انفجار بيروت: دور العبادة وإعادة إعمار بقعة التلاحم “الهش”
[ad_1]
تحلّق المئات قرب كاتدرائية القديس جرجس المارونية في وسط بيروت عام 2016، للاحتفال بإضاءة صليب فوق برجها العالي.
لم يكن في ذلك الحدث ميزة خاصة، فالاحتفالات بالشعائر المماثلة أمر شائع جداً في معظم المدن والقرى اللبنانية. يتنافس المتموّلون والمغتربون على بناء دور العبادة، والتبرع للأوقاف، وتوسيع الكنائس، وتشييد صالات جنائز، وإعلاء الرموز الدينية فوق صخور مناطقهم وتلالها، كنوع من إعلان الهويّة المذهبيّة، والمفاخرة بها.
لكن الاحتفاء الإعلامي بصليب الكاتدرائية الجديد كان كبيراً، حتى أنّ بعض القنوات المحليّة قطعت بثّها المعتاد، لتنقل مباشرة لحظة إنارة الصليب الضخم فوق بيروت. السبب هو تلك المنافسة على الفضاء العام بين الطوائف، وهي حرب ناعمة، معلنة ومضمرة في آن.
بجانب الكاتدرائية، افتتح جامع الأمين في وسط بيروت، عام 2005، وارتفعت مآذنه الأربع، وأخذت قبته الزرقاء مساحة كبرى. لهذا، كان تعزيز برج الكنيسة بصليب مرتفع، أمرا ضروريا لإعادة التوزان الرمزيّ بين الطائفتين. فأهالي بيروت الخارجين من حروب طائفية، إلى سلم رخو، يحتاجون دوماً إلى مصادقة جغرافية ملموسة على هويّتهم وعلى مكانتها في الفضاء العام.
بقعة التلاحم الهشّ
حين تقف على شرفة كاتدرائية القديس جرجس، ينكشف أمامك حقل أثريّ، هو بعض ما بقي من بيروت التاريخية التي طمرها الزلزال. تجد في ذلك المكان، تحت أبنية الوسط التجاري الحديثة، أعمدة لمنتدى روماني قديم على طرفه فناء معبد. اكتشف الأثر الروماني في التسعينيات، خلال ورشة إعادة إعمار وسط بيروت التجاري، من قبل شركة “سوليدير”.
إلى جانب مسجد الأمين، وكاتدرائية الموارنة، تحيط بالحقل الأثريّ كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، وكنيسة القديس الياس للروم الكاثوليك، ومزار سيدة النورية، وخلفها جامع منصور عساف. وبعيداً عن ذلك المربع بقليل، باتجاه ساحة النجمة، ترتفع مئذنة الجامع العمري الكبير.
قد تبدو تلك البقعة الصغيرة، أشبه بصورة “كليشيه” من كتب الترويج السياحية لبيروت. كأنها البقعة المثالية للدلالة على أسطورة الوحدة والتلاحم الهشّة التي لا يكتمل بريقها إلا عند تسميرها في صورة.
ذلك المربّع المحاط بدور العبادة، أشبه بنافذة على ذاكرة بيروت، منذ كانت أم الشرائع قبل آلاف السنين، إلى أن أصبحت مرتعاً لمكعبات الاسمنت التي غزت شوارعها خلال التسعينيات، طامسة آثار كلّ ما كان قبلها.
تلك البقعة ذاتها مسوّرة بالحواجز الحديدية التي تمتدّ من ساحة الشهداء إلى ساحة النجمة، أو تنحسر حول البرلمان، تبعاً للظرف السياسي والأمني، وذلك منذ سلسلة الاغتيالات والهزّات السياسية منذ منتصف الألفية.
وفي هذا المكان ذاته، رشّ المتظاهرون على الجدران شعارات “الثورة” على النظام في الخريف الماضي. وهنا، على حائط كاتدرائية القديس جرجس، كتب أحدهم: “تحية للرفيق يسوع”.
شواهد على تاريخ المدينة
حين زارت “بي بي سي” الكاتدرائية قبل مدّة، كانت لا تزال تنفض ركام تفجير المرفأ في 4 أغسطس/ آب عن نفسها.
كاهن الرعية الخوري جاد شلوق، يسير بين طبقات الزجاج المعشّق الذي يحتاج ترميمه إلى خبرات خاصة من حرفيين فرنسيين، يختصون بصناعة ذلك النوع من الزجاج.
شيّدت الكاتدرائية بين عامي 1884 و1894 بطلب من المطران يوسف الدبس حينها. أرادها أن تكون نسخة مصغرة من كاتدرائية ماريا الكبرى في روما، وصممها المعماري الإيطالي جوزيبّي مادجيوريه.
شهدت الكنيسة على مراحل كثيرة من تاريخ العاصمة اللبنانية بدءاً من نهاية الحكم العثماني، مروراً بفترة الانتداب، وصولاً إلى تعرضها لأضرار شديدة وسرقات لمقتنياتها خلال الحرب الأهلية. حين أعادت الأبرشية ترميمها في التسعينيات، كانت غابة صغيرة قد نبتت في داخلها، كحال عدد من بيوت بيروت الأثرية المهجورة إلى اليوم.
جاء الانفجار الأخير ليفرض على الكاتدرائية مرحلة جديدة من مراحل الدمار والترميم، بعدما أتى على كافة نوافذها الزجاجية، وأطاح بالأبواب الخشبية العملاقة، وحطّم جزءاً من قطع السقف الخشبية النادرة.
يحصي الكاهن جاد شلوق نحو 9 كنائس مارونية تضررت بشكل كبير من الانفجار، من بينها كنيسة مار مارون الأثرية في الجميزة، حيث أحيت الفنانة عبير نعمة قبل أيام سهرة ترنيم، تضامناً مع الناجين.
إلى جانب الضرر البالغ في دور العبادة، طال التفجير المدارس والمؤسسات التعليمية التابعة للأبرشية المارونية في بيروت. أضرار قد تبلغ كلفة ترميمها نحو 12 مليون دولار، وقد تتسبّب بتأخير العام الدراسي المتعثّر أصلاً بسبب إجراءات الوقاية من كورونا.
من الكنائس التاريخية المتضررة أيضاً كاتدرائية القديس جاورجيوس الأثرية للروم الأرثوذكس، على بعد أمتار من مسجد الأمين وكاتدرائية الموارنة. يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن السابع عشر، وتماماً كجارتها شهدت على كافة مراحل الخراب في بيروت.
وكانت المؤسسات الأرثوذكسية من بين الأكثر تضرراً، بعدما دمّر التفجير مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي في منطقة الأشرفية، مما أدّى إلى وقفه عن العمل لأسابيع، فيما تحوّلت الكنائس والمؤسسات الرعوية والتربوية القريبة منه إلى مبانٍ منكوبة، يجري جمع التبرعات لترميمها.
في مكتبه في منطقة الظريف، يتابع المهندس سعيد الجزائرلي أعمال ترميم بعض المساجد المتضررة في بيروت. هو يشرف منذ عقود على ترميم دور العبادة في بيروت ومناطق أخرى، إلى جانب عمله كعضو في هيئة الأوقاف السنية التابعة لدار الفتوى.
التاريخ يعيد نفسه
في ملفات الفريق الهندسي العامل معه، صور لكلّ زاوية من زوايا المساجد المتضررة، ثريات، ونقوش، وأبواب، وأسقف أثرية دمّرت.
حين التقينا الجزائرلي، كان المصلون بدأوا العودة بالتدريج إلى جامع الأمين، لكنّ الضرر اللاحق به يحتاج وقتاً ليرمم، خصوصاً أنّ عصف التفجير طاله بشكل مباشر.
يخبرنا المهندس أنّ ثريا المسجد البالغ وزنها ستة أطنان، انهارت كلّها فوق أرضيته، كما أطاح التفجير بأبوابه ونوافذه وكسوات الفريسكو.
واكب الجزائرلي مرحلة ترميم مساجد بيروت بعد الحرب، ومن المساجد التي شارك بترميمها الجامع العمري الأثري الكبير الذي يعود تاريخه إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتحوّل إلى كاتدرائية خلال الحملات الصليبية، ثمّ أعيد مسجداً في عهد المماليك.
رمّم المسجد العمري بعد الحرب، وتحوّلت الأسواق التجارية التي شكلّت بعض أقسامه إلى متحف إسلامي ومكاتب للتدريس الديني، وقد نالت نصيبها الكبير من الضرر بعد التفجير، ويقدّر المهندس كلفة إعادة ترميمها بنحو 250 ألف دولار.
الأمر ذاته ينطبق على مسجد المجيدية الذي كان قلعة بحرية، حوّلها السلطان العثماني عبد المجيد إلى مسجد في القرن التاسع عشر. دمّر المسجد خلال الحرب الأهلية، وكان قد نال نصيبه من القذائف منذ أوائل القرن العشرين. ورممته مديرية الأوقاف الإسلامية بعد الحرب، وها هي تعمل على إعادة ترميمه من جديد، كأنّ التاريخ يعيد نفسه.
وللمفارقة يتولّى الجزائرلي أيضاً ترميم مسجد أبو بكر الصديق الذي يعود تاريخه إلى عهد الانتداب الفرنسي، وذلك للمرة الثانية. وكان قد أشرف على ترميمه منتصف التسعينيات أيضاً، بعد نهاية الحرب.
يقول الجزائرلي إنّ الكثير من المتبرعين عبّروا عن نيّتهم المساهمة في ترميم أملاك الوقف الإسلامي المتضررة، لكنّه لا يخفي كلفتها الكبيرة. ويقول: “كلفة ترميم جامع الأمين قد تصل إلى 500 ألف دولار، فيما أحد مساجد منطقة الكرنتينا، دمّر بالكامل، وبناؤه من جديد قد يكلّف 3 ملايين دولار”.
“الأولوية ستكون للناس”
أحصت المديرية العامة للآثار نحو 600 مبنى أثرياً متضرراً، بحسب مديرها خالد الرفاعي. ويقول في اتصال مع “بي بي سي” إنّهم أجروا مسحاً كاملاً للأبنية المتصدعة، بحسب درجة قربها من الانفجار، ومستوى الضرر اللاحق بها، فتبين وجود 100 مبنى متصدّعاً جداَ، من بينها 45 مبنى في حالة حرجة. كما أحصت المديرية التابعة لوزارة الثقافة أكثر من 95 سقفاً قرميدياً أثرياً تحتاج لترميم قبل موسم الأمطار.
ويوضح المهندس الرفاعي أنّ المديرية بدأت بأعمال التدعيم، مع متطوعين من الجامعة اللبنانية وعدد من الجمعيات، وبدأت بترميم عدد من الأبنية غير المتضررة بشكل كبير، من بينها مساجد وكنائس، بالتنسيق مع الأوقاف. “كلّ الترميم في مدينة بيروت سيكون تحت الإشراف المباشر من مديرية الآثار، خصوصاً أنّ معظم دور العبادة مبانٍ أثرية. على سبيل المثال، كشفنا قبل مدة على موقع كنيسة الأرثوذكس، وتبرعت منظمة دولية بالمساعدة في أعمال ترميمها”.
يقول الكاهن جاد شلوق إن الأبرشية المارونية لن ترفض هبات الراغبين بالمساعدة في إصلاح الكنائس المدمّرة، “لكنّ الأولوية ستكون للناس”. فقد نصبت الأبرشية خيماً في المناطق المتضررة، وتعمل على تأمين الدعم النفسي والمادي للناجين. “قد تستغربين، لكن النسبة الأكبر من الدعم، تصلنا من أشخاص غير مقتدرين، يتبرعون بمبالغ زهيدة جداً فقط للوقوف بجانب غيرهم”.
تعمل المهندسة المعمارية جنى نخال في الأحياء المتضررة، مع عدد من المهندسين المتطوّعين، وتلفت إلى أنّ الكارثة حوّلت دور العبادة من أماكن اختلاف ومنافسة في السياق اللبناني، إلى أماكن لمساعدة الناس واحتضانهم. تقول: “من منطلق تخطيط مديني، أرى أنّ هذا التحوّل أساسي، وهو لا يعني بالضرورة إعادة تعريف لدور الأماكن الدينية، بل تعزيز لدورها المطلوب في فترات الأزمات والكوارث، بمعنى أن تقف بجانب الناس”.
الترميم لا يعني التهجير
مساحات اللقاء في بيروت قليلة، بعدما قضت الحرب على المسارح، وفرّقت فترة السلم الناس من الساحات، ورسّخت مرحلة ما بعد الإعمار الفوارق الطبقية الشاسعة، طاردة الفئات الشعبية من قلب العاصمة الذي تحوّل إلى منطقة شبه خاوية، بأبنية باهظة الثمن لا يسكنها أحد.
كانت المساجد والكنائس قبل جائحة كورونا، من أماكن اللقاء القليلة بين الناس، لكنها كانت أيضاً أداة للمنافسة على المساحة العامة، ومعيارا لتحديد من يأخذ المساحة الجغرافية الأكبر، من بين الجماعات السياسية الدينية.
وتمتدّ تلك المنافسة بحسب المهندسة جنى نخال إلى مساحات الصوت، من خلال التصادم بين أقوى صوت آذان، سواء كان شيعياً أو سنياً، وبين رنين الأجراس.
تحكي جنى نخال عن مشاهداتها عند مراجعة خرائط الأحياء المتضررة. “في كلّ مرة كنت ألاحظ مبنى بمساحة شاسعة على الخريطة، وأحاول أن أعرف ما هي وظيفته، كنت أكتشف أنه دار عبادة. عدد الكنائس والمساجد في بيروت كبير، ومساحتها شاسعة أيضاً، مقارنة مع المباني السكنية المدمّرة”.
بالنسبة للمهندسين المنخرطين في ورشة ترميم الأحياء المنكوبة، يبدو الحديث في ترميم دور العبادة، كأنه إشكالية هبطت عليهم من كوكب آخر. حين نسأل جنى عن الموضوع، تقول إنّ “التواصل الروحي بين الناس ودور العبادة كبير، خصوصاً في الصعوبات، ولكن بالنسبة لنا، من الناحية العملية على الأرض، فإنّ أولويتنا هي ترميم المنازل، ومنح المتضررين أماكن ينامون فيها، قبل أي شيء آخر”.
إذاً، تتضافر جهود عدّة بين الأوقاف، والجمعيات، والمديرية العامة للآثار، والمهندسين المتطوعين لترميم الأبنية الأثرية، والحفاظ على قيمتها، ومن ضمنها دور العبادة.
وبالنسبة لجنى نخال التحدي هو بأن “تسير أعمال الترميم بموازاة العمل على إبقاء السكان في بيوتهم”. تقول: “ما فقدته بيروت بعد التفجير لن يعود. هدفنا إبقاء الناس في منازلهم، ومنع تهجيرهم، وفي الوقت ذاته، ترميم الأبنية الأثرية. وليس في هذا الأمر أي تناقض، على عكس الخيار الذي فرض علينا بعد الحرب، حين تحوّلت إعادة الإعمار إلى طرد للناس من بيوتها ومناطقها وأملاكها”.
[ad_2]
Source link