حقيقة العجز في الموازنة العامة | جريدة الأنباء
[ad_1]
- أوجه الاختلالات في السياسات المالية وصلت نتائجها إلى مرحلة متقدمة تتطلب إجراءات أشبه ما تكون بإجراء عمليات جراحية كبيرة ودقيقة بالسياسة المالية للدولة
- مسؤولية لجنة الميزانيات والحساب الختامي بمجلس الأمة في النظر بالبيان عن الحالة المالية للدولة الذي تقدمه الحكومة للمجلس عند مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة
- الدولة تمرّ بمرحلة في غاية الحرج في ظل تنامي الفجوة بين نمو حجم النفقات العامة الواردة في الميزانية وحجم الإيرادات المحصلة
- لا قدرة للدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية الواردة بالموازنة العامة إلا عبر توفير مصادر لتمويل هذا العجز سواء ذاتية أو غير ذاتية
- ضرورة معالجة أوجه الاختلالات في السياسات المالية المتبعة بالدولة من خلال التفكير جدياً باتخاذ قرارات سريعة تتسم بالموضوعية
- معالجة الاختلالات بالسياسة المالية مسؤولية السلطتين التشريعية والتنفيذية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني
- يجب أن يتم التعامل مع المواطن بكل شفافية ومصداقية بشأن البيانات المالية لإقناعه بأنه شريك حقيقي في مسيرة الإصلاح
- ما مدى اتساق أو تعارض أحكام المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 والمرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 لأحكام الدستور في شأن إعداد الموازنة العامة للدولة؟
- المشرّع أكد على مبدأ الشمولية في إعداد الموازنة العامة للدولة من حيث إيراداتها ومصروفاتها بما يكفل إظهار المركز الحقيقي للدولة
ما إن تم الإعلان عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2020/2021 والمؤشرات الخاصة بتلك الموازنة وعلى وجه التحديد العجز المقدر في تلك الموازنة البالغ 9.2 مليارات دينار، حتى توالت ردود الفعل القوية تجاه هذا المؤشر، وقد زادت حدة ردود الفعل عندما تم تناول الكيفية التي ستتم بها معالجة هذا العجز المتوقع، والتدابير والإجراءات الإصلاحية التي سيتم اتخاذها لمعالجة الاختلالات في المالية العامة والتي تهدف الى إيجاد التوازن بين المصروفات والإيرادات وصولا الى تحقيق الاستدامة في نمو الإيرادات لتغطية النفقات الحكومية.
وعلى الرغم من أن مثل هذا العجز الذي تم الإعلان عنه في مشروع الموازنة تلك لم يكن الأول من نوعه، حيث تكرر الإعلان عنه في السنوات الماضية، مع تكرار ذات الإجراءات الإصلاحية المقترحة لمعالجته، إلا أنه للمرة الأولى نرى مثل تلك ردود الفعل الحادة ومظاهر السخط من الإجراءات المتوقعة من مؤشرات تلك الموازنة.
ولا أعتقد أن أحدا يختلف في أن الدولة تمر بمرحلة في غاية الحرج في ظل تنامي الفجوة بين نمو حجم النفقات العامة الواردة في الميزانية وحجم الإيرادات المحصلة، الأمر الذي يترتب عليه عدم وجود قدرة لدى الدولة بالوفاء بالتزاماتها المالية الواردة بالموازنة العامة إلا عبر توفير مصادر لتمويل هذا العجز، وذلك يكون أما ذاتيا من خلال السحب من الاحتياطي العام وإذا استنفد سيكون السحب من احتياطي الأجيال القادمة، أو من خلال موارد غير ذاتية من خلال الاقتراض من المؤسسات المالية.
وهذا بالتالي يستوجب ضرورة معالجة أوجه الاختلالات في السياسات المالية المتبعة بالدولة من خلال التفكير جديا باتخاذ قرارات سريعة تتسم بالموضوعية، وفي رأيي أن أوجه الاختلالات في السياسات المالية وصلت نتائجها الى مرحلة متقدمة تتطلب إجراءات أشبه الى ما تكون الى إجراء عمليات جراحية كبيرة ودقيقة بالسياسة المالية للدولة، بعدما كانت بالسابق تتطلب إجراءات بسيطة وذلك بسبب التأخر في إقرار التدابير المناسبة لمعالجة تلك الاختلالات لأسباب كثيرة.
كما أنه ومن جانب آخر، لا يستوجب أن يتم التفكير في تبنّي إصلاحات مالية فقط، بمجرد ظهور عجز بالموازنة العامة للدولة، وعند حدوث الوفورات في الموازنة لا يتم إيلاء الاهتمام بالإصلاحات المالية، حيث إن الحصافة في إدارة المالية العامة للدولة مطلوبة بغضّ النظر إن كان هناك عجز أو وفر بالموازنة العامة للدولة، لأن هذا هو أساس الحوكمة بالإدارة المالية للدولة والتي تأخذ بعين الاعتبار التخطيط بعيد المدى.
لذلك، يتطلب الموضوع اهتماما بالغا من جميع الأطراف ذات الصلة ممثلة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، ومن الأهمية إشراك المواطن في هذا الأمر باعتباره الشريك الرئيسي في مسيرة الإصلاح المالي والاقتصادي، وحتى يكتب النجاح لمشاركة المواطن في عملية الإصلاح، يتطلب أن يتم التعامل معه بكل شفافية ومصداقية بشأن البيانات المالية لإقناعه بأنه شريك حقيقي وقادر على تحمل المسؤولية المشتركة، ويجب ألا نغفل أن المواطن هو ركيزة النجاح في أي مسيرة إصلاح قادمة.
وتبدأ تلك المشاركة من خلال توضيح الصورة للمواطن بحقيقة العجز المالي الذي تم الإفصاح عنه مؤخرا عند الإعلان عن مشروع الموازنة 2020/2021، وألا يترك الأمر لاجتهادات الآخرين وتأويلاتهم التي أصابت المواطن بالحيرة في أمره بشأن ماهية حقيقة العجز في الموازنة، فالبعض أفاد بأن هذا عجز دفتري وليس حقيقيا، وآخرون أفادوا بأن هذا عجز تقديري لكن في نهاية السنة المالية سيتضح حجم العجز الحقيقي، وذهب البعض الى القول بعدم مصداقية الموازنة لعدم شمولها جميع الإيرادات إشارة الى إيرادات الاستثمار، او عدم تضمينها فائض إيرادات بعض الهيئات العامة، وهناك من اشار إلى أن عدم مصداقية الموازنة تعود الى تضمينها لنفقات لا تمثل نفقات حقيقية، وغيرها من الاجتهادات والتأويلات.
ولعل القارئ عندما يقرأ عنوان هذا الموضوع (حقيقة العجز في الموازنة العامة للدولة) يتوقع مني أن أجيبه عن هذا السؤال بشكل مباشر في كتابتي لتلك السطور، لكن في الحقيقة لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال، وهذا لا يعني أنني أملك المعلومة ولا أريد الإفصاح عنها، لكن بسبب تعقد الموضوع لتعدد الأطراف المعنية بتلك المعلومة نتيجة لتعدد التشريعات التي تنظم الشؤون المالية بالدولة وتعدد جهاتها. لذلك سأحاول بشكل او بآخر أن أوضح تلك التشريعات التي يمكن أن نستخلص منها بعض الإجابات عن تساؤلنا هذا.
فقبل صدور دستور دولة الكويت صدر مرسوم أميري رقم 1 لسنة 1960 بشأن قواعد إعداد الميزانية العامة والرقابة على تنفيذها والحساب الختامي، وقد جاءت رغبة المشرع في إصدار هذا التشريع وفقا لما أشارت اليه المذكرة الإيضاحية للمرسوم الأميري بأن المرسوم يهدف الى وضع قواعد ثابتة لإعداد ميزانية الدولة والحساب الختامي وللرقابة على تنفيذ الميزانية، ويرى المشرع أن تلك القواعد استخلص اكثرها من التجارب التي مرت بها إدارة المالية (تقوم مقام وزارة المالية في وقتنا هذا)، وكشف العمل على صلاحيتها، ودلت الحاجة الى وجوب تقنينها لتكون قواعد مستقرة تلزمها إدارة المالية والدوائر المالية الأخرى، لتقوم الميزانية العامة على أسس ثابتة، حيث يرى المشرع هذا الأمر من الأمور ذات الأهمية الكبرى في السياسة المالية للدولة.
وقد أشار المرسوم الأميري إلى أن تشتمل الميزانية العامة للدولة على جميع الإيرادات المقدر تحصيلها وجميع المصروفات المقدر إنفاقها بواسطة الدوائر الحكومية ومصالحها في السنة المالية، كما أشار القانون إلى انه يخصم من مجموع الإيرادات المقدرة نسبة مئوية تحدد كل سنة بمرسوم لتضاف الى الاحتياطي على أن يحدد القانون طرق استثمار المال الاحتياطي وكيفية التصرف به، وقد كلف المرسوم الأميري إدارة المالية بإصدار التعليمات والقواعد الواجب اتباعها من الدوائر الحكومية في إعداد الحساب الختامي ومشتملاته والتي تكفل إظهار المركز الحقيقي للدولة في نهاية السنة المالية.
ثم جاء دستور دولة الكويت الصادر في 11/11/1962 حيث أكد في مادته 140 على مبدأ الشمولية، وذلك بأن تعد الدولة مشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها وتقدمه إلى مجلس الأمة قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل، لفحصها وإقرارها، على أن تصدر الميزانية العامة بقانون وفقا للمادة 144، هذا وقد ألزم الدستور الحكومة بأن تقدم الى مجلس الأمة بيانا عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل في خلال كل دور من أدوار انعقاده العادية وفقا للمادة 150.
وفي تاريخ 28/11/1976 صدر المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشأن احتياطي الأجيال القادمة، والذي بموجبه تقرر أن يستقطع سنويا نسبة 10% من الإيرادات العامة تودع بحساب خاص يسمى احتياطي الأجيال القادمة، وتستثمر وزارة المالية تلك الأموال، وتضاف عائد استثماراتها الى هذا الحساب، ولا يجوز خفض النسبة او اخذ أي مبلغ من هذا الاحتياطي، وقد تولت لاحقا الهيئة العامة للاستثمار إدارة استثمار الاحتياطي العام والأموال المخصصة لاحتياطي الأجيال القادمة وذلك بموجب قانون انشائها رقم 47 لسنة 1982، وقد جاء تأسيس الأحكام التي صدر بموجبها هذا المرسوم بقانون وفقا للمادة 140 من الدستور بشأن إعداد الدولة لمشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها، وتقدمه إلى مجلس الأمة قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل لفحصها وإقرارها.
ثم صدر المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 بشأن قواعد إعداد الميزانيات العامة والرقابة عليها والحساب الختامي والذي أيضا نصّ على ان تشتمل كل ميزانية عامة على جميع الإيرادات المقدر تحصيلها وجميع المصروفات المقدر إنفاقها في السنة المالية، كما نص على ان تحدد من جملة الإيرادات المقدرة نسبة مئوية تضاف الى احتياطي الأجيال القادمة، ويضاف الى المال الاحتياطي العام صافي الإيرادات الناتجة عن استثماره وإيرادات الأموال الأخرى المستثمرة بعد أن يقتطع من ذلك النسبة المئوية المقرر إضافتها الى احتياطي الأجيال القادمة.
ويتضح من السرد السابق جوانب مهمة ومرتكزات تشريعية تؤطر الشؤون المالية بالدولة وبالأخص المتعلقة بالموازنة العامة للدولة والمركز المالي للدولة، فالمشرع في المرسوم الأميري رقم 1 لسنة 1960 أكد مبدأ الشمولية في إعداد الموازنة العامة للدولة من حيث إيراداتها ومصروفاتها بما يكفل إظهار المركز الحقيقي للدولة في نهاية السنة المالية وذلك عند تنفيذ تلك الموازنة وإعداد الحساب الختامي للدولة، حيث كانت إيرادات الدولة ترتكز على مورد أساسي وهو النفط، إلا أن مبدأ الشمولية بالمرسوم جاء معيبا وذلك بسبب النص على استقطاع نسبة من جملة الإيرادات.
وقد أكد المشرع على نفس مبدأ الشمولية في أحكام الدستور وبمفهومها الصحيح عندما نص على ان تعد الدولة مشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها، مع إلزام الحكومة بان تقدم الى مجلس الأمة بيانا عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل في خلال كل دور من أدوار انعقاده العادية.
الى ان جاء المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشأن احتياطي الأجيال القادمة، والذي استثنى عوائد حساب هذا الاحتياطي من إضافته الى إيرادات الموازنة العامة، الأمر الذي اخل في وجهة نظري بمبدأ الشمولية في الموازنة العامة للدولة في هذا الشأن، وجاء أيضا هذا الاخلال بالمبدأ في المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 بشأن قواعد اعداد الميزانيات العامة والرقابة عليها والحساب الختامي، حيث نص على تحديد نسبة مئوية تضاف الى احتياطي الأجيال القادمة من جملة الإيرادات المقدرة، وان قيمة تلك النسبة يتم استقطاعها من الإيرادات من خلال ادراجها ضمن النفقات، وهي في حقيقة الامر ليس بنفقات فعلية، هذا على الرغم من ذات المرسوم قد اكد على مبدأ الشمولية في مادته الأولى.
فعودة الى تساؤلنا فيما اذا كان العجز المعلن هو عجز حقيقي ام غير حقيقي، فالإجابة على هذا التساؤل له اكثر من زاوية، ففي اطار احكام المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 والمرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976، فإن ما تم الإعلان عنه من عجز في الموازنة العامة للدولة من حيث الشكل يتسق مع أحكام هذين المرسومين بقانون، وهو عجز تقديري يتضح دقة حجمه في نهاية السنة المالية المعنية 2020/2021 وفقا للإيرادات والنفقات الفعلية الذي يعكسه الحساب الختامي للدولة، حيث ان الموازنة أعدت وفقا لأحكامهما، مع الاخذ بعين الاعتبار ان تلك الأحكام لا تعبر عن المركز المالي الحقيقي للدولة، وعلى الرغم من ان تلك التشريعات مراسيم بقوانين إلا أن مجلس الأمة هو من اقر تلك التشريعات من خلال المصادقة عليها لصدورها في فترة غياب مجلس الأمة.
أما اذا نظرنا للموضوع من زاوية أحكام الدستور وعلى وجه التحديد المادة 140 منه، فإن العجز في وجهة نظري غير حقيقي لأنه تم اعداد الموازنة العامة للدولة بما لا يتسق مع احكام المادة المشار اليها بشأن الالتزام بإعداد الدولة لمشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها، وذلك لاستثناء شمول الإيرادات لعوائد الاحتياطيات بأنواعها.
مما يطرح هنا تساؤلا آخر بشأن مدى اتساق او تعارض احكام المرسوم بقانون 31 لسنة 1978 بشأن قواعد اعداد الميزانيات العامة والرقابة عليها والحساب الختامي، والمرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشأن احتياطي الأجيال القادمة لأحكام الدستور في الشأن اعداد الموازنة العامة للدولة.
لذا، فإن الموضوع هذا يتطلب أن يكون تحت نظر المختصين وعلى وجه الخصوص المشرعين في مجلس الأمة للتحقق من هذه المسألة، والخروج بتوصيات من شأنها أن يتم معالجة القصور في تلك التشريعات، والى ذلك الحين فعلى لجنة الميزانيات والحساب الختامي بمجلس الأمة وفقا لاختصاصها والوارد باللائحة التنفيذية للمجلس ان تمارس دورا رئيسيا في هذا الشأن من النظر في البيان عن الحالة المالية للدولة الذي تقدمه الحكومة للمجلس عند مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة.
وفي هذا الصدد، أتذكر في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي وإن لم تخوني الذاكرة عندما كنت في المملكة المتحدة اطلعت على عدد مجلة
The Economist ولا أستطيع أن أستحضر رقم العدد، لكن كان غلاف العدد مميزا، ومفاده بأن دولة الكويت تستطيع أن تغطي نفقات الميزانية من خلال عوائد الاستثمار فقط ودون اللجوء الى مبيعات النفط.
[ad_2]
Source link