بكتريا صحراوية “تحدث ثورة” في عالم المضادات الحيوية
[ad_1]
تبدو فكرة أن يستغرق المرء في تأمل التضاريس المقفرة لمنطقة “فايا دي لا لونا” (وادي القمر) الواقعة في صحراء أتاكاما في تشيلي أمرا لا طائل من ورائه، ناهيك عن أن يتصور الإنسان إمكانية وجود علاقة بين مكافحة الأمراض، وهذه الصحراء التي تتسم بأنها الأشد جفافا في العالم، ويوجد فيها قدر من الأشعة البنفسجية الأقوى على الإطلاق على وجه الأرض.
لكن لدى مايكل غودفيلو، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة نيوكاسل، رأيا مخالفا، إذ يقول إن الظروف غير المواتية للغاية التي تسود أتاكاما، تشكل تحديدا العامل الذي قد يجعلها مفيدة بالنسبة لنا.
ويوضح غودفيلو بالقول: “هناك فرضية هنا مفادها بأنه طالما كانت الظروف التي تسود صحراء أتاكاما شديدة القسوة، فإن ذلك يعني أن الكائنات الحية الموجودة هناك تأقلمت مع هذه الأوضاع”.
ومن هذا المنطلق، يرى غودفيلو أن البكتيريا التي نجحت في البقاء على قيد الحياة في مثل هذه البيئة الحافلة بالعوامل المعاكسة، أفرزت على الأرجح مكونات كيمياوية جديدة وفريدة من نوعها، يمكن أن يكون لها فوائد طبية مهمة.
وفي عام 2008، تسلم غودفيلو عينة أُخِذَت من قلب تربة هذه الصحراء القاحلة بشدة، إلى حد أن الأمطار لم تهطل على بعض من مناطقها فعليا منذ ملايين السنين، ما جعلها تُصنف يوما ما باعتبارها في حالة جفاف تفوق كل ما هو متعارف عليه في هذا الشأن.
ويقر غودفيلو بأنه وزملاؤه لم يتوقعوا – صراحة – أن يتمكنوا من العثور على أي كائنات حية تعيش داخل هذه العينة. لكنه فوجئ بأنه تمكن من إكثار مجموعة متنوعة من البكيتريا – كانت موجودة هناك – بداخل المعمل، ما أشعل شرارة دراسات استمرت عقدا من الزمان بشأن ميكروبات هذه المنطقة.
وتركز اهتمام الباحثين بشكل خاص على نوع من البكتيريا يعيش في أتاكاما، بدا مثيرا أكثر من غيره بالنسبة لهم. ويتمثل هذا النوع في شعبة مُنتجة لـ “البوغ”، أو خلية التكاثر اللا جنسي، تحمل اسم “البكتيريا الشعاوية”، وتشتهر في دوائر المهتمين بعلم الأحياء الدقيقة، بأنها قادرة على إفراز مركبات كيمياوية عضوية تُعرف باسم “المستقلبات الثانوية”، وتساعد على التصدي للميكروبات المنافسة لها.
ومن بين أنواع البكتيريا المنتمية لهذه الشعبة؛ نوع ينمو في تربة بعض الحدائق المنزلية. وعندما تُوضع عينة منه في مستعمرة سل فطري، تفرز مادة كيمياوية تمنع البكتيريا المجاورة لها، من إفراز البروتينات التي تحتاجها للبقاء على قيد الحياة.
وحينما نجح العلماء في جامعة روتغيرز الأمريكية في عزل هذه المادة في المختبر عام 1944، سنحت لهم الفرصة لتحضير أول مضاد حيوي لعلاج السل، ما أفضى لإنقاذ حياة عدد لا حصر له من الأشخاص.
وقد أثبتت الأنواع الجديدة من “البكتيريا الشعاوية” – التي وُجِدَت في صحراء أتاكاما ويعكف غودفيلو وغيره من الباحثين على دراستها – أنها تحتوي على خصائص كيمياوية مفيدة. فقد تبين أن الكثير من الجزئيات الـ 46 الجديدة المنتمية للسلالات البكتيرية الموجودة في هذه المنطقة الصحراوية من تلك التي أحصتها دراسة أُجريت عام 2018، تحتوي على خصائص مقاومة للجراثيم والفيروسات وللإصابة بالأورام السرطانية كذلك.
وبينما يؤكد غودفيلو أنه لم يتم بعد تحضير أي عقار دوائي تدخل في تكوينه هذه الأنواع من البكتيريا، فإن النتائج التي تم التوصل إليها حتى الآن، تشير إلى أن “أتاكاما” تمثل بقعة واعدة للبحث عن مضادات للفيروسات والجراثيم.
وتشكل صحراء “أتاكاما” نموذجا رئيسيا لما يصفه الباحثون بـ “الغلاف الحيوي الأقصى”، وهو مصطلح يُطلق على بقاع من العالم أدت عوامل مثل الجفاف الشديد أو انتشار الأشعة البنفسجية أو الضغوط الهائلة أو ارتفاع درجة الحموضة، إلى جعل الحياة فيها تبدو كما لو كانت على الحافة.
وفي السنوات القليلة الماضية، عكف العلماء على التنقيب عن الموائل التي تسودها ظروف غير مواتية على هذه الشاكلة. وقد وجد هؤلاء باستمرار مستعمرات من البكتيريا ذات قدرة هائلة على التحمل، نجحت في البقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب.
وفي عام 1998، جلبت غاطسة يابانية بكتيريا تُعرف بأنها قادرة على الحياة في بيئة تسودها الضغوط الكبيرة للغاية، وذلك من رواسب بمنطقة “خندق ماريانا”؛ التي تشكل البقعة الأعمق على سطح الكرة الأرضية، وتقع على بعد 11 ألف متر (36 ألف قدم) تحت سطح البحر.
ويمكن لهذا النوع من الكائنات الحياة العيش تحت ضغوط تزيد 700 مرة عن المستوى الموجود على السطح.
وفي عام 2009، أعلنت جيل ميكوسكي، عالمة في مجال التوزيع الجغرافي للأحياء الدقيقة، اكتشاف تجمع للميكروبات على بعد 400 متر تحت مستوى سطح ما يُعرف بـ “الجليد الأزرق” الموجود في القارة القطبية الجنوبية.
وتمكنت هذه الميكروبات من الحياة لملايين السنين، عبر الامتصاص التدريجي للطاقة من رواسب الحديد الموجودة في هذه المنطقة. ويشير ذلك إلى أن البكتيريا تستعمر العالم بحق، سواء كانت تقبع في بركان ثار لتوه في أيسلندا، أو تستقر منذ آلاف السنين تحت طبقة الجليد الدائم في سيبيريا.
وقد أعادت هذه الدراسة التمهيدية تشكيل فهمنا لحدود الحياة، ومنحتنا فكرة عن الطرق البارعة والمبتكرة التي طورتها البكتيريا للتكيف مع الأشياء المحيطة بها. لكن احتمال الاستفادة من هذا النوع من الكائنات الحية في مواجهة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، شكّل السبب الأكثر إلحاحا لاستكشاف النظم البيئية التي تسودها ظروف شديدة القسوة.
فهذه الميكروبات تشكل مسببات للأمراض، تعلمت كيف تقلص من الأثر المدمر الذي يحيق بها نتيجة اللجوء إلى المضادات الحيوية. ويُعتقد أنها مسؤولة عن حدوث مئات الآلاف من حالات الوفاة سنويا حول العالم. وتصفها منظمة الصحة العالمية بأنها تمثل في وقتنا الحالي “أحد أكبر التهديدات للصحة العالمية وللأمن الغذائي والتنمية”.
ومما يزيد الأمر سوءا أن بدء إخفاق الأدوية الأكثر جدارة بثقتنا في أداء مهمتها العلاجية، تزامن مع ما شهدته السنوات الأخيرة من القرن الماضي من تباطؤ كبير في عمليات تطوير مضادات حيوية جديدة.
التنقيب الحيوي
وفي الوقت الذي تحث فيه الهيئات المعنية بالصحة العامة في مختلف أنحاء العالم الأطباء والممرضين والمزارعين على الاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية وللمواد المقاومة للجراثيم، بهدف المساعدة على كبح جماح الميكروبات المقاومة لهذه المضادات، ثمة اتفاق عام على وجود حاجة لتطوير عقاقير دوائية جديدة.
وفي بعض الأحيان، يمكن أن نجد تحت أعيننا مباشرة – حرفا لا مجازا فقط – مواد كيمياوية يحتمل أن تكون مفيدة لنا. ففي عام 2016، اكتشف باحثون ألمان في فتحة الأنف البشري مادة لم تكن معروفة من قبل، تبين أنها قادرة على قتل نوع من البكتيريا مقاوم للعقاقير الدوائية. وفي حالات أخرى، يمكن للجزئيات المُركبة بشكل كامل، أن تثبت أنها ذات فاعلية كبيرة في مقاومة الجراثيم.
لكن الكثير من العلماء يذهبون للقول إنه يتعين علينا استكشاف عالم الكيمياء الحيوية، الذي يتسم بأنه مستمد من البيئة الطبيعية تماما بأنه جديد أيضا في الوقت نفسه، ويُعرف النهج الذي يدعو له هؤلاء باسم “التنقيب الحيوي”. ومن بين المنادين به مارسيل جاسبيرز، الخبير الكيمياوي في جامعة أبردين، الذي يقول: “تمثل الطبيعة مصدرا لما يتراوح بين 70 و75 في المئة من مضادات الجراثيم. لقد فوجئت بأنه يتوجب علينا أن نبحث بشكل أكبر في الكيفية التي تنمو بها هذه الجزئيات في الطبيعة، وفي السبل التي يمكن لنا من خلالها العثور على مركبات مضادات الجراثيم هذه”.
ويبدو أن البقاع التي تسودها ظروف متطرفة وتخلو ظاهريا من أيٍ من أشكال الحياة مثل صحراء أتاكاما، هي المناطق الواعدة أكثر من غيرها على صعيد إمكانية العثور فيها على أسلحة جديدة في الحرب ضد المواد المقاومة للمضادات الحيوية.
وقد أظهرت الإنجازات التي تحققت على صعيد عمليات تحديد تسلسل الحمض النووي للكائنات الحية أن الأودية الجافة في القارة القطبية الجنوبية – والتي يُعتقد أن تربتها القاحلة وطقسها شديد البرودة فريدان من نوعهما في العالم – تشكل موطنا لمجموعة من أنواع “البكتيريا الشعاوية”، المتنوعة بشكل أكبر بكثير مما كان يُحسب قبلا.
فضلا عن ذلك، أدت عمليات استكشاف المناطق العميقة في المحيطات، وهي تلك المعروفة باسم الخنادق، إلى اكتشاف فئة جديدة تماما من المواد الكيمياوية التي تُعرف باسم “أبيسوميتشينز”.
وفي الوقت الحالي، يعكف الباحثون في مجال الأحياء الدقيقة، الموزعون بين أماكن مثل الكثبان الرملية في مدينة مرزوكة الواقعة بجنوب المغرب وصحراءيْ بادان جاران وتنغر الصينيتين، على تكوين مكتبة آخذة في التنامي من المُركبات التي تحتوي على خصائص نشطة بيولوجيا.
لكن يجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه لن يتسنى لنا على الأرجح تحضير أدوية يُستفاد فيها، من كثير من الجزيئات المستخلصة من أنواع البكتيريا القادرة على مواجهة أصعب الظروف هذه. ففي كل مرة اكتشف فيها الباحثون مضادا حيويا غير وجه العالم مثل البنسلين، عثروا في الوقت نفسه على عدد لا حصر له من المركبات الكيمياوية، التي إما كانت سامة للغاية أو غير فعالة بالقدر الذي يجعلها بدون فائدة من الناحية الدوائية.
غير أن الأمر لا يقتصر على الاستفادة من هذه الأنواع من البكتيريا في مواجهة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية فقط، فكما تقول كريستينا دورادور، خبيرة في الأحياء الدقيقة الموجودة في صحراء أتاكاما، فهناك الكثير من الأسباب الأخرى التي تحدو بنا لتقدير أهمية المخلوقات التي تعكف على دراستها، من كائنات صغيرة الحجم بقدر يجعلها لا تُرى بالعين المجردة.
وتشير دورادور إلى أن قدرة البكتيريا الصحراوية على تحمل الجفاف والملوحة الشديدتين، ربما تساعد النباتات على النمو حتى في ظروف سيئة. كما أن قدرتها على التكيف مع الأشعة فوق البنفسجية، قد تكون مفيدة للعاملين في قطاع تحضير مستحضرات التجميل، ممن يسعون لإيجاد سبل لحماية بشرة الإنسان من الأضرار التي يمكن أن تُلحقها بها أشعة الشمس.
اللافت أن الباحثين ربما لم يكتشفوا حتى الآن سوى النذر الضئيل من الإمكانيات الكامنة في صحراء أتاكاما وغيرها. فمن المعتقد أن إجمالي ما تم عزله وتنميته في المختبرات من الأحياء الدقيقة التي تعيش في البيئة الطبيعية في العالم، لا يتجاوز واحد في المئة تقريبا مما هو موجود منها بالفعل.
وتساعد الأساليب الجديدة الخاصة بتحديد تسلسل الحمض النووي للكائنات الحية، الباحثين من أمثال دورادور على توقع الأنواع الأخرى من البكتيريا، التي يمكن أن تكون موجودة في بقاع مثل أتاكاما، ولم تُكتشف بعد.
وتقول الباحثة التشيلية في هذا الصدد: “نعلم أنها هناك، وأن لدينا تنوعا هائلا من الميكروبات، لكن لا نعلم حقا تأثيراتها، أو الإمكانيات الكامنة فيها. فثمة كونٌ هائلٌ من الميكروبات ينتظر أن يُكتشف في صحراء أتاكاما”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future
[ad_2]
Source link