشق غرٍ وعلى قدر من السذاجة، بعيدا عن صورة المنقب والباحث الذي نذر عمره للبحث الآثاري وحقق كشوفا مهمة فيه.
كما ظهرت مشكلات المبالغة في الأداء لدى بيرن في دور مارمديوك منذ مشاهده الأولى، مما أفقد الحبكة البوليسية الكثير من جاذبيتها وجعله في مرمى ترجيح المشاهد لكونه الشخصية الشريرة في القضية؛ على العكس من أداء تاونزند في دور الدبلوماسي السير كونستانس الذي اتسم بالاتزان وبرود الأعصاب الذي يتناسب مع الشخصية التي يؤديها.
واحتوى الفيلم كذلك على الكثير من الثغرات في مجال تجسيد الواقعة والمكان التاريخي بدءا من تسمية موقع الأحداث بالبصرة، بينما تقع في الحقيقة في منطقة أور القريبة من مدينة الناصرية في جنوب العراق. وقد يرجع بعض منها إلى الظروف الإنتاجية للفيلم التي دفعت إلى تصوير معظم مشاهدة في مالطا وليس في مكان الأحداث الأصلي في العراق، لكن الكثير منها يرجع إلى قلة المعرفة بطبيعة المكان العراقي وثقافته.
ولم يكن المدير الفني للفيلم موفقا في رسم صورة مقابلة للمكان العراقي بتفاصيله، عدا واجهة المسكن المبني بالطابوق الذي يسكن فيه وولي وزوجته، ويمكن هنا رصد الكثير من التفاصيل الصغيرة في اللباس والاكسسوارات أو الأدوات، كما هي الحال مع العربة التي انتقلت فيها أغاثا بعد تعطل القطار؛ التي تنتمي إلى العربات المستخدمة في أوروبا وليس في العراق أو الشرق الأوسط.
كما لم يعنى الفيلم كثيرا باستغلال الغنى الجمالي للتماثيل والتحف الأثرية أو ضبط تفاصيلها، فحتى الرقيم الأصلي الذي يشير الفيلم إلى أنه قصيدة سومرية عن الإلهة عشتار بدا في صورة رقيم بابلي شهير يوصف بأنه خارطة بابلية للعالم تعود إلى الفترة من 500 إلى 600 عام قبل الميلاد وموجود في المتحف البريطاني (خزانة 15 رقم 27).
لقد انطلق الفيلم من مقدمة منطقية ذكية، بل وساحرة، تمثلت بناء الأحداث الواقعية مع معادل ميثولوجي لها مستعار من عوالم الأساطير القديمة، فتبدو الشخصيات وأفعالها في الواقع وكأنها تجسيد لثيمات أسطورية إنسانية خالدة. وباتت إينانا/عشتار إلهة الحب والجنس والحرب والعدالة في بلاد مابين النهرين هي المظلة التي تدور تحتها كل أحداث الصراع والجريمة والحب والجنس، (وصلت المبالغة في تصوير اهتمام الآثاري وولي وزوجته بهذا الموضوع حد تقديمهما في صورة غرائزيين ومهوسين جنسيا)، والخيانة والصداقة والسعي إلى إحقاق العدالة. كما حاول استعارة ما سماه لعنتها لوصف انغماس هذه الشخصيات في جشعها لنهب التحف الأثرية وتدمير هذه الشخصيات لبعضها البعض.
بيد أن مشكلة الفيلم الحقيقية أنه أضاع مثل الربط المميز وسط اللهاث وراء التشويق والحبكة البوليسية ووسط الثغرات التي تخللت سرده وبناءه الدرامي.
[ad_2]
Source link