ماذا ستفعل شابات سعوديات في ظل” الحريات الممنوحة لهن؟”
[ad_1]
قبل سنوات كنت أدرّس مادة الأدب الإنجليزي في إحدى جامعات السعودية لشابات في بداية العشرينيات من العمر قدمن من بيئة أعرفها جيداً، ولم أعتقد حينها أن ماتحتاجه طالباتي كان مجرد معلومات تتعلق بالمسرحين الإنجليزي أو الأمريكي، بل كن بحاجة لأن تغير تلك المعرفة طريقة تفكيرهن ورؤيتهن للواقع وقدرتهن على التخيل.
الخوف هو ما كان يمنعهن من التخيل؛ فالخوف هو ما يجعلنا دائماً عالقين في اللحظة. قد نفرح بما يمنح لنا لكنه يظل منحة قد تسترد في أي لحظة (يستردها الآخر: الرجل، الأسرة، المجتمع، الحكومة) لتظل القدرة على التحكم في المستقبل محدودة ومرهونة بذلك الآخر.
“أوليفيا” تغني من خلف الستار
كانت السنوات ما بين 2011 و 2014 تجربة اجتماعية بالنسبة لي أكثر من كونها تجربة تعليمية؛ لم أضع معايير للفشل أو النجاح في المقرر الذي كنت أدرّسه، ولأن تحمل هذه المسؤولية مخيف، طالبتني بعض الشابات بالإبقاء على الصورة التقليدية للتدريس والتقييم: قراءة المسرحيات، وترجمة بعض الكلمات، ثم التدرب على أسئلة معدة مسبقاً للاختبار وحفظ إجاباتها لينتهي المقرر كأي مقرر آخر لتعليم اللغة الإنجليزية.
قررت أن نتوقف عن القراءة وننتقل إلى خشبة المسرح ووقع الاختيار على مسرحية “هاملت” رغم أني كنت أسأل نفسي “لماذا ستهتم طالباتي بأزمة وجودية لأمير دنماركي؟”، في الوقت الذي كان المجتمع يسعى جاهدا لتلقينهن وإعدادهن ليصبحن زوجات وأمهات ومواطنات “صالحات”.
أردت للطالبات أن يكن ما يُردن، أن يعلن مباشرة مسؤوليتهن عما قد يحدث؛ الوقوف على المسرح مغامرة و مقامرة. لا يمكن التنبؤ بما قد يحدث أو ماقد يقوله شخص ما أو ماقد يحدث خارج النص دون سابق تخطيط، و كل مايحدث على خشبة المسرح حينها لا يمكن تغييره أو إيقافه، الأمر شبيه بما يفعله المتظاهرون مثلاً، فالمظاهرات تعد أيضاً فناً أدائيا بتفاصيلها وتنظيمها والفكرة التي تقودها.
اختارت كل طالبة ما أرادت فعله سواء أكان الوقوف على خشبة المسرح لتمثل شخصية، أو رسم خلفية المسرح بألوان تختارها هي، اختيار الأزياء، وامتلاك الخيار كان يعني امتلاك القرار و القدرة على تخيل و تنفيذ ما يردن.
لم تكن فكرة المسرحية مقبولة من قبل القسم أو بقية الطالبات (أو حتى الأشخاص الذين لا يملكون حق إبداء الرأي بالموافقة أو بالرفض)، كانت تجربة بعيدة عن سيطرة الآخرين، سقوط حر اختارته المشتركات بشجاعة.
كانت خشبة المسرح مجرد جزء من فناء لا يوجد فيها إلا ستار أسود و على المسرح بقايا مقاعد وطاولات كثيرة. وبالرغم من كون المسرحية باللغة الإنجليزية إلا أن كثيرا من طالبات الأقسام الأخرى جئن لرؤية مايحدث.
على المسرح اختارت طالبتي (خ) تمثيل شخصية أوليفيا في هاملت؛ لكنها قررت الغناء من خلف ستار المسرح خوفاً من حكم الأخرين عليها؛ إذ لم تكن فكرة الغناء مقبولة حينها لذا كانت الفكرة بالتظاهر بأن ذلك مجرد تسجيل صوتي لفتاة ما غير معروفة.
ولكن بعد غناء المقطع الأول بصوت مرتجف وجدت نفسها تتقدم من خلف الستار وتقف بشجاعة في منتصف المسرح لتكمل الغناء وسط احتفاء صديقاتها بها.
لم نفكر بعد العرض ما إذا كانت المسرحية جيدة أم لا، ولم نتذكر منها إلا تلك التفاصيل الصغيرة التي سمحت لنا أن نعبر عما نريد و عمن نكون، كانت التجربة هي الوقوف والاختيار والتخيل والتنفيذ، وتحمل كل المصاعب والمتاعب التي واجهت المشتركات فيها وأظهرت مايؤمن به دون خوف.
“الحلم يصبح حقيقة”
بعد ذلك بسنين، وتحديدا في 26 سبتمبر/أيلول من عام 2017 سمح للنساء بقيادة السيارة وأصبح الحلم الذي لم نستطع تخيله قبلها حقيقة. توالت بعدئذ قرارات كثيرة تحرر المرأة من سطوة السلطة الدينية والأنظمة الحكومية التي قيدت حياتها دائما بقرار رجل ما.
فعلا لم تكن الفتيات قادرات على تخيل ذلك؛ فأثناء فترة تدريسي في الجامعة في السنوات السابقة أذكر أني طلبت منهن كتابة مقال قصير عن حق المرأة في القيادة، وكان هذا الموضوع وقتها موضع نقاش حاد في المجتمع السعودي.
كان من السهل أن تعبر شابة جامعية عن رأي مؤيد أو معارض لقيادة المرأة، طارحة أسباباً ومبررات تؤمن بها فعلا أو زرعت في رأسها زرعا؛ فلم يكن غريبا مثلا أن أسمع من إحداهن أن المرأة ناقصة عقل وبالتالي فإن قدراتها أقل من قدرات الرجل، أو أن أسمع في الوقت ذاته شابة أخرى تقول إن قيادة السيارة هي “المخلّص المنتظر” للنساء.
لكنني عندما طلبت منهن أن يعملن خيالهن لتصور ما قد يحدث إن سمح للمرأة بقيادة السيارة، وأن يحلمن بما يمكن فعله في حال أصبح الأمر واقعاً، كان الصمت هو الإجابة الوحيدة التي حصلت عليها.
“أشعر بأنني عالقة هنا، في هذه اللحظة”
وبعد صدور قرار السماح للمرأة بالسفر في أغسطس/آب 2019، كنت أتحدث مع إحدى طالباتي السابقات والتي تعمل الآن كمعلمة وتصغرني بـ 12 عاماً؛ سألتها مجددا عن المستقبل وكيف “تتخيل” التغيير القادم بعد كل هذه القرارات. سألتها أين ستكون وجهتها القادمة إن قررت السفر. “أشعر بأنني عالقة هنا، في هذه اللحظة”، كان هذا ردها، بينما بدت أختها الصغرى أكثر تفاؤلاً، ومضت تحكي عن حريتها وقدرتها على فعل ماتريد. لكنها لم تستطع أن تتخيل مايمكن أن تفعله بكل هذه الحرية “الممنوحة” لها.
تحتاج القدرة على التخيل إلى إيمان. ليس بالضرورة الإيمان بإمكانية حدوث مانتخيله، ولكن الإيمان بقدرتنا على الإغراق في التفكير وملاحقة الأفكار حتى الحمقاء والمستحيلة منها في عالمنا المتخيل.
الخوف الذي خلقته تلك القيود وجعلت فتيات في بداية العشرينيات منشغلات بملاحقة ولي الأمر للحصول على موافقته للدراسة أو السفر أو الخروج من المنزل أو بالمحافظة على صورة مطلوبة منهن أمام المجتمع هو الذي جردهن تماما من تلك القدرة على اتخاذ قرار أو التفكير حتى باحتمالية قدرتنا على فعل شيء قد يغير المستقبل حتى لو في خيالنا.
ومن باب المفارقة قدمت روبوت “أنثى” سميت “صوفيا” في مؤتمر في الرياض في نهاية عام 2017 كأول روبورت يحصل على الجنسية السعودية رغم أنها لم تكن تحمل ملامح نساء السعودية، ولم تظهر مرتدية الحجاب الذي كان مايزال مفروضاً على أغلبية النساء السعوديات.
تمثل “صوفيا” المستقبل لكنها حتماً لا تشبهنا وربما كانت تلك محاولة لإقناعنا أن تلك الصورة المستقبلية هي صورة لواقع افتراضي لا يمكن أن يتحقق في عالمنا الواقعي.
هذا الهوس بالاخترعات والفتوح التكنولوجية وإبرازها لبقية العالم هو هوس تعيشه البلاد العربية ويقدم من قبل الحكومات كتعبير عن التقدم و التخطيط المستقبلي، وفي المقابل يوضع الفن والفلسفة والأدب في ذيل الاهتمامات حاليا، بل إنها قد تحارب بملئها بمحتوى تافه أو وبتقييد قدرتها على التعبير بحرية. لكن هذه المجالات المهملة هي الملهمة و الأهم – بالنسبة لي – لإطلاق الخيال للإنطلاق بحرية خلف أفكارنا، لاختيار مستقبل يمثلنا نحن لا “الآخر”.
[ad_2]
Source link