مظاهرات العراق: نساء التحرير وشهادات من قلب الاحتجاجات
[ad_1]
بدت مساهمة المرأة في المظاهرات المتواصلة في العراق الظاهرة الأكثر لفتا للنظر في هذه الحركة الاحتجاجية التي طغت على شوارع العاصمة وبعض المدن العراقية في الأيام الأخيرة.
وبدا حضور المرأة طاغيا في الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه المظاهرات وأنشطتها المختلفة.
ولعل تلك ليست ظاهرة جديدة، فمساهمة الحركة النسوية في الحراك السياسي والاجتماعي في العراق في العقدين الأخيرين كانت تبرز في لحظات مفصلية، كما هي الحال مع المظاهرات النسوية الحاشدة في عام 2003 التي اسقطت محاولة الأحزاب الدينية تغيير قانون الأحوال المدنية في العراق واستبداله بقانون آخر يستند إلى التشريعات الدينية في الطوائف المختلفة.
لتسليط الضوء على هذه الظاهرة اتصلنا بعدد من الناشطات المشاركات في هذه المظاهرات ليقدمن لنا شهاداتهن عن تجاربهن ودورهن في ساحات التظاهر.
“ساحة التحرير باتت وطنا لنا”
ريا– ناشطة
تعمل ريا في إيصال التجهيزات والمواد الطبية والإمدادات للمتظاهرين وتحرص على الحضور يوميا إلى ساحة التحرير في قلب بغداد حيث يتجمع المحتجون، وكتبت تلخص تجربتها:
أنا في ساحة التحرير، ليس بوصفي متظاهرة بل كأم. أخاف كثيرا على الشباب هنا وأتمنى أن لا يهدر دم أكثر، بل وأخاف حتى على من يرتدي الزي العسكري ويقف وهو خائف من الأوامر لأنه ابن بلدي ايضا. وأخاف على من في ساحة التحرير وفي “جبل أحد” وعلى الجسر لأن أغلبهم ولد بعد عام 2003، ولم يعيشوا تحت استبداد صدام حسين لكنهم شعروا بالفساد الذي يحدث حولهم وبتحطم آمالهم. أصعب شيء أن تعيش بلا أمل. لقد وصلوا إلى مرحلة شعروا فيها أنه لم يعد لديهم شيء يخسروه بعد الآن لذا قدموا دماءهم.
كان حضور النساء في الأيام الأولى قليلا، ثم بدأ يتزايد. بتُّ أرى نساء من كل الأجيال ومن مختلف الشرائح الاجتماعية. بت أرى الجدات اللواتي يجهزن الخبز والسياح (الخبز المصنوع من طحين الأرز) وبائعات الشاي إلى جانب الشابات العصريات.
رأيت المرأة البغدادية في ساحة التظاهر بصورتها الفلكلورية التي لم أرها منذ زمن طويل، تلك الخاتون التي ترتدي العباءة والشيلة و”الجلاب” في جانبها، تقف تدعو ربها وهي ترتدي محبس شذر في يدها وتردد “الله ينصركم الله يحفظكم ويبعد الشر عنكم”.
رأيت أمهات بعمري قدمن مع أبنائهن ورأيت صبايا وشابات وهن يهتفن بصوت عال بكل طموح الشباب وجموحه، الذي أشعر أننا فقدناه مع أشياء كثيرة فقدناها. كنا (كجيل) نتعثر دائما بخيبات كثيرة لكن هؤلاء الشابات والشباب أقوياء أكثر منا وما زالوا بعنفوانهم وأتمنى أن لا يمروا بما مررنا به.
لم اتمكن من حبس دموعي في كثير من الحالات الإنسانية ومواقف التضامن التي شهدتها هناك. وهي كثيرة لا أستطيع اختصارها.
أمس، قمنا بحملة لتنظيف القمامة، وجاء رجل بعمر والدي في السبعينيات من عمره يحمل صينية فيها قوري شاي وأقداح (استكانات) مزخرفة وبدأ بتوزيع الشاي على الفتيات والشباب المشاركين في الحملة.
شاهدت قصصا عديدة، رأيت امرأة فقدت اثنين من أبنائها (شهداء) وجاءت إلى الساحة مصرة على إعداد الخبز وتوزيعه على المتظاهرين، قائلة :”أنتم أبنائي الذين ستعوضوني عن أبنائي”.
رأيت امرأة أخرى كبيرة في السن، لديها 7 أولاد، وهم كلهم مع أحفادها في الساحة، وهي تقوم بإعداد خبز “السياح” ويساعدها زوجها في إعداده، كي توزعه على أحفادها وأولادها وبقية المتظاهرين.
إن اندفاع العراقيين للمشاركة في المظاهرات لا يوصف. كثير من الشباب جاءوا إلى المظاهرات وأخفوا خبر مشاركتهم عن عوائلهم، كي لا يثيروا قلقهم لكنهم اكتشفوا أنهم سبقوهم إلى ساحات التظاهر، كما هي الحال مع صديقتي تقى، التي أعدت “سندويتشات” لتوزيعها على المتظاهرين واتصلت بي كي تأتي معي لتوزيعها في الساحة مخفية الأمر عن أمها وقائلة لها إنها ستذهب إلى صديقتها، لكنها اكتشفت عندما وصلنا إلى الساحة أن أمها نفسها قد سبقتها إلى هناك، وكذلك أخيها الذي كان قد أخبر أمه أنه ذاهب للعب كرة قدم مع أصدقائه. وكانت الأم البسيطة تحمل أدعية وتوزعها عليهم كي تحفظهم من الأذى وهم في ساحة التظاهر.
ورأيت امرأة كانت توزع الطعام على المتظاهرين وقد قدمت دون علم زوجها لتكتشف أنه في الصفوف الأمامية للمتظاهرين على الجسر، والتقيا قرب الجسر، على الرغم من أنه المكان الأخطر بالنسبة للمتظاهرين، إذ يمثل من يقفون هناك الساتر الأول وطليعة المتظاهرين الذين كلما تقدموا أبعدوا القوات الأمنية ومدى القنابل المسيلة للدموع عن ساحة التحرير. لذا يتحدى المتظاهرون القوات الأمنية (ويسمونها قوات مكافحة الشعب وليس الشغب) ويحاولون دفعها إلى الخلف إلى منتصف الجسر.
شاهدت شابا وفتاة يعلنان خطوبتهما في مبنى المطعم التركي وسط ساحة التظاهر ويقولان إننا سنعيش في عراق جديد.
كان هناك دائما انعزال وفصل بين الرجال والنساء، لكن في الحروب والثورات تتغير هذه الصورة. تعلم كثير من بناتنا كيف يركضن لنقل المغذي لغسل وجه من التهبت عيناه بالدخان المسيل للدموع، وتعلمن إسعاف الجرحى بالإسعافات الأولية البسيطة. وثمة طالبات وطلبة من كلية الطب أيضا يحاولون المساهمة بما يستطيعون عملة من خياطة الجروح والإسعافات.
وكلما ذهبت إلى مكان جديد أرى خيمة إسعافات جديدة تنتصب، في الأيام الأولى كان ثمة تخبط، وكانت هناك خيم فيها أدوية وأخرى بدون أدوية، ولكن خبرتنا تراكمت بمرور الأيام. وبتنا نوزع الأدوية والتجهيزات عليها جميعا.
يعمل الشباب والشابات مثل خلية نحل، نظفوا الشوارع وصبغوا الأرصفة وزينوا الجدران بالرسوم. خذ “جبل أحد” (مبنى المطعم التركي الذي بدأت تسميته بنكتة أطلقها الشباب المعتصمون هناك عندما قالوا أرسلوا لنا سجائر ومأكولات كي نتمكن من الصمود ولا ننزل كما فعل المسلمون في أحد وتفشل الثورة) تمكن المتطوعون من إيصال الكهرباء لهذا المبنى الذي كان مهجورا وجلبوا فرنا كهربائيا لإنتاج الخبز الكهربائي كما مدوا أنابيب الماء وأصلحوا الحمامات.
وباتت حديقة الأمة المجاورة لساحة التحرير مكانا يلتقي فيه الجميع ويتحاورون وينصبون الخيم ويدعمون المعتصمين في “جبل أحد”.
لم تعد ساحة التحرير مجرد موقع للتظاهر والاحتجاج، بل باتت بالنسبة لنا وطنا. وطن اتسع وأصبحت فيه محلات وشوارع، ويتسع تدريجيا ليشمل المدينة كلها، حتى نرى بغداد جديدة.
“جئت من كركوك لأقف معكم”
مريم أديب– خريجة جامعية لم تحصل على وظيفة بعد
أنا مريم من مدينة كركوك في شمال العراق من مواليد ١٩٩٦ وقد تخرجت من الجامعة لكنني حتى الآن لم أحصل على وظيفة.
عندما بدأت المظاهرات كنت أراقبها من مدينتي البعيدة عن بغداد، وبدأت أرى صورا مؤثرة في مقاطع الفيديو التي انتشرت تبين شجاعة الشباب، لم أستطع كبح تدفق دموعي أو النوم وأنا أفكر في أوضاع المتظاهرين ومصيرهم.
قلت لزوجي وهو خريج جامعة ولم يحصل على وظيفة مثلي “أريد أن أذهب إلى التحرير” فرد مستغربا “وين تروحين ؟!”
قلت “أذهب إلى بغداد. أريد أن أكون معهم”. رد “لكن الوضع خطر في ساحة التحرير”.
بيد أنه تراجع في النهاية عندما رأى إصراري على الذهاب والمشاركة في أي شيء مهما كان بسيطا مع أبناء وطني .
وبدأنا بجمع تبرعات وقررنا الذهاب إلى بغداد من دون علم أهالينا لأنهم كانوا يخشون على حياتنا ويرفضون ذهابنا.
عندما وصلنا إلى بغداد ذهبنا قرب ساحة التحرير وسألنا عن المستلزمات الأكثر احتياجاً لدى المتظاهرين وسجلناها، ثم بدأنا برحلة تسوق وجمعنا ما نستطيع شراءه بالمبلغ المتوفر لدينا.
كان عددنا ٦ شباب وأنا الفتاة الوحيدة معهم، لكنني شعرت أنني الشاب السابع ضمنهم.
ذهبنا إلى موقع التظاهر من منطقة قرب جسر السنك، لكننا واجهنا إطلاق نار قربنا فحاولنا أن نحتمي في مكان قريب حتى نتمكن من مواصلة طريقنا وإيصال المساعدات التي بحوزتنا، وساهمنا مع الآخرين في مساعدة بعض من تعرضوا لقنابل الغاز المسيل للدموع،(التي يسمونها دخانية).
وخرجنا نبحث عن طريق آخر يوصلنا إلى ساحة التحرير، حتى وصلنا ونحن محملين بالمستلزمات الطبيه والوقائية والمأكولات.
كان الطعام متوفرا ولكن أعداد المتظاهرين في تزايد، تمنيت أن أطعم كل الموجودين من يدي. حاولت أن آخذ بيدي ما استطيع نقله وأتسلق بناية المطعم التركي (جبل احد ) أو أصل إلى جسر الجمهورية، وأرى المتمترسين هناك وأحس بنفس الخوف او التوتر أو حتى الشعور بالنصر القريب الذي يحسونه وأهتف معهم “لبيك يا عراق” أو ننشد معا نشيد “موطني”، لكن الشباب منعوني، فبكيت مثل الأطفال لأنني لم استطع الوصول إلى المكان الذي أريده.
لقد كان الشباب الذين وصلوا إلى الجسر أو المطعم التركي بلا حماية تقيهم من الإطلاقات وقنابل الغاز المسيل للدموع، وظلوا مرابطين بدون راحة أو نوم وكل ذلك من أجلي ومن أجل إخوتي وأخواتي بل وحتى أولادي وأحفادي مستقبلا.
بهرني شعور التضامن والتكاتف الذي شاهدته هناك، مشهد يجعلك تبكي وتضحك فرحا وتصرخ في الوقت نفسه.
أن ترى صبيانا يافعين من سائقي عربات التكتك يتحولون إلى مسعفين في ليلة وضحاها، وترى مظاهر التعاون وكيف يوصل الشباب الأكل عن طريق الحبال إلى المعتصمين في أعلى بناية المطعم التركي. ثم ترى نساء من كافة الأعمار ينظفن الشوارع ويجهزن الطعام ويسهمن في إسعاف الجرحى.
وكانت غيرة الشباب على النساء في ساحة التحرير لا توصف فلا ترى أي تحرش ولا حتى أي نظره سيئة رغم كل الازدحام.
وأنا سعيدة لرؤية كل شرائح الشعب العراقي تجترح مثل هذه البطولة وتتكاتف بهذه الطريقة ولن يستطيع أحد تفريق شعبنا بعد ذلك.
لقد خرجت للتظاهر ليس لأنني بلا وظيفة بل أردت أن أساهم مساهمة بسيطة وأن أوصل صوتي لأبناء وطني المتظاهرين وأقول لهم نحن هنا معكم ولن نترككم أبدا.
” ثورة جمال ووعي”
رسل جواد ـ مهندسة (محافظة العمارة ـ جنوب العراق)
على صعيد الشخصي، كنت أحلم باليوم الذي أرى فيه وجها مدنيا لمدينتي التي تكالبت عليها الحروب والأزمات والأعراف العشائرية والميليشيات الطائفية.
كنا نفتقد رؤية فتاة جامعية تسير في الشارع أو حتى تلبس ما تحب. فمجتمعنا يُضعف الفتاة جدا ويحد كثيرا من حريتها، ولكن بعد أن خرجت إلى ساحة الاعتصام لم أتمالك نفسي وأنا أرى شاباتنا بمختلف الاختصاصات والتشكيلات وهن يسرن في الطريق برفقة زملائهن وينادين بتغيير النظام بصوت عال ويهتفن بالحرية والمدنية التي لم نرها يوما، لكني شهدت معناها في المظاهرة عندما رأيت الطبيية بزيها والمهندسة والأستاذة والمعلمة وهن يملأن المكان بهتافاتهن ضد كل من يريد أن يضعف أصواتهن.
لقد بتنا نعمل بترتيب عال وعفوي وبدون توجيه كخلية نحل واحدة ومتصلة ومنظمة.
كان شعورا غريبا جدا ويوما انتظرته طويلا ولم أتوقع حدوثه بهذه السرعة، أن أرى الفتيات يتسابقن بالخدمة والمشاركة في ساحات التظاهر وهن بقمة الوعي والثقافة.
كان للمرأة دور فعال جدا في إدامة زخم المظاهرات في هذه المحافظة، حيث تشكلت فرق نسائية خاصة للتبرع بالدم لجرحى المظاهرة وقامت فرق أخرى بحملات تبرع لشراء الغذاء والدواء وما يحتاجه المعتصمون.
وثمة مشاركات فردية بفعاليات تشمل الرسم والفنون التشكيلية وإقامة معارض للكتب في ساحة الاعتصام .وكذلك كان للمرأة دور إعلامي وتوثيقي في نقل صورة الاحتجاج في المحافظة عبر عدد من الإعلاميات والمصورات والناشطات في صفحات التواصل الاجتماعي.
وكان للدور الطلابي، النسوي على وجه الخصوص، أهمية كبيرة، إذ لأول مرة في المحافظة تنطلق مسيرات طلابية بإرادتها وبدون توجيه من جهة معينة وبالزي الطلابي الأبيض الذي أضاء وجه المحافظة ذات الطابع العشائري والحزبي.
كما تشكلت مفارز طبية نسوية لتقديم العلاجات في ساحات الاعتصام وبصورة مستمرة. فضلا عن فرق خاصة لتنظيف ساحات الاعتصام تتكون من طالبات الكلية والمدارس والفرق الكشفية النسوية.
ولم تبخل الأمهات الميسانيات المعروفات بكرمهن بإعداد وجبات الطعام بصورة مستمرة للشباب الثائر.
لقد أصبحت المرأة أقوى عامل لاستمرار الاحتجاج وتطوره ونجاحه في ميسان، لأنها أثبتت أن هذه الثورة ليست إلا ثورة جمال ووعي.
“لا تحرش أو انتقاص من دور المرأة”
يمام حميد ـ موظفة
في يوم الأحد 27 /10، توجهت إلى ساحة التحرير عن طريق شارع أبي نؤاس.
حاول بعض الشباب منعي من الدخول من هذه المنطقة لأنها كانت خطرة والأقرب إلى المواجهات مع المعتصمين عند الجسر، لكنني أصررت على الدخول لأرى “ثوار العراق”. أقسم أنهم جميعا أصغر مني سنا، أنا التي دخلت الثلاثين من عمري. وكان بينهم عدد كبير من المصابين.
ركضت تحت جسر الجمهورية محاولة الاحتماء إطلاق النار وقنابل الدخان، فرافقني اثنان من المتظاهرين، كانا شابين صغيرين، أحدهما أخرس والثاني كانت إحدى يديه مقطوعة. وأدخلوني عن طريق مدرسة العقيدة المجاورة إلى ساحة التحرير لأكون مع أصدقائي.
في الساحة كان الجو أشبه بعرس. فقناني الماء والمشروبات الغازية “البيبسي” والأطعمة بكل أصنافها توزع مجانا. وترى أصحاب عربات التكتك بملابسهم البسيطة جدا والمتسخة من مبيتهم هناك ومن “البيبسي” الذي يصبونه على أنفسهم لتخفيف أثر الغاز المسيل للدموع، يقودون عرباتهم بسرعة إلى بداية الجسر كلما انطلقت قنبلة مسيلة للدموع ويحملون المصاب ويتوجهون به إلى مستشفى الكندي أو مستشفى الجملة العصبية أو إلى أقرب مفرزة إسعاف إذا كانت إصابته بسيطة.
في مساء الأحد، صدرت توجيهات حكومية بمعاقبة المتخلفين عن الدوام في الدوائر الحكومية فأجبرت على الذهاب إلى عملي صباحا. كان موقع عملي في وزارة التخطيط القريبة من جسر الجمهورية، دخلت إلى الوزارة وسجلت حضوري وخرجت مشياً على الأقدام إلى التحرير.
ولأن الجسر كان مغلقا، اضطررت إلى الذهاب عبر جسر السنك. كانت المسافه طويلة جدا بسبب منع السيارات من الوصول إلى المنطقة القريبة من السفارة الإيرانية، لكنني وصلت ساحة التحرير أخيرا من جهة شارع الرشيد.
التحقت بالأصدقاء وباشرنا حملة لتنظيف الساحة من القمامة، وإعداد الأطعمة وقناني المياه لتوزيعها.
توجهت بعدها إلى خيمة الاستراحة، فوجدت هناك متظاهرا من مواليد ٢٠٠١ مصابا بيدة، كان اسمه علي من منطقة (…) وعاطل عن العمل ولا يحمل أي شهادة ويرفض التوجه إلى المنزل للراحة أو العودة إلى المستشفى يقول “ما أعوف التحرير، أريد أموت هنا”.
لقد أُسعف علي في مستشفى الكندي بعد إصابته بقنبلة مسيلة للدموع مزقت جزءا من يده التي بدت محترقة وأسود لونها. وقام الأطباء بتنظيف الجرح من دون خياطته، ووصفوا له مجموعة من الأدوية غير المتوفرة في المستشفى لشرائها من الصيدليات الخارجية.
لقد عاد علي إلى الساحة ولم يكن يحمل معه المبلغ الكافي لشراء هذه الأدوية. وبدأت حرارته ترتفع ويهذي لكنه كان يرفض أن ننقله إلى المستشفى مرة أخرى.
وفي خيمة الطبابة الموجودة في ساحة التحرير لا تتوفر أدوية الالتهابات أو المسكنات التي وصفها له الأطباء. فأخذت الوصفة وتطوع أحد سواق التكتك لإيصالي إلى مستشفى الشيخ زايد، لكنني لم أجد الأدوية المطلوبة، فذهبت إلى صيدلية خاصة خارج المستشفى.
كان سعر الدواء أكبر من مبلغ النقود التي أحملها لكن الصيدلية أعطتني إياه ورجعت مشيا من تقاطع الأندلس إلى ساحة التحرير لأنه لم يتبق لدي أي نقود لاستئجار سيارة أجرة.
عندما وصلت التحرير كان علي فاقد الوعي وهذا ما ساعدنا على أن ننقله بدون علمة إلى مستشفى الكرامة بالتكتك، لأن سيارات الإسعاف لا تتوجه إلا إلى مستشفيي الكندي أو الجملة العصبية القريبين من الساحة.
علي نموذج واحد من المتظاهرين في الساحة، وغيره كثير من الشباب المصابين المستمرين بالثورة وهم مستعدون للموت لأجل قضيتهم وكثير ممن تحدثت معهم كانوا بدون عمل أو شهادة ولا يحملون سوى حبهم لهذا البلد وأهله.
أما بالنسبة لمشاركة المرأة في ساحة التحرير فهي في تصاعد مستمر، على الرغم من أن أغلب الشابات يحضرن بدون علم أهاليهن الذين قد يمنعونهن حرصا على سلامتهن.
أنا واحدة من النساء، أضطر إلى ترك ابني في الحضانه وأتغيب عن عملي لأتوجه يوميا إلى “قبلة الثوار” في ساحة التحرير، لأساهم مع زميلاتي في تنظيف الساحة ومساعدة الجرحى وإيصال الطعام والتبرعات المالية والأدوية والطعام للمرابطين هناك.
اللافت في ساحة التحرير، أنه لا فرق بين امرأة ورجل أبدا، و لا تحرش أو انتقاص من دور المرأة، فنحن نعمل جميعاً ونساعد بعضنا البعض حتى نحصل على جميع مطالبنا.
“في ساحة التحرير بدا العراق كله يدا واحدة”
رغد – متظاهرة
هذه أول مظاهرة أخرج فيها. وهي مظاهرة ليست فيها أجندة سياسية أو رموز دينية. لم أشارك في المظاهرة التي خرجت في بداية أكتوبر/تشرين الأول، لم أكن أعرف بها لكنني حرصت على المشاركة في المظاهرات بدءا من يوم 28 من الشهر نفسه.
كانت المظاهرات السابقة ضد الحكومة ذات مطالب خدمية كالمطالبة بالماء والكهرباء والتعيينات، لكن في هذه المرة بات الشعب أكثر وعيا ووسع من سقف مطالبه. فبعد 16 عاما من وجود الأحزاب والكتل السياسية نفسها وبدون أي تغيير للواقع، بات الناس يطالبون بتغيير النظام السياسي ككل لان النظام تهرئ بالفساد. وكل الواقع الخدمي السيء الذي نعيشه هو نتاج سوء الإدارة والتنظيم وغياب التخطيط.
لقد وجد الناس أن نظام المحاصصة هذا غير صالح. فالنظام الذي زعموا أنه ديمقراطي بات نظاما يخدم مصالحهم في الحقيقة ولا يخدم الشعب، خذ مثلا لدينا أكثر من 300 نائب في البرلمان يأخذون مخصصات مالية عالية وامتيازات أكبر من حجم عملهم. ثمة فجوة بين الحكومة والشعب صار الشعب تحت خط الفقر وهم ينعمون بالأموال والرواتب العالية.
ما دفعني للمشاركة في المظاهرات هو هذا الوعي الذي ظهر لدى الناس، فبت أذهب كل يوم إلى ساحة التحرير.
وجدت هناك تكاتفا عاليا وتنظيما وتوزيعا للمهام فترى من ينظف ومن يقوم بواجب الإسعاف في المفارز الطبية أو يطبخ الطعام ومن يوصله بعربات التكتك.
اليوم، رأيت واحدا من الشباب وهو في السادس الإعدادي، كان يقف على الساتر في الطابق 12 فوق “جبل أحد”. قلت له لماذا تترك مدرستك قال: “لقد رأيت الناس تموت هنا، لا أحتاج مدرستي في الوقت الحالي أحتاج أن أجد وطني أولا. وهذه انتفاضتنا ضد الأحزاب كلها التي اختطفت وطننا”.
بقي أحد الشباب في ساحة التظاهر منذ يوم 25 إلى الآن، ولم ير أهله. وقد شهدت في الثاني من الشهر الجاري كيف جاءت لرؤيته بنت اسمها روان، كان هو قد كتب اسمها وتاريخ ميلادها 2/11 واسمه على الحائط ورسم علم العراق. ورأيته كيف اتفل معها بعيد ميلادها وعاد ليقود مجموعته وينظفون ويرتبون المكان.
لم أر نفق الباب الشرقي بمثل هذا الجمال. ثمة نباتات ورسومات وكتابات على الجدران (غرافيتي)، إنها صورة تملؤك بالأمل والتفاؤل، فهؤلاء الشباب قادرون على صناعة التغيير في ظرف يوم أو يومين ولا يحتاجون إلى سنين.
في المساء ترى من يشعل الشموع ومن يقرأ القرآن ويتلو الدعاء لأرواح الشهداء.
وثمة حضور نسوي كبير. فترى البنات يقدمن الإسعافات الأولية في المفارز الطبية وأخريات يعملن في حملات التنظيف أو يطبخن الطعام لتوزيعه على المتظاهرين. ومن بقين في البيوت يساندن بإرسال النقود أو الطعام أو الإمدادات الأخرى، كما وصلتنا أيضا تبرعات من شباب عراقيين من خارج العراق.
والجميل في هذه المظاهرات إنك لا تميز فيها بين السني أو الكردي أو الشيعي. على سبيل المثال، اليوم بالمصادفة شاهدت شبابا قادمين من البصرة ومن السليمانية ومن ديالى في ساحة التحرير. لقد أصبح العراق كله يدا واحدة في الساحة بدون طائفية.
“ثورة صححت الكثير من عيوب المجتمع”
يمام سامي ـ رسامة ومصممة
انتظرت طويلا كي أزور ساحة التحرير بسبب ظرف صحي طارئ، حتى زرتها اليوم الأول من نوفمبر/تشرين الثاني مع زوجي وابنة عمي. كنت قبلها اتابع مع العائلة الأخبار لحظة بلحظة على القنوات العراقية الموالية والمعارضة فضلا عن القنوات العربية، وكنا نعيب على القنوات الغربية تجاهلها لما يجري بالعراق مقارنة بمظاهرات لبنان التي تزامنت معه.
على مدى عشرة أيام، كان المتظاهرون في ساحة التحرير يواجهون وهم عاريو الصدور وابل إطلاقات الغاز المسيل للدموع التي تطلقها قوات مكافحة الشغب، والقاتلة أحيانا إذا أصابت الشخص مباشرة.
وقد طور المتظاهرون تكتيكا لمواجهتها مع مجموعة من الشباب المتخصصين بالتقاطها وإبعادها عن الجموع برميها إلى من يسمونهم كتيبة إخماد “الدخانية” في نفق التحرير حيث يغطونها بالبطانيات المبللة.
لم أشهد في زيارتي الصباحية للتحرير مثل هذا الفعل البطولي، إذ لم تقصف الساحة بالغازات أثناء تظاهرات الطلاب التي صادفت هذا اليوم أيضا، لكنني شهدت “المدرعات” من عربات التكتك التي خطت عليها إلى جانب الشعارات عبارة “سيارة أسعاف”.
كان شباب التكتك ومعظمهم من المراهقين قد عرضوا علينا النقل المجاني طوال الطريق إلى الساحة وداخلها، لقد أصبحت الساحة مدينة مصغرة مقسمة إلى شارع إبو نؤاس حيث خيام المبيت والطعام ومرآب السيارات التي تنقل للمتظاهرين المفروشات والأغذية والتجهيزات الطبية.
يأتي بعد ذلك النفق الذي يطل عليه المتظاهرين من فوق، وقد بات الآن في حلة جديدة وازدان برسوم “الغرافيتي” التي نفذها المحتجون لرموز “الثورة”، مثل كلمة حب التي خطت بالخط المسماري أو رسوم تصور سواق التكتك مع كلمات مثل “أبو الغيرة” العراقية، ثم برج المطعم التركي الذي بات قلعة لمواجهة القصف بقنابل الغاز المسيل للدموع واستقر به المحتجون لتأمين المتظاهرين وحمايتهم من القناصين الذين قتلوا الكثير من الشباب في المظاهرة السابقة.
عندما وصلت مع الجموع إلى الساحة، شاهدت في طريقي شابة ترتدي معطف أبيض وبيدها حفنة من النقود وتقوم بجمع التبرعات لسد بعض نواقص إسعافات المصابين.
ثم وجدت نفسي أمام مشهد مهيب لمبنى المطعم التركي الملقب بـ “جبل أحد”، كانت أفواج من البشر تصعد إليه وسلاسل من الشباب تملأ طوابقه العليا المهجورة منذ عقود، وتتدلى منه صور “الشهداء” وشعارات تتهكم على الحكومة وتواجهها بمطالب الشعب العادلة.
وعلى الجانب الآخر من الساحة، يشمخ نصب الحرية الشهير للفنان جواد سليم، الذي ظل منذ إنشائه حتى اليوم شاهدا على مأساة هذا البلد الذي لم ينعم بالسلام قط.. وانتشرت تحت النصب خيام الاستراحة ومفارز الإسعافات الأولية، وتوقفت في شوارع الساحة سيارات حمل مُحملة بطناجر وقدور كبيرة كانت قبل أسبوعين مخصصة لزوار عاشوراء، ونذرت اليوم، بما فيها من ألذ الأكلات وأشهاها، لمتظاهري التحرير.
يمكن تصنيف محتجي التحرير إلى فئات واضحة. فهناك الواقفون على خط المواجهة وضمن مرمى النار بخوذهم وجروحهم المضمدة وملابسهم المتسخة لأنهم لم يغادروا الساحة منذ أيام، ويليهم المسعفون بمآزرهم البيض، ثم المعتصمون في الساحة الذين لا يبارحونها ليلا أونهارا، فالمتظاهرون المتضامنون والقادمون من المحافظات، والنساء اللواتي أخذن على عاتقهن أمر التنظيف والطهي والتظاهر بحمل لافتات تحمل شعارات مختلفة.
وبعد ذلك ترى أسرابا من البشر لكل واحد منهم مطلب، البعض يحمل لافتات مكتوبة والبعض الآخر يردد شعارات بأداء جماعي ضمن “هوسات” حماسية.
وترى سرادق النقابات والجمعيات وخيمة للحوزة العلمية والحشد الشعبي في مكان ستراتيجي من الساحة.
هذه الثورة صححت الكثير من عيوب المجتمع، على سبيل المثال،صححت تلك النظرة الدونية لأصحاب المهن البسيطة واستبدلتها بتبجيل سائقي التكتك الذين كان الشارع ينبذهم ويسخر منهم. وكذلك الحال مع الموقف من المرأة، فلم تشهد شوارع التحرير أي حالة تحرش أو عدم احترام، حيث تقف المرأة إلى جانب الرجل يصنعان المستقبل.
لقد خلقت هذه المظاهرات جوا من الأمل والفرح من بعد غصة الوجع على أجمل شباب العراق الذين راحوا ضحية فيها. وشهدنا تآزرا للمرة الأولى بين كل طوائف المجتمع تحت شعار وحق ملح، هو “نريد وطنا”.
[ad_2]
Source link