ماذا سيحدث لعقولنا لو أمضينا سنوات في الفضاء؟
[ad_1]
تمرد أم إضراب عن العمل؟ بين هذين الوصفين؛ انقسمت آراء من تناولوا ما قام به رواد الفضاء الموجودون على متن محطة الفضاء الأمريكية “سكاي لاب” في أحد أيام عام 1973.
فبعدما رُفِضَت مطالبهم بتقليل المهام الملقاة على عاتقهم، والتي قالوا إنها مرهقة لهم بشدة، قرروا أن يقلصوها من تلقاء أنفسهم ولمدة يوم كامل؛ انقطعوا فيه كذلك عن إجراء أي اتصالات مع مركز التحكم الأرضي في المحطة، والاكتفاء بمشاهدة ما حولهم من مناظر خلابة من النوافذ.
وجاء إقدام الرواد على هذا التصرف – الذي ينطوي على تحدٍ لرؤسائهم – بعدما تجاوزوا بقليل نصف الفترة المحددة للمهمة، التي استمرت 84 يوما. وبغض النظر عن توصيفنا لما قاموا به، فقد مثلّ أحد المؤشرات المبكرة، التي أفادت بأن رحلات الفضاء الطويلة ستتضمن تحديات إضافية، لم تكن قد ظهرت – حتى ذلك الوقت بوضوح – في المهام الأقصر نسبيا.
ومن هذا المنطلق، فإذا كان البشر جادين في خططهم لإرسال رحلات فضاء مأهولة إلى كوكب المريخ، فعليهم إدراك أن أحد أكبر التهديدات، التي تواجه مهام مثل هذه، يمكن أن تتمثل في الحالة النفسية، لرواد الفضاء الذين سيُختارون للمشاركة فيها.
ويعتبر الباحثون القارة القطبية الجنوبية مكانا لاختبار كيف تتأثر حالتنا الذهنية والنفسية بالسفر لمدة طويلة في داخل مركبة فضائية، وذلك في ضوء وجود العديد من أوجه الشبه بين الاثنين، من بينها الظلمة الدامسة التي تكتنف هذه القارة لعدة شهور خلال فصل الشتاء، ما يلغي دورة الحياة المعتادة بالنسبة لنا، والتي تتضمن تعاقب النهار والليل كل 24 ساعة.
كما أن الطقس هناك قارس البرودة، بفعل تدني درجات الحرارة إلى 80 درجة مئوية تحت الصفر، ما يجعل من الصعب على المرء الخروج إلى العراء، ويدفعه للبقاء بين أربعة جدران.
وهناك طابع العزلة الذي تصطبغ به الحياة في القطب الجنوبي. فالمرء هناك معزول ماديا، نظرا لأنه من المستحيل تقريبا أن يُنقل إلى خارج هذه المنطقة خلال الشتاء. كما يعاني من عزلة اجتماعية، في ضوء إقامته بين العدد المحدود نفسه من الناس طوال الوقت.
على أي حال، ربما يمثل ما حدث على متن “سكاي لاب”، نموذجا لما يُعرف بـ “ظاهرة الربع الثالث”، التي تحدث عنها مستكشفون للقطبين الجنوبي والشمالي وغيرهم. وتتعلق هذه الظاهرة بتراجع أداء المشاركين في مهمة ما خلال الربع الثالث منها، وذلك إذا كانت تُؤَدى في بيئة معزولة ومحدودة وتسودها ظروف متطرفة، بغض النظر عن مدى طولها الزمني.
ويقول البعض إن هذا التراجع ينجم عن إدراك المشاركين في مثل هذه المهام أنهم تُرِكوا لفترة طويلة في وضع لا مهرب لهم منه، مع فقدانهم في الوقت ذاته الدافع للاستمرار. ورغم أن هناك من يقول إنه لا وجود لهذه الظاهرة من الأصل، فإن ملامحها تظهر في مواقف متنوعة، بما في ذلك تجارب محاكاة الرحلات الفضائية.
وقد توقعت غرو ميلهايم ساندال، أستاذة علم النفس الاجتماعي في إحدى الجامعات النرويجية، أن تجد هذه الظاهرة عندما أجرت دراسة بشأن الحالة النفسية لـ27 شخصا، في محطة “كونكورديا” البحثية بالقارة القطبية الجنوبية. فمتوسط درجة الحرارة في العراء هناك يبلغ 51 درجة مئوية تحت الصفر، ولا يمكن الوصول إلى المحطة سوى في الفترة ما بين نوفمبر/تشرين الثاني وفبراير/ِشباط من كل عام.
لكن بدلا من أن تجد الباحثة هؤلاء الأشخاص، وقد أصيبوا باكتئاب مع اقترابهم من الربع الثالث من مهمتهم، اكتشفت أنهم دخلوا في ضرب من ضروب “السبات النفسي”، إذ أصبحوا منفصلين عن واقعهم، وذوي مشاعر باردة حيال ما حولهم.
ولا يخلو هذا “السبات” من فوائد، إذ يساعد الموجودين في مثل هذه الظروف – كما تقول ساندال – على توفير الموارد وعدم استهلاكها كاملة، وأيضا تجنب أن يُستَنزفوا بدنيا وذهنيا خلال الفترة التي يقضونها منعزلين عما حولهم.
لكن هذه الإيجابيات المحتملة، لا تنفي وجود مخاطر لهذه الحالة كذلك، خاصة إذا ما كانت ستحدث لرواد فضاء مهمة متجهة إلى المريخ وتستغرق عدة شهور. فوفقا لما تقوله الأستاذة الجامعية النرويجية، يمكن أن يعرقل المرور بهذه الحالة، اتخاذ أفراد الطاقم ردود فعل سريعة، حال حدوث أي مواقف طارئة خلال الرحلة.
وتقول ساندال إن المخططين لمهام فضائية مثل تلك، على وعي كامل بالمخاطر المترتبة على حدوث حالة من الرتابة أو شعور المشاركين في المهمة بالملل، مشيرة إلى أن هؤلاء الأشخاص بحاجة لإيجاد سبل لمواجهة هذه الأمور، عبر ابتكار طرق للترفيه عن الرواد بما يلائم ظروف رحلاتهم.
وبالرغم من أن الخلود للنوم يلعب دورا رئيسيا في تحديد طبيعة ردود فعل رواد الفضاء، على ما سيواجهونه – إذا اختيروا للسفر إلى المريخ – فإن نيل قسط وافٍ من النوم ليس بالأمر السهل، في ضوء عدم وجود دورة اليوم الطبيعية التي يتعاقب فيها الليل والنهار على متن المركبة. فعلى سطح الأرض، تتحدد دورة النوم والاستيقاظ بحسب عاملين؛ أولهما مدى الإرهاق الذي يشعر به المرء، وثانيهما ظهور ضوء النهار.
وتقول جوان باور، باحثة في مجال النوم بإحدى الجامعات البريطانية، إنه لن يكون بوسع الرواد الاستفادة من هذا الضوء، لتفعيل دورة النوم والاستيقاظ لديهم، في وقت ثابت من كل يوم. وتشير إلى أن من لا ينعمون بـ”جدول زمني صارم فيما يتعلق بمواعيد النوم والاستيقاظ يعانون كثيرا على صعيد أنماط نومهم”.
وقد رُصِدَ ذلك بالفعل من قبل، في تجربة أُجريت على الأرض لمحاكاة المهام الفضائية المزمع إرسالها مستقبلا إلى المريخ. فخلال هذه التجربة، التي استمرت 17 شهرا وانتهت في عام 2011 بمشاركة ستة من رواد الفضاء، عانى أربعة منهم من اضطرابات في النوم.
وتقول باور – التي تركز دراستها على طبيعة التفاعل بين نمط نومنا وما نشعر به – إنه “إذا نام المرء بعمق، فسيتفاعل مع البيئة المحيطة به بشكل أفضل كذلك. ومن هنا فإن حفاظك على أن تنعم بنوم هانئ، يمثل أمرا محوريا لكي تحظى بالسعادة وبصحة جيدة، سواء في حياتك على سطح الأرض أو في الفضاء”.
لكن هناك جوانب لرحلات الفضاء الطويلة، تستعصى على المحاكاة على سطح الأرض. ففي مرحلة ما من مراحل الرحلة إلى المريخ، سيصبح كوكبنا غير مرئي، من جانب الرواد الموجودين على متن المركبة، ممن ستصبح الأرض بالنسبة لهم مجرد بقعة باهتة من الضوء في السماء. المشكلة هنا أن رؤية الأرض من الفضاء، تمثل إحدى أفضل اللحظات بالنسبة للرواد خلال مهامهم. فهذا الأمر – بحسب جوان باور – يشكل أحد العوامل ” التي تُبقي الرواد سعداء وإيجابيين . لكن ذلك لن يكون متوافرا لعدة شهور” في كل مرة يقصد فيها البشر المريخ.
وتضيف أن غياب هذا العنصر “يجعلنا بحاجة للعثور على أشياء أخرى يمكن لرواد الفضاء الاعتماد عليها كبديل” له.
وقد وضعت هذه الباحثة وزملاؤها قائمة تتضمن 23 عنصرا، يتم من خلالها فحص الصحة العقلية لمن يرتادون الفضاء. وتم اختبار هذه العناصر، على من يعملون في القارة القطبية الجنوبية خلال الشتاء.
ووجد الباحثون أن مشاعر هؤلاء وعواطفهم، أصبحت أكثر تقلبا وتذبذبا بمرور الوقت، “فكلما قضوا هناك وقتا أطول، أصبحت مشاعرهم تتبدل صعودا وهبوطا”، حسبما تقول باور.
وبرغم أن تجاهل الأمور التي تمضي في مسار خاطئ قد يبدو منافيا للفطرة السليمة، في ضوء أن حدوث ذلك في الفضاء قد يقود لنتائج كارثية، فإن تبني هذا النهج في بعض المواقف، قد يكون الخيار الأمثل.
وتقول باور: “إذا كنت في الفضاء، وما بيدك حيلة إزاء أمر ما، فإن تقليلك من شأنه، وعدم تركيز تفكيرك عليه، ربما يكون أفضل ما يمكنك القيام به بالنسبة لصحتك”.
لكن المشكلة أنه لن يكون بمقدور رواد الفضاء تجاهل التفكير في حالتهم العقلية والذهنية، إذ سيضطرون للاهتمام بها، والقيام بكل ما في وسعهم، للتعامل مع ما قد يواجههم من مشكلات وأزمات، دون انتظار أي عون خارجي.
ويعود السبب في ذلك إلى أنه إذا كان هؤلاء في طريقهم المريخ، فلن يكون بوسعهم التواصل مع مركز التحكم الأرضي أثناء الرحلة والحديث مع الموجودين فيه عما يعتري حالتهم النفسية والذهنية من تقلبات، وأخذ المشورة منهم في هذا الشأن. فمن المعروف أن هناك تأخيرا متوقعا في كل اتصال بين أي رحلة متوجهة للمريخ ومركز التحكم الموجود على الأرض، يصل إلى 22 دقيقة.
ومن هنا، يتعين أن تكون الخطوة الأولى، على طريق اختيار رواد فضاء يُرسلون إلى المريخ أو إلى كواكب أبعد منه، هي انتقاء أشخاص قادرين على التعامل مع المشكلات الذهنية التي قد تصيبهم خلال الرحلة، دون الاحتياج لمن يساعدهم في هذا الصدد.
ويمكن الاستفادة في هذا السياق من رواد الفضاء الموجودين على متن المحطة الفضائية الدولية، في ضوء أن قضاءهم ستة أشهر هناك ليس بالأمر السهل، ما يثبت كفاءتهم من الناحية النفسية والذهنية. ومن ثم فإن المرء لا يحتاج – حسبما تقول ساندال – إلى البحث عن نمط آخر من الرواد، لكي يوكل لهم مهمة القيام برحلات فضائية أطول أمدا.
وبجانب ضرورة الحرص على اختيار رواد فضاء قادرين على مقاومة الشعور بالملل، فمن المفيد أن يكونوا أميل إلى الانطواء.
وتقول ساندال: “نحتاج لتكوين طواقم من الرواد، الذين لا يشعرون باحتياج كبير” للتواصل اجتماعيا مع الآخرين.
وتضيف: “لذا اعتقد أن تكوين طاقم أكثر انطوائية بمثابة ضرورة. ومن المهم أن يتسم هؤلاء الرواد – مثل أقرانهم المشاركين في أي رحلة فضائية أخرى – بالاستقرار العاطفي”.
ويتعين تكوين فريق متوافق ومتجانس من رواد الفضاء. وفي الوقت الراهن، تعكف ساندال على دراسة بيانات جمعتها من دراسة أجرتها على رواد فضاء روس، وذلك للتعرف على كيفية تأثر أداء الرواد بالاختلافات الثقافية بينهم وبالطريقة التي يقومون بها بالوظائف والمهام المنوطة بهم.
وبمجرد تجميع الفريق المثالي من الرواد لأداء المهام الفضائية المطلوبة، يمكن إجراء تعديلات في البيئة المحيطة بهم في سفينة الفضاء نفسها، لإبقائهم في حالة معنوية طيبة.
وقد يسعى المرء في هذه الحالة، للاستفادة مما هو معروف، من أن رؤية البشر وهم على سطح الأرض لمناظر الطبيعة الغناء، يؤدي لتقليص مستويات التوتر، ولتحسين قدرتهم على التركيز. لكن المشكلة هنا أن مثل هذا الخيار غير متوافر تقريبا في الفضاء.
وفي هذا الإطار، يجري جاي بوكي، أستاذ الطب بإحدى الجامعات الأمريكية – وهو رائد فضاء سابق شارك في إحدى المهام لحساب وكالة “ناسا” عام 1998 – تجربة خلال الشتاء الحالي، تُستخدم فيها تقنيات الواقع الافتراضي، في منطقة بالقطب الجنوبي تابعة للولايات المتحدة وفي محطات أسترالية موجودة هناك أيضا.
ويسعى الرجل لاختبار ما إذا كانت هذه التقنيات ستفيد المرء في التعامل مع التحديات النفسية المترتبة على حياته في مكان معزول أم لا.
ويقول: “تشعر حينما تضع سماعات ونظارات الواقع الافتراضي، بأنك نُقِلت من بيئتك المعتادة”.
ورغم أن التجربة لا تزال مستمرة، فإن بوكي يقول إن المؤشرات الأولية تفيد بأن أفراد العينة يستخدمون بالفعل المعدات الخاصة باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، ما يشير إلى أنهم يجدونها مفيدة على ما يبدو.
وتتضمن المشاهد التي يُتاح للمرء رؤيتها عبر هذه التقنيات، منظرا لشاطئ أسترالي وآخر لساحل آيرلندي وثالثا لجبال الألب البافارية، بجانب صورة لشلال في إقليم نيو إنغلاند بالولايات المتحدة. ويضاف إلى ذلك، مشهد للحياة في مدينة بوسطن، تحسبا لأن يكون أحد المشاركين في التجربة، من بين من يروق لهم الشعور بالانغماس في صخب الحياة التي تسود المدن.
وقد اختبر جاي بوكي تأثير رؤية مجموعة مماثلة من المشاهد والمناظر، خلال تجربة محاكاة رحلة فضائية إلى المريخ، تُجرى في مركز مقام لهذا الغرض في هاواي. وتشمل التجربة سؤال أفراد العينة، عن أي البيئات التي تحظى بالقدر الأكبر من إعجابهم، من بين تلك التي عُرِضَت عليهم بتقنية الواقع الافتراضي. وجاءت على رأس القائمة، المناظر الطبيعية المُصوّرة بدقة عالية.
لكن بعض المشاركين أعربوا عن استمتاعهم كذلك، بالصور التي تُظهر ملامح الحياة في المدن. ويعقب بوكي على ذلك بالقول:” راق للبعض بالفعل مشاهدة المناظر التي تصوِّر الحياة في المدن، لأن من بين ما كانوا يفتقدونه، أن يجدوا ببساطة أناسا آخرين حولهم”.
كما يمكن أن تفيد تقنية الواقع الافتراضي، في التغلب على أي تقلب يحدث لمزاج رواد الفضاء، بفعل عجزهم عن رؤية الأرض من النوافذ، إذ تخلق لهم هذه التقنية، نافذة افتراضية يرون من خلالها مشهدا افتراضيا أيضا للأرض من الفضاء.
ومن بين الأمور المفيدة كذلك في هذا المضمار، تخصيص أوقات للتوقف عن العمل أو لنيل قدر من الاسترخاء، وهو أمر بدت إيجابياته خلال الإضراب أو التمرد الذي شهدته محطة “سكاي لاب”.
وترى ساندال أن إضافة أمور مثل ممارسة اليوغا والتأمل، إلى برنامج التدريب الذي يُطلب من رواد الفضاء القيام به، يساعد على تخفيف التوتر الذي يشعرون به وهم في طريقهم إلى المريخ، شريطة أن يجد هؤلاء وسيلة فعالة لممارسة اليوغا في حالة انعدام الوزن التي تسود السفن الفضائية.
وبالنظر إلى إصرارنا على الوصول إلى المريخ في نهاية المطاف، يبدو ضروريا أن نجد حلا لأي مشكلات قد تعترض بقاء رواد الفضاء المشاركين في المهمة، في حالة اتزان ذهني ونفسي طوال الرحلة.
ويقول بوكي: “يمثل الجانب النفسي أحد أهم الجوانب التي يتعين التعامل معها على هذا الصعيد، لأن المهمة الفضائية ستكون مذهلة بحق إذا ما كُلِلَ ذلك بالنجاح. أما الفشل فقد يؤدي إلى وضع كلمة النهاية للرحلة برمتها”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future
[ad_2]
Source link