قصة أشباح الموتى التي تطارد السائحين في ميانمار
[ad_1]
كان حديثي مع ضابط الجيش البورمي أونغ خانت، مثيرا للاهتمام والفضول إلى حد كبير، فخلال جلستنا في عاصمة بلاده “ناي بي تاو”، كشف لي تفاصيل مهمة وفريدة من نوعها كُلِف بها قبل سنوات: نقل أرواح موتى دُفِنَت جثثهم في مقبرة اضطرت السلطات إلى إزالتها قبل سنوات، لإفساح المجال لتشييد معبد ومبنى لمحكمة في مكانها.
أثناء الجلسة، حدثني الضابط الأربعيني الوسيم – وهو يجلس أمامي مضطجعا في مقعده – عن أن هناك أُناسا يتحلون بمقدرة خاصة على الاتصال بالأرواح، وبوسعهم “إبلاغها بأن الوقت قد حان لأن تُنقل من أماكنها”.
الطريف أنه ذكر في هذا السياق اسم ووبي غولدبرغ، الممثلة الأمريكية التي جسدت دور وسيطة روحانية في فيلم “غوست” (الشبح). تحققت من مترجمي، مما إذا كان ما سمعته صحيحا أم لا، ليرد عليّ بالإيجاب. وتطلب الأمر مني بعض الوقت، لكي أدرك أن الضابط البورمي من عشاق هذا العمل السينمائي.
على أي حال، تشكل المهمة التي قام بها هذا الرجل، ممارسة ترتبط بالمعتقدات الروحية السائدة في ميانمار منذ أمد بعيد. وقد روى لي تفاصيلها، ونحن نجلس على مقهى خاوٍ من الرواد تقريبا في “ناي بي تاو”، يقع بالقرب من قناة لمياه الصرف، لطفّ وجودها من حرارة الجو في المدينة، التي يعني اسمها حرفيا “دار الملوك”.
وتختلف “ناي بي تاو” عن أي مدينة بورمية أخرى، فهي شاسعة المساحة للغاية وقليلة السكان بشدة في الوقت نفسه. تخلو شوارعها تقريبا من حركة المرور، ولا يوجد فيها القليل مما يمكن أن يراه الزائر أو المقيم. لذا عادة ما تُوصف بأنها “مدينة أشباح”. لكن المفارقة أنها صارت الآن، وبحسب المعتقدات المحلية، خالية تماما من الأشباح!
بدأت القصة في عام 2006، عندما قررت السلطات في ميانمار نقل العاصمة رسميا من يانغون إلى “ناي بي تاو” المُشيّدة حديثا في ذلك الوقت. وبدت أسباب القرار مزيجا غامضا ما بين الاعتبارات السياسية والإيمان بالأفكار التقليدية. فثمة مخاوف كانت تكتنف بقاء العاصمة في يانغون نظرا لقربها من الساحل ما يُعرّضها لخطر الغزو، كما أن حكام ميانمار العسكريين استجابوا حينذاك لنصائح عرّافين حذروهم من أن عدم ترك يانغون، سيؤدي إلى سقوط النظام الحاكم.
وكان من المفترض أن تكون “ناي بي تاو” ذات سجل خال من أي شائبة، بخلاف العاصمة القديمة التي ظلت مسكونة بأشباح الماضي الاستعماري.
وهكذا، وبعد أربع سنوات من الانتقال إلى العاصمة الجديدة، أصبح أونغ خانت مسؤولا عن نقل تلك المقبرة الموجودة في أحد أحيائها. ورغم أن خطوة مثل هذه ربما تثير الجدل في دولة مثل ميانمار، كما قد تلقى معارضة من جانب أقارب الموتى المدفونين في المقبرة، فإنها لم تؤد لنشوب أي احتجاجات في ذلك الوقت من عام 2010. فآنذاك كانت البلاد ترزح تحت وطأة حكم عسكري ظل قائما لنحو نصف قرن وزال بعد ذلك بعام كامل. لذا لم يستطع سكان المنطقة الغاضبون من نقل المقبرة، التعبير عن مشاعرهم هذه، أو مقاومة العملية برمتها.
والمعروف أن عملية نقل المقابر في ميانمار، تستلزم أن تُنقل أرواح المدفونين فيها إلى المكان الجديد للرفات، وهو ما جعل مسألة إزالة هذه المقبرة تحديدا أكثر تعقيدا وخطورة. فقد كانت تضم رفات جنود يابانيين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية. وبحسب المعتقدات البورمية، تؤدي مفارقة المرء الحياة في ظروف تتسم بالعنف، إلى أن “يُخلّف رواسب روحية لا يمكن تبديدها بالكامل خلال مراسم تشييع جنازته”، كما قالت لي الباحثة في شؤون الديانات بميانمار، بينديكت براك دو لا بارير.
ولذا أقر الضابط البورمي في حديثه معي، بأن الأمر كان محفوفا بالمخاطر “فقد كنا نخشى الأشباح. إذ أن رفضها الانتقال، كان سيثير غضبها ما يشكل خطرا على سكان المنطقة”. وشرح لي بعد ذلك باسماً كيف أعقبت عملية نقل رفات الموتى إلى مقبرة أخرى خارج حدود العاصمة، استئجار الحكومة لشاحنات لـ “نقل أرواح الموتى كذلك، بل وتوظيف شخص يُفترض أنه قادر على السيطرة على الأرواح، للإشراف على العملية، ووضع أرواح أصحاب الرفات في الشاحنات، التي بلغ عددها 12 وقامت كل منها بثلاث رحلات يوميا على مدار ثلاثة أيام”.
فكرت أن اختيار هذين الرقمين تحديدا لم يكن عشوائيا، فبتلك الوتيرة، تكون الشاحنات قد قامت بـ 108 رحلات، وهو رقم يجلب السعد والحظ، حسبما يعتقد البوذيون. فهو يساوي – مثلا – عدد الرموز المقدسة التي تُعبر تقليديا عن آثار أقدام بوذا نفسه.
وفي ضوء وجود رفات أكثر من ألف شخص تحت ثرى هذه المقبرة، كان من اللازم – حسبما قال لي الضابط البورمي – وضع “10 أرواح في كل شاحنة”.
بدا الأمر محيرا بالنسبة ليّ، فلم أستطع أن أتصور – نظريا – عدد الأرواح الذي يُفترض أن تستوعبه كل شاحنة، لكنني تخيلت أنه سيكون أكثر من 10 بالقطع. غير أن الأرواح البورمية، ليست – بحسب من يزعمون أنهم رأوها – مجرد أطياف قليلة الشأن والوزن، بل طويلة القامة يزيد طول كل منها عن المترين. كما أنها تتسم بالوحشية وضخامة البنيان بآذانها وأنيابها هائلة الحجم، بل وألسنتها المخيفة من فرط طولها أيضا. وتستهدف هذه الأشباح السائحين المزعجين تحديدا.
وقالت لي الباحثة براك دو لا بارير إن القصص المتعلقة بـ “أرواح ثار غضبها جراء نقل رفات أصحابها” أمر شائع في ميانمار، وأنها استمعت إلى كثير منها، خلال إجرائها لبعض الدراسات في تسعينيات القرن الماضي. ففي تلك الفترة، تناهت إلى مسامعها أقاويل عما حدث خلال إزالة مقابر في يانغون من “مشكلات لحقت بمحركات” السيارات والشاحنات، بسبب رفض “الأرواح” التي كان يُفترض أنها تُنقل على متنها تغيير مكان رفاتهم. شمل ذلك توقف تلك الشاحنات أو تحركها من تلقاء نفسها، بجانب إصابة سائقيها بالرعب والفزع.
وبحسب الضابط البورمي الذي تحدث إليّ، تضمنت المشكلات التي نجمت عن نقل مقبرة “ناي بي تاو” إلى خارج المدينة، “مشاحنات دارت بين الأرواح، حول الأحقية في الجلوس في المقعد الأمامي للشاحنة. ما كان يدفع الشخص المسؤول عن السيطرة على هذه الأرواح، للتدخل في بعض الأحيان وإصدار أوامر لها بالانتقال للركوب في الخلف”.
وواصل الرجل حديثه بالقول :”إن اكتمال حمولة الشاحنة، كان يجعل حركتها أكثر صعوبة، إذ كانت إطاراتها تنغرس في التربة الرخوة” موضحا – وهو يأخذ رشفة من المياه – أن “الأرواح ثقيلة الوزن”.
اللافت أن صعوبة هذه المهمة استمرت حتى بعد مضي الأيام الثلاثة المخصصة لها. ففي الليلة التالية لذلك، شاهد مساعد الضابط أونغ خانت في منامه، ثلاثة أشباح تقول له إنها تُرِكَت في مكان المقبرة المزمع إزالتها. وفي اليوم التالي، عاد الضابط إلى الموقع ليجد بالفعل ثلاثة قبور كانت تخفيها شجيرات وأحراش في المكان.
ولم تنته القصص الغريبة المرتبطة بإزالة تلك المقبرة عند هذا الحد، بل رُوي لي أن “أحد الأشباح رفض الرحيل وأصر على البقاء، ولاذ بسيارة مساعد الضابط، وتسبب في مجموعة من المصائب الصغيرة، من بينها تعطل الجرافات العاملة في تشييد المباني المزمعة في مكان المقبرة، ونفوق مفاجئ لقطة كانت تعيش في مجمع سكني تابع للجنة تطوير العاصمة، بجانب إحساس المساعد نفسه بيد شبحية تزيحه من فراشه في إحدى الليالي”.
ولم تهدأ هذه الروح المشاكسة – كما قيل لي – سوى بعد استعانة الضابط براهب تلا بعض النصوص البوذية لكي يجعلها تستكين.
ولأن العلاقة انقطعت بين الضابط البورمي والمسؤول عن السيطرة على الأرواح، الذي ساعده في عملية نقلها المفترضة؛ ساعدني مترجمي في العثور على شخص آخر يعمل في هذا المجال، كان شاهدا على “عملية نقل الأشباح هذه”.
في اليوم التالي، أتى ذلك الرجل إلى حيث كنت أقيم، وقال لي إنه كرس نفسه لـ “ما فاي واه”، المعروفة بأنها “الروح الحارسة للمقابر والجبانات في ميانمار”. وأشار الرجل الستيني أشيب الشعر، إلى أنه عمل من قبل مُنجما ووسيطا روحانيا. وقال إنه يألف مقابر عاصمة بلاده، لأنه اعتاد القيام بعمله فيها.
روى لي ذلك الرجل كذلك أنه تابع عملية نقل الأرواح، التي أشرف عليها الضابط خانت. وقال إنه شاهد “الأرواح وهي تتكدس في الشاحنات، والإطارات وهي تغوص في الرمال بسبب وزنها. وعندما أمر الوسيط الروحاني المشرف على العملية بعض الأرواح بالخروج من الشاحنات، بدأت في الحركة من جديد”.
وتقول الباحثة براك دو لا بارير إن الوسيط الروحاني هو الوحيد القادر على التنقل بين عالم الأحياء وعالم الأموات وعالم الأرواح، وهو ما يجعله قادرا على “تقديم قدر من التعويض” للأرواح التي أُزهقت في ظروف عنيفة.
خلال اليوم الأخير من زيارتي للعاصمة البورمية، استأجرت دراجة نارية لاستكشف بها أنحاء المدينة. وانطلقت بسرعة شديدة على طول طريق سريع مهجور تقريبا هناك، رغم أنه مؤلف من ثماني حارات. على فترات متباعدة للغاية، كانت تقترب مني من الخلف، سيارة سرعان ما تتجاوزني وتمضي في طريقها. وفي معظم الأوقات، كنت وحدي تماما على الطريق. وبعدما قدت الدراجة لساعات طفت خلالها على الكثير من المعابد والمزارات الدينية البوذية، قررت العودة بعد حلول الظلام.
وعلى بعد 10 كيلومترات فقط عن الفندق، لاحظت أن مؤشر الوقود في انخفاض، وذلك وسط شعور غريب يبعثه في نفسك تنقلك عبر الشوارع الخاوية لـ “ناي بي تاو” بعد غروب الشمس. للحظة شعرت بجسدي يرتجف، وأنا أفكر في إمكانية أن تتعطل دراجتي النارية وسط تلك الشوارع المهجورة، بعد كل هذه الحكايات التي سمعتها عن الأرواح. وارتجفت أكثر، وأنا أتخيل أنه ربما سيتعين عليّ أن أدفع دراجتي بنفسي على طول هذا الطريق السريع الخالي، دون رفيق سوى رياح الليل الباردة، التي لا تكف عن الهبوب.
لكنني ذكرّت نفسي حينها، بأن كل شيء أصبح في “ناي بي تاو” على ما يرام، وأنه في “مدينة الأشباح” التي باتت خالية منهم في الوقت ذاته، لم يعد هناك ما يمكن أن يُخيف.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel
[ad_2]
Source link