د حسن عطية آخر الآباء النبلاء | جريدة الأنباء
[ad_1]
غادر أبي – رحمه الله – قبل أكثر من عشرين سنة، فبكيت فقده لحظتها وطوال حياتي، وغاب أبي الثاني (والد زوجي رحمه الله) قبل أربع سنوات، فبكيت فقد (التعويض الإلهي) الذي فرحت به لسنوات كانت عامرة بحضوره وطيبته وخفة دمه، وهأنذا اليوم أفقد أبي الأخير! وأبكي نهاية أسطورة (الأب) في حياتي.
ما أوجع فقد الأب.. وما أقسى الكتابة عنه، فما بالنا إذا كان الأب (حسن عطية)رحمه الله؟! رجل لا تستطيع إلا أن تحبه، ولا تنزعج منه إلا لشدة طيبته ونبله وتغاضيه حتى عن أعدائه، الذين كان بعضهم من طلبته، أو كانوا لا شيء وساهم هو في صنعهم!
يبدو أننا في زمن الفساد، سنعتاد غياب الشرفاء، وتتوارى خلفهم أحلامنا البسيطة بالعيش في عالم جميل.. كلما رحل أحدهم همست قلوبنا: لا مكان للنبلاء في عالمنا المتخم بالوجع!
د.حسن عطية، النبيل الذي ظل حتى آخر يوم في حياته يعتقد أنني وعلاء لا نعرف كنه مرضه، كنا نجاريه في تجاهل تلك الحقيقة المرة، ونتعاطى مع دخوله المستشفى باعتباره مجرد (تعب وخلاص)! احترمنا رغبته في البقاء بنظرنا (بعافيته وصحته) خشية نظرة عطف أو انكسار في عيون أبنائه الذي يعلم علم اليقين احترامهم له وهيبته في عيونهم، فكم من مرة خاطبته برجاء الأبناء عند اعتذاري عن أي مهمة يرى هو أنها إضافة لي: «والنبي يا دكتور ما تزعلش أنا هعتذر عن المهرجان ده» فيعلو صوته: «وبعدين بقى.. إنت كده هتخليني أتعصب» لكنه سرعان ما يتبعها بضحكة طويلة، ربما لأنه يستغرب من خشيتي إياه رغم كل هذه السنوات!
كنا كلما هاتفناه، علاء وأنا، تساءلنا – بعد المكالمة – إلى متى سيظل هذا الرجل نبيلا؟! إلى متى سيظل محافظا على قلبينا من الألم والوجع؟ إلى متى سنظل نوحي له بعدم معرفتنا طبيعة مرضه، وإلى متى سيظل يعتقد أننا لا نعلم؟!
أدرك أنه يعرف تأثري بمثل هذه المواقف، ربما معاناتي أثناء وفاة أستاذي د.محسن مصيلحي خير دليل على ذلك، أنا أضعف من أن أفقد عزيزا، فكيف سيخبرني بمرضه؟! وهكذا فعلت الأم الجميلة د.عايدة علام، بمشاركتها في إخفاء المرض أيضا، وإشارتها الى مرضه بمفردة «العيا».
أتساءل بيني وبين ذاتي: ألا يعلم أستاذي الغالي أن قلبي أصبح يحتمل أكثر مما يعتقد؟ ألا يعلم أن لحظات الغدر التي أعيشها يوميا ممن كانوا أصدقاء – في يوم ما – علمتني الكثير، ومدت روحي بالقوة.. كان بودي أن أقول له: «أصبحت قوية يا دكتور… تقدر تقولي إنت عندك إيه!».
كانت الإيميلات بيننا لا تنقطع، أكتب له كل شيء، ويرد على كل شيء، آخرها كان في رمضان، من بعدها دخل المستشفى، وبات تواصلنا معه عبر الهاتف، وحين لاحظت أنه لم يقرأ الإيميل الأخير سألته لأتأكد من مدى قدرته على ممارسة حياته بعد خروجه من المستشفى فوعدني بالرد، وبالفعل كما وعد رد برسالة طويلة جدا، كأنها تعويض عن كل الرسائل القادمة التي سأكتبها له بعد رحيله، وستظل في صندوق (الوارد) بلا رد!
في محادثاتنا التي تكررت في الفترة الأخيرة كانت الجميلة الوفية الأم الحنون د.عايدة تحاول أن تطمئننا بكلمات تشوبها رجفة القلق، تبدأ بصوت يدثره الحب كعادتها: «أهلا يا حبايب قلبي» وتكمل بحالة من الرضا بقضاء الله وقدره: «الحمد لله بألف خير»! لكن ما إن نستمع لصوته، ونلمس ثقل كلماته ندرك أنه ليس بخير!
في المكالمة الأخيرة، قبل أيام، ردت د.عايدة، وحاولت طمأنتنا بصوت يدعي الفرح: «إحنا في البيت يا حبايبي والدكتور كويس» لكن حين أخبرتنا أنه لا يستطيع الكلام أدركنا أن الأجل اقترب، وبكيت يومها رحيله الذي لم يأت بعد!
اليوم، ومنذ عرفت بالخبر – بكيت ولا أزال – بحرقة من لا يعرف حجم معاناته. كان صوت الحبيبة د.عايدة أقسى من الموت ذاته، حين اتصلنا بها لكي نواسيها ونمدها بالقوة، فوجدنا أنفسنا نبكي معها على الهاتف بعجز تام عن معنى المواساة! أنهينا المكالمة، ساءلت ذاتي: هل رغبتنا في بقاء أحبتنا على قيد الحياة، رغم آلامهم، من أجلهم، أم إرضاء لأنانيتنا؟!
كتب الله للدكتور حسن عطية الرحيل قبل أن يدخل في مراحل صحية صعبة، ربما كانت ستقضي عليه نفسيا، حين يرى قوته تتلاشى أمام الجميع، فالحمد لله أنه بقي صامدا بمساندة عظيمة من شريكة حياته التي تمثل إحدى أجمل صور الوفاء في هذا الكون، د.عايدة علام، وبدعم من أحبته خارج وداخل مصر – وهم كثر – ومتابعة من أصدقائه في بلد عرف عن شعبه الوفاء ومؤازرة الأحبة في كل الظروف.
كم آلمني سؤاله المتكرر في الأشهر الأخيرة من حياته، عن التعليقات العنصرية التي يتبادلها أطراف من الكويت ومصر – مع الأسف – على مواقع التواصل الاجتماعي! كان الأمر مزعجا بالنسبة له.
سألني تحديدا عن عنصرية سيدة كان له فضل علمي كبير عليها، كان متألما لجحودها تجاه بلد درست فيها، شربت من نيله، واستفادت من علمه، وحصلت منه على أعلى الشهادات، تساءل – رحمه الله – عن سبب انجرافها لسلسلة العنصرية، وكتابتها تعليقات مسيئة لمصر، البلد الذي عشت فيه أنا شخصيا أجمل أيام حياتي، وممتنة لكل محاضرة، ندوة، عرض حضرته في مشهدها الثقافي المدهش، وأتوق الى كل أصدقائي الأوفياء فيها.
لايزال صوته في أذني، يسألني بألم ممزوج باستغراب: «إيه مشكلة فلانة؟ مالها كده فجأة كرهت مصر، وبتشتمنا كل شوية.. إنتِ بتشوفي بتكتب إيه عالفيسبوك؟».
خجلت يومها من سؤاله، بادرته: «أنا بجد خجلانه من حضرتك!» مؤكدة له أن كويت الإنسانية مليئة بعشاق مصر، الذين يشعرون بالامتنان الكامل لها، لعلمائها، أطبائها، كتابها، فنانيها ومبدعيها، كما هي نظرة المصريين الشرفاء لبلدي الحبيب الكويت، الذي عاش بعضهم فيه عمرا ينضح بالذكريات الجميلة.
في كل اتصال بعد موجة العنصرية المقيتة تلك أبدأ المكالمة: «والله الكويتيين مش كده يا دكتور!» فيضحك ضحكته الحنونة، مرددا: «عارف والله» وأكمل له: «كل المثقفين زعلانين ومحرجين من كم العنصرية اللي بتطلع من الجهلاء فقط، الذين لا يمثلون الكويت، ولا يمثلون مصر».
هل يعلم الجهلاء الذي يشتمون شعبا كاملا، أنني وعلاء مللنا تكرار سؤالنا للدكتورة عايدة ما إذا كانت تحتاج لأي شيء في ظل ظروف العناية الصحية المكلفة للدكتور حسن، ويأتينا ردها في كل مرة، بكل كرامة وإباء: «الحمد لله، مش محتاجين إلا الدعاء يا حبايب قلبي» رغم إدراكنا لكثرة المصاريف الصحية التي ترهق أي إنسان، مهما كانت طبيعة إمكاناته! مؤلم أن يأتي جاهل ليتحدث باسم شعب الكويت الذي عرف حاكمه وأبناؤه بالعمل الإنساني والخيري، ليتطاول على شعب مصر الذي عرف بالعلم والأدب والفن.
مازلت خجلة منك أستاذي الغالي بشأن أي تعليق عنصري آذاك وآلمك يوما ما.. أعتذر لك مرة أخرى، وعزائي الوحيد أنك غادرت دنيانا جسدا وستبقى روحا واسما، أما العنصريون فسينساهم التاريخ حتما..!
ابنتك
د.سعداء الدعاس
(رئيسة قسم النقد والأدب المسرحي)
[ad_2]
Source link