لماذا ترتفع معدلات الاكتئاب بين الشباب في “أسعد” دولة في العالم؟
[ad_1]
كان توكا سارني، الذي يعد نموذجا حيا للسعادة في الدولة التي تصدرت مؤشر الأمم المتحدة للسعادة للعام الثاني على التوالي، يجلس على الأثاث البسيط المصطف خارج أحد المقاهي، مستمتعا بأشعة الشمس.
ويقول سارني، الذي أنهى مؤخرا دراسته الثانوية ويستعد لتسلم عمله في متجر للبقالة بعد شهور قليلة من البحث عن عمل، إنه سعيد بكل المقاييس، وإنه لم يصب هو أو أي من أصدقائه قط بالاكتئاب. ويضيف: “نعيش حياة هانئة، إذ ننعم بطقس جيد، أحيانا على الأقل، ولدينا نظام تعليم ممتاز ونظام رعاية صحية رائع”.
ويرى أن أحد مميزات المجتمع الفنلندي أنه يشجع على مخالطة الأصدقاء بقدر اهتمامه بالانفراد بالنفس. ويشيد سارني بالطبيعة الفنلندية الخلابة وانخفاض معدلات البطالة. ويقول إن الوظائف متوفرة، وبإمكان أي شخص أن يجد الوظيفة المناسبة مادام يبذل جهدا في البحث عنها.
وربما ساهمت هذه المؤشرات، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى الثقة بين الناس والأمان وانخفاض التفاوت الاجتماعي، في حلول فنلندا في المرتبة الأولى في مؤشر السعادة العالمية.
غير أن هذا البلد الشمالي الصغير الذي لا يتجاوز تعداد سكانه 5.5 مليون نسمة، طالما وصف بأنه بلد يخيم عليه الحزن والكآبة بسبب ليالي الشتاء المظلمة والطويلة. ورغم أن فنلندا لا تنبض شوارعها بالسعادة والمشاعر الإيجابية، إلا أنها كشأن سائر البلدان الاسكندنافية، لديها جميع المقومات التي تؤثر إيجابا على الصحة النفسية لسكانها.
عالم أكثر تعقيدا
يرى الكثير من الخبراء أن الصورة النمطية لفنلندا كأسعد دولة في العالم قد تحول دون رؤية التحديات التي يواجهها المرضى النفسيين في فنلندا، ولا سيما الشباب. ويرى البعض أنها تمنع الفنلنديين من تمييز أعراض الاكتئاب والاعتراف بها للحصول على العلاج المناسب.
ولا تزال معدلات الانتحار في فنلندا أعلى منها في سائر البلدان الأوروبية، إذ أن ثلث أعداد الوفيات بين الشباب في الفئة العمرية بين 15 و24 عاما سببها الانتحار. وأشار تقرير رسمي نشره المجلس الشمالي للوزراء ومعهد أبحاث السعادة في كوبنهاغن إلى أن 16 في المئة من الفنلنديات من سن 18 إلى 23 عاما و11 في المئة من الشباب يقولون إنهم “يعانون” أو “يواجهون مصاعب” في الحياة.
وأشارت تقديرات الجمعية الفنلندية للصحة النفسية في عام 2011 إلى أن نحو 20 في المئة من الشباب تحت الثلاثين عاما عانوا من أعراض الاكتئاب العام الماضي.
وذكر تقرير للمركز الشمالي للصحة النفسية والقضايا الاجتماعية أن الفنلديين يشربون كميات أكبر من الخمر مقارنة بنظرائهم في البلدان الشمالية المجاورة. وسلط التقرير الضوء على ارتفاع معدلات إدمان المخدرات بين الشباب في الفئة العمرية من 25 إلى 34 عاما.
ووصلت معدلات البطالة بين الشباب من سن 15 إلى 19 عاما إلى 12.5 في المئة في عام 2018.
ويقول جوهو ميرتانين، باحث في علم النفس بالجمعية الفنلندية للصحة النفسية، إن سوق العمل في فنلندا أسهم في زيادة المشكلات النفسية بين الشباب بسبب إنعدام الأمان الوظيفي، فضلا عن أن التفاوت الاجتماعي آخذ في الازدياد.
ويلقي ميرتانين باللوم على انتشار الأجهزة الرقمية في فنلندا وتزايد الاعتماد على الوظائف المستقلة والمؤقتة، وكلاهما يؤثر على الصحة النفسية للشباب في العالم الغربي. ويقول: “الاقتصاد العالمي يتغير، وهذا يتجلى في انخفاض عدد الوظائف الثابتة التي يشغلها الموظف ثم يترقى وبعدها يتقاعد”.
ويرى ميرتانين أن مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر أيضا على الصحة النفسية للشباب في فنلندا وغيرها من الدول، بسبب المقارنة التي يعقدها رواد هذه المواقع بين لحظات البؤس التي يمرون بها وبين اللحظات السعيدة التي يعرضها الآخرون على صفحاتهم في هذه المواقع.
ويقول إن صورة فنلندا في العالم التي من المفترض أن يشعر سكانها بالسعادة والرضا، تؤثر سلبا على بعض الشباب الفنلندي الذي قد يشعر أن تجاربه في سوق العمل تخالف هذه الصورة النمطية.
كل شيء على ما يرام، لكن
تقول كيرسي ماريا موبرغ، التي تبلغ من العمر 34 عاما، وشخصت بالاكتئاب في سن المراهقة ولازمها المرض طيلة العشرينيات من العمر: “قد تشعر أنه لا يحق لك أن تصاب بالاكتئاب عندما تعيش في بلد مثل فنلندا، حيث المستوى المعيشي المرتفع”.
وتضيف: “قد يشعرك المجتمع بأنه يجب عليك أن تستمتع بحياتك وبكل الإمكانيات التي أتيحت لك وأنت في مرحلة الشباب”.
ويقول جون جونتورا، طبيب أصيب بالاكتئاب أثناء دراسته الجامعية، إن الاكتئاب، رغم ارتباطه ببعض الأحداث الشخصية والاجتماعية الصعبة مثل الانفصال أو الركود الاقتصادي، إلا أنه مرض قد يصيب أي شخص بغض النظر عن مستواه المعيشي.
ويضيف: “عندما أصبت بالاكتئاب، كان كل شيء في حياتي على ما يرام، كنت مستمتعا بمدرستي وأمارس هواياتي، وكنت مرتبطا بعلاقة عاطفية، لكن رغم ذلك اعتراني المرض”.
الوصم الاجتماعي
ويرى خبراء الصحة النفسية أن حملات مكافحة الانتحار أسهمت في تراجع النظرة السلبية والخجل المصاحبين للاكتئاب والقلق في فنلندا، وزاد إقبال الناس على العيادات النفسية لتلقي العلاج.
إلا أن الكثيرين من الشباب الذي أصيبوا بالاكتئاب يقولون إنه لا يزال هناك نوع من الوصم المرتبط بالاكتئاب، لكن هذا يتوقف على الدائرة الاجتماعية التي تنتمي إليها ومدى توفر الحرية التي تتيح للشخص التحدث عن الأعراض دون خجل.
يرى الشباب، مثل كيرسي ماريا وجونترا، أنه لا يزال الحديث عن الاكتئاب وأعراضه ممنوعا بعض الشيء في فنلندا، رغم كسر القوالب النمطية المرتبطة بالمرض النفسي
وفي هذا البلد الذي يقدس الخصوصية، نادرا ما يُظهر الفنلنديون مشاعرهم على الملأ، وقلما يتبادلون الأحاديث الودية، وقد يجد بعض الفنلنديين المصابين بالمرض صعوبة في الاعتراف بالاكتئاب ومناقشته مع الآخرين.
ويقول جونتورا، الذي يعالج مرضاه من الاكتئاب، إن الشباب في فنلندا يعجز عن التعبير عن آلامه ومشاعره. إذ لا تزال الأمراض النفسية ترتبط بالضعف، وبعض الرجال يرون أنه من الصعب الاعتراف بأنهم تنتابهم هذه المشاعر.
الحصول على العلاج
توفر السلطات المحلية خدمات العلاج النفسي الممولة من الضرائب، لهذا من المفترض، نظريا، ألا يواجه المرضى النفسيون صعوبات مالية للحصول على العلاج.
لكن في السنوات الأخيرة، تزايد الجدل حول قوائم الانتظار الطويلة في المدن الكبرى وصعوبة الوصول للعلاج النفسي في المناطق النائية. وقد يستغرق الأمر أسابيع أو حتى شهور للحصول على العلاج النفسي المناسب.
ويقول ميرتانين، إن التدخل المبكر يزيد فرص الشفاء من الاكتئاب، ولا سيما لدى الشباب الذين يعانون من أعراض الاكتئاب للمرة الأولى في حياتهم.
واستجابة لنقص خدمات الصحة النفسية في بعض المناطق، أسس الدكتور غريغوي جوفي ودكتور ماتي هولي، من المستشفى المركزي بجامعة هلسنكي، منصة “منتل هيلث هاب” الرقمية للصحة النفسية التي نالت شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة.
وتوفر المنصة معلومات عن مراكز العلاج وأدوات المساعدة الذاتية ومقاطع فيديو لجلسات علاج مرضى الاكتئاب الحاد والمعتدل.
ووقّع 50,000 شخص على عريضة تطالب الحكومة بتوفير العلاج النفسي لمن يعاني من مشاكل نفسية في غضون شهر. وتقدر الكلفة السنوية لهذه المبادرة بنحو 35 مليون يورو سنويا، لكن المؤيدين يقولون إنها ستوفر 10 أضعاف التكاليف التي تنفق على العلاج ومعونات البطالة.
ويأمل جونتورا أن يتحول النقاش في فنلندا عن الصحة النفسية إلى خطوات ملموسة في ظل تزايد الوعي العالمي بالاكتئاب. ووضعت الأمم المتحدة مؤخرا الصحة النفسية كأحد أهداف التنمية المستدامة.
ويقول جونتورا: “شرع الناس مؤخرا في إدراك مدى انتشار الأمراض النفسية، وحجم الموارد المطلوبة فرديا وعلى مستوى المجتمع. ولا يزال الطريق أمامنا طويلا للقضاء على هذه المشكلة، لكنني أشعر بالتفاؤل”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Worklife
[ad_2]
Source link