“العالمة المغمورة” التي غيرت أساليب علاج العقم للأبد
[ad_1]
تختلف قصة ميريام مينكين قليلا عن قصص سائر الباحثين والمكتشفين العلميين، فلم تومض الفكرة في رأسها فجأة ولم تسقط تفاحة على رأسها أو يضرب الإعصار مفتاحا معدنيا. لكن في فبراير/شباط 1944، ظلت مينكين، فنية المختبر البالغة من العمر 43 عاما، ساهرة طوال الليل تهدهد ابنتها ذات الثمانية أشهر. وفي الصباح، ذهبت إلى معملها كعادتها كل أربعاء لاستخلاص بويضة ووضعها في طبق زجاجي مملوء بالسائل المنوي على أمل أن تتحد البويضة مع حيوان منوي.
كان هدف مينكين آنذاك، بحكم عملها كمساعدة فنية لجون روك، خبير الخصوبة بجامعة هارفارد، هو تلقيح بويضة اصطناعيا خارج الجسم البشري. إذ كان روك يأمل أن يتوصل إلى علاج للعقم الذي شغل حيزا كبيرا من اهتمام الأطباء لسنوات. وكان يستهدف تحديدا مساعدة النساء اللائي عجزن عن الإنجاب بسبب عيوب في قناة فالوب.
واعتادت مينكين أن تضع البويضة والنطفة معا في أنبوب اختبار لمدة 30 دقيقة. لكن في هذا اليوم، كانت منهكة وتغالب النوم، إلى درجة أنها ظلت تراقب البويضة والنطفة تحت المجهر لمدة ساعة كاملة دون أن تدري. وتقول مينكين: “بعد ست سنوات من الإخفاق، لا أنكر أن نجاحي كان سببه أنني غفوت قليلا أثناء العمل”.
وعندما عادت يوم الجمعة إلى المعمل فوجئت بأن الخلايا التحمت وأخذت في الانقسام، وأتيحت لها الفرصة لإلقاء نظرة على أول جنين بشري ملقح في أنبوب اختبار.
ومهد هذه الاكتشاف الطريق لظهور تقنيات المساعدة على الإنجاب، والتي أصبح بفضلها بإمكان النساء العاقرات أن يحملن، وأتاحت الفرصة للعلماء لمشاهدة المراحل الأولى لنمو الجنين. وفي عام 1978، ولدت لويز براون، أول طفلة أنابيب في العالم، عن طريق التلقيح الاصطناعي خارج الجسم البشري.
وطفق الأطباء يستيعينون بالتلقيح الاصطناعي لمساعدة النساء على الإنجاب، وسرعان ما أصبح التلقيح الاصطناعي تجارة مربحة. وفي عام 2017، ولد 78,052 طفل أنابيب.
لكن نجاح مينكين لم يكن محض صدفة، بل كان محصلة سنوات من الأبحاث والتدرب على المهارات الفنية الصعبة حتى الإتقان، والمثابرة على إعادة التجربة مرات ومرات. ونشرت مينكين بالتعاون مع روك 18 ورقة بحثية، منها تقريران عن أول نجاح لهما في دورية “ساينس”. لكنها رغم ذلك، على عكس روك، لم تنل حظها من الشهرة.
إذ طالما وُصفت مينكين بأنها فنية معامل ومساعدة أبحاث أو عالمة بيولوجيا، لكنها في الحقيقة لم تكن مجرد مساعدة لجون روك. وتقول مارغريت مارش، مؤرخة بجامعة روتجيرز، إن روك كانت عالمة حقيقية تفكر كالعلماء وتتمتع بدقة العلماء وتؤمن مثلهم بأهمية الالتزام بالقواعد والخطط البحثية.
ولدت ميريام فريدمان (مينكين) في لاتفيا عام 1901، وانتقلت أسرتها في مرحلة صباها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عمل والدها طبيبا وعاشت فريدمان حياة ميسورة. وكان والدها يأسرها بحكاياته عن العلوم وعن آماله للعثور على علاج لمرض السكري.
وحصلت مينكين على بكالوريوس في علم الأنسجة والتشريح المقارن من جامعة كورنيل في عام 1922، ثم حصلت على الماجستير في علم الحيوان من جامعة كولومبيا، لكنها اصطدمت بأولى العراقيل التي منعتها من دراسة الطب. إذ رفضت جامعتان من كبريات الجامعات في البلاد طلبها الالتحاق بكلية الطب، وأغلب الظن أن هذا الرفض كان له علاقة بالتمييز على أساس الجنس.
إذ كانت كليات الطب القليلة التي تقبل الإناث تفرض ضوابط صارمة للحد من عدد الطالبات الإناث المسجلات في الكلية. في حين أن بعض الجامعات، مثل هارفارد، لم تقبل إناثا إلا أثناء الحرب العالمية الثانية. وذكر أحد اعضاء هيئة التدريس، أن قبول الطالبات ينطوي على انتهاك للقوانين البيولوجية، لأن الوظيفة الأساسية للمرأة هي الإنجاب وتربية الأطفال.
واكتفت مينكين في المقابل بالزواج من فالي مينكين الطالب بكلية الطب بجامعة هارفارد، وعملت ميريام سكرتيرة لتساعد في تأمين نفقات دراسات زوجها، وحصلت على دورات في علم البكتيريا والأجنة وأعانت زوجها بالتجارب المعملية. ثم التقت غريغوري بينكوس، عالم الأحياء بجامعة هارفارد الذي ساعد روك لاحقا في تطوير أقراص منع الحمل.
وتلقى بينكوس انتقادات شديدة بسبب تخليق أجنة أرانب ملقحة في أنابيب بلا أباء. وكلف بينكوس مينكين باستخراج هرمونين من الغدة النخامية لحقنهما في أرحام إناث الأرانب لتحفيز إنتاج البويضات. لكن في عام 1937، رفضت الجامعة تجديد عقد بينكوس وفقدت مينكين أيضا وظيفتها.
لكن جون روك استفاد من نتائج أبحاث بينكوس لمساعدة النساء العقيمات اللائي يعانين من انسداد قناة فالوب على الإنجاب، ووافق على طلب منيكين للعمل في معمله. وتقول مارش، إن روك لم يكن يطيق العمل في المختبرات، وكان يحتاج لذكاء مينكين ودقتها ومثابرتها.
وكانت مينكين تقف خارج غرفة العمليات بالمستشفى الخيري للنساء في بروكلين، كل ثلاثاء صباحا، وإذا حالفها الحظ كان روك يستأصل جزءا صغيرا من المبيض، مثل جريب المبيض، ويعطيه لها لتأخذه إلى معملها وتشرحه بحثا عن البويضة.
وكانت مينكين تستطيع رصد البويضة، رغم صغر حجمها، بالعين المجردة. وكان بإمكانها تمييز البويضة المشوهة من السليمة بدون عدسة مكبرة.
وعلى مدى ست سنوات، دأبت مينكين كل ثلاثاء على البحث عن البويضة وخلطها بالنطفة يوم الأربعاء ومراقبتها يوم الجمعة تحت المجهر، لكن دون جدوى.
وفي عام 1944، فتحت مينكين باب الحضّانة وفوجئت بأصغر جنين بشري لم يسبق لأحد رؤيته من قبل. وامتلأ يومها المعمل بالعلماء والباحثين لرؤية المراحل الأولى لتكوين الجنين البشري.
وظلت مينكين تقطر السائل على البويضة الملقحة لساعات. ورغم ذلك، حدث أول إجهاض في أنبوب اختبار. لكنها كررت المحاولة واستطاعت أن تنتج بويضات ملقحة ومنقسمة إلى خليتين داخل الأنبوب، وأرسلت العينات في أنابيب من الزجاج الأزرق والأحمر إلى معهد كارنيغي بواشنطن. وتلقى بعدها روك ومينكين مئات الخطابات من نساء عقيمات يلتمسن علاجا للعقم.
وكانت مينكين تتطلع إلى مشاهدة انقسام البويضة في المعمل إلى أربع خلايا ثم ثماني خلايا. لكنها اضطرت إلى ترك أبحاثها ومرافقة زوجها الذي فقد وظيفته إلى جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا، حيث كان التلقيح الاصطناعي يعد بمثابة فضيحة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
وتوقفت أبحاث التلقيح الاصطناعي في ولاية بوسطن، بعد أن عجز مساعدو روك عن تخصيب البويضات اصطناعيا.
وفي وصفها لعملية التلقيح الاصطناعي، قالت مينكين: “أليس من العجيب ألا تضل تلك البويضات صغيرة الحجم طريقها عندما تتحرر من جريب المبيض وتسقط في أعماق ذاك الجسم الهائل؟ كيف لهذه الذرة الدقيقة أن تجد طريقها إلى المكان الذي من المفترض أن تستقر فيه؟”
وكانت مينكين تبحث عن فرص للعمل في مجال البويضات والمعامل في كل مكان كان تسافر إليه برفقة زوجها. وكانت تطرق أبواب الباحثين البارزين في مجال الخصوبة بحثا عن فرص لإجراء تجارب معملية.
وبعدما خابت مساعيها في ولاية نورث كارولينا، استأنفت العمل مع روك عن بعد. وفي عام 1948 نشر الاثنان تقريرا كاملا عن أول إنجازاتهما في مجال التلقيح الاصطناعي.
غير أن مينكين سرعان ما واجهت عقبات أخرى. إذ طالما كانت ميريام تؤجل طلاقها من فالي الذي كان يحرمها من المال ويهددها باستخدام العنف أمام طفلتيها. وعندما ساءت معاملة زوجها، لم تجد بدا من الطلاق الذي كان وقع وصمته قاسيا على ابنتها غابرييل.
وأخذت مينكين تقتر على نفسها لتأمين احتياجات ابنتها لوسي المصابة بالصرع، وكانت تضطر إلى رفض فرص استخدام معامل الأبحاث ليلا دون أجر. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، عادت مينكين إلى بوسطن واجتمع شملها بجون روك، الذي أصبح منشغلا بالحد من المواليد بدلا من المساعدة على الإنجاب. إذ باتت مهمته الأساسية تطوير طريقة مناسبة لمنع الحمل.
وتولت ميريام أعمال “المساعدة الأدبية” خلف الكواليس، إذ كانت تبحث في الدراسات السابقة التي تراوحت بين تجميد الحيوانات المنوية وعقم الخيول. ونشرت أوراقا بحثية حول تأثير الضوء الاصطناعي على انتظام الدورة الشهرية وما إن كانت أحزمة حماية الأعضاء التناسلية تصيب الرجال بالعقم المؤقت.
غير أن أبحاث مينكين، على عكس ما يبدو، لم تكن بعيدة عن هدف روك الرئيسي. إذ كانت تحاول كشف غموض الإخصاب والتناسل، وكانت تشفق على النساء العقيمات وتفخر بأنها تساهم في تطوير تقنية لمساعدتهن على الإنجاب.
وكانت مينكين شغوفه بحل اللغز العلمي للتلقيح خارج الرحم وكانت تأمل أن تتيح لها أبحاثها المعملية الفرصة لتشارك في مشروع علمي ضخم.
قد يكون من الصعب تصور ما الذي كان يمكن أن تحققه ميريام مينكين لو سارت الأمور في حياتها بشكل مختلف، لو افترضنا مثلا أنها لم تتزوج بفالي أو حصلت على شهادة الدكتوراة. لكن الواقع أن العصر الذي نشأت فيه والظروف التي أحاطت بها أجبراها على انتهاج مسار محدد. وحتى في أوج نجاحها العلمي، لم يحتف أحد بإسهاماتها في الاكتشافات العلمية.
لكن لو نظرنا إلى ملاحظاتها الدقيقة وخططها البحثية الصارمة وقائمة الأبحاث والدراسات والتقارير المتأنية التي نشرتها، لأدركنا أنها تستحق لقب “عالمة” عن جدارة.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future
[ad_2]
Source link