أخبار عاجلة

ومضات من مسرح السريع والرشود | جريدة الأنباء


بقلم: عبدالوهاب الحمادي

شريط فيديو انقرض بسرعة اسمه بيتامكس، خط والدي على طابعه، «١٢٣٤بم» اسم حيرني. لم أكن مولعا حينها إلا بأفلام الكارتون طبعا والملاكم روكي وفتى الكاراتيه وسوبرمان بأجزائه الثلاثة. زاد فني أعيده دون كلل. أعيد قراءة الاسم على شريط البيتامكس متمهلا، «١٢٣٤بم».

وضعت الشريط في فم الفيديو وأطبقته، أعدت الشريط من الأول، دارت البكرتان حتى سمعت ال جك! جاهز للعرض.

لوهلة عزمت على الرجوع إلى فتى الكاراتيه ومعاناته حتى انتقم ممن ضربه من فتية الحي، لكن سبابتي الفضولية ضغطت إصبع زر العرض إلى الأسفل. دارت بكرتا الشريط وبدأت المسرحية!

يخترق الفنان عبدالله الحبيل صفوف المتفرجين وسط صالة المسرح يبيع الصحف، ينادي بخبر عاجل عن أسرة عادت للحياة بعد الموت، يتحدث مع الجمهور بينما أنا مصدوم لكسر الصورة التقليدية للمسرح.

كان هدما لكل ما رأيت قبلا من مسرحيات. يظهر على المسرح الفنان علي المفيدي، يناوله الحبيل صحيفة ويقرأ الخبر بالتفصيل.

عائلة تعود من الموت، بعد حتفهم عندما انهدم البيت عليهم، جراء مطر غزير عرفته الكويت ودون في سجلات تاريخها باسم: سنة الهدامة.

عادوا إلى الحياة وعادوا لأبنائهم الذين لم يقضوا تحت أنقاض البيت لأنهم كانوا خارجه آنذاك. على المسرح يصطدم الماضي بكل جماله وقبحه بالحاضر بعد النفط بكل قبحه وجماله.

حفظت اسمين منذ ذلك الحين: المؤلف عبدالعزيز السريع والمخرج صقر الرشود. آنذاك لم أمتلك غوغل يروي عطش المعرفة.

في زمن سحيق ذكرت اسم المخرج عرضا أمام والدتي على الغداء فقالت: نعم توفي في حادث سيارة وقع له بالإمارات باغتتني بسؤال: هل تعرف متى كان ذلك؟ مددت شفتي نافيا معرفتي. فأكملت: قبل أن تولد بشهرين، في أواخر ديسمبر عام 1978.

بدأت في اقتناء ما استطعت أشرطة مسرحيات ذلك الثنائي، وتسجيل ما كان يعرض دوريا في التلفزيون مثل مسرحية: «ضاع الديك». عرفت أن فرقتهم تسمى مسرح الخليج. لقيت في مكتبة المدرسة كتابا عن صقر الرشود وتجربته المسرحية.

توفي عن ٣٨ عاما! أتعجب الآن أن ذلك النتاج الثري تم خلال ذلك العمر القصير! عرفت أنه عاش في الهند والمدينة المنورة والكويت فعرف الناس والحياة أكثر. أغرمت بمسرحيتهما: «شياطين ليلة الجمعة».

عرفتها عندما قرأت لقاء للفنان سعد الفرج في صحيفة يذكر أنها من أجمل مسرحيات الكويت. في تلك المسرحية كان تفاعل الممثلين مع الجمهور مختلفا عما سبق.

بعد 10 أعوام من الألفية وبعد صدور أول كتاب لي، التقيت الكاتب المسرحي عبدالعزيز السريع في مكتبه بمؤسسة البابطين، دار حديث لم أنس أهم ملامحه.

في رمضان 2019 التقيته ثانية في دارته. دار الحديث عن ذلك العصر الذهبي، صقر الرشود، تأليف المسرحيات، الفنانين، الشعراء، كل الجمال المتعدد الأطياف.

أخبرته أنني مع التقدم في العمر بدأت في فهم ما لم أفهم من تلك المسرحيات آنذاك، تتضح لي فيها زوايا جديدة لم تكن عيني آنذاك تلتقطها، لذلك أحببت مشاركتكم بفكرة ومضت في ذلك المسرح وأسرد 3 أمثلة عنها.

الفكرة هي: اعتاد المسرح الكويتي الحديث عن مشاكل الكويتيين بعمق أو سطحية، وكان الآخر العربي/ الأجنبي قلما يظهر على الخشبة لا لهدف سوى الكوميديا عبر تقليد لهجته ولباسه ثم تبادل التعليقات النمطية بين الممثل الكويتي والآخر.

في مسرح الرشود والسريع وما نتج عنه كان الوضع مختلفا. بدا الأجنبي/ العربي فاعلا له صوت واضح يصدح بما يعترضه في المجتمع الكويتي.

مسرحية «شياطين ليلة الجمعة» صراع بين فريقين من منهما يجيد التمثيل، يقود أحدهما الفنان محمد المنصور والآخر الفنان خالد العبيد، يتناوب كل فريق بتمثيل مشهد من مشاهد المسرحية.

في مشهد يقوده العبيد، لعب دور رئيس تحرير مجلة كويتية متغطرس وجاهل. مثال مستمر في كل زمان ومكان. ويعمل تحته مدير تحرير عربي.

اعتاد الأول التنمر على الأخير مرارا في المشهد، في ذروة الحوار بينهما قال الكويتي: «هل نسيت من أين أتيت بك؟ أنت بغير الكويت هل تستطيع أن تكون صحافيا؟» صرخ مدير التحرير العربي بعدما ضحك جمهور الصالة: «طيب.. يلعن أبو الذل! يعني أنت لولا الكويت تكون رئيس تحرير!» الرد جاء محطما للصورة النمطية للأجنبي/ العربي المغلوب على أمره. يطبق فمه خوف انتقام المواطن.

روى لي الأستاذ السريع: إن الممثل كان خائفا يتصبب عرقا من لعب هذا الدور وهذه الجملة تحديدا، وتم إقناعه بصعوبة، وعندما تفاعل معها الجمهور في أول عرض ارتاح خاطره.

وهذا أمر لافت يدل على وقع هذه الجملة في كسر الصورة النمطية للعلاقة بين الكويتي والآخر على خشبة المسرح.

مسرحية «بحمدون المحطة» مسرحية لم يتم تصويرها تلفزيونيا، عرضت عام ١٩٧٤. تعرضت للمشاكل التي تعتور سفر الكويتيين للخارج ولقائهم بالآخر في بلده. كما احتوت قصة حب غير معتادة، لبناني يقع في غرام كويتية! اعتدنا في الأعمال الفنية على العكس لكن في المسرحية التي كتبها عبدالعزيز السريع مع صقر الرشود، جاءت القصة لتجعل المتلقي يتابع قصة حطمت الصورة النمطية.

واخترقت التابوهات الفكرية آنذاك، وضعت العادات والتقاليد تحت إضاءة المسرح ليتفاعل معها المشاهد سلبا أو إيجابا، ذلك شأن أي عمل فني يحترم المتلقي.

مسرحية «الواوي» عبارة عن 3 مسرحيات صغيرة من إخراج صقر الرشود وإشراف عبدالعزيز السريع.

كل واحدة كتبها كاتب مختلف. اشتهرت الأخيرة عندما أدى فيها الفنان سليمان الياسين دورا لا تزال لزمته تتردد حتى اليوم بين الجمهور: «شمحووووطة!» حديثي عن المسرحية التي في المنتصف، كتبها نواف أبوالهيجاء وهو من فلسطين.

تتمحور حول بناية يمتلكها كويتي، يزيد الإيجارات على سكانها العرب والكويتيين ظلما مستغلا ضعف حيلتهم. وهذه الفكرة في حد ذاتها جريئة على المسرح الكويتي.

كشف لي الأستاذ السريع جملة أضافها للنص على لسان مالك العمارة قائلا: أردت أن أستفز الجمهور بتبيان الشر في شخصية المالك، عندما يوجه ابنه عن كيفية فهم الحياة: «الدنيا ظالم ومظلوم، لا يوجد صنف آخر.

لماذا تكون مظلوما؟ كن ظالما!!» علم المالك أن سكان البناية ينتظرون رأي جارهم الكويتي وموافقته على الزيادة من عدمها، إن وافق سيتبعونه مرغمين.

عندها يعمد المالك للاتفاق مع المستأجر الكويتي على عدم زيادة إيجاره بالسر، شريطة أن يوافق علنا أمام سكان البناية على الزيادة فيفعل.

لكن في نهاية المشهد يكشف المستأجر الكويتي اللعبة أمام المستأجرين فاضحا انتهازية مالك العمارة وسط تهليل السكان والجمهور.

موقف مسرحي لافت لمواطن ينتصر على ابن وطنه دفاعا عن حقوق الآخر/ العربي.

تلك 3 أمثلة من عالم مسرح الرشود والسريع وتجربتهما التي تستحق العناية والتأمل من محبي المسرح.

أمثلة لفتت نظري في زمان شيطنة الآخر عربيا كان أو أعجميا، زمان نسبة كل سوء للآخر ووصمه به، وتزكية النفس وارتفاع حدة الشوفينية لسقف غير مسبوق. مرض العنصرية يستشري عندما يستشري النسيان، للفن دور في مكافحة المرض عبر التذكر وهذا ما أردته.

هل أشعر بالحنين لذلك الفيديو وأصابع إعادة البكرات؟ ربما، فلا يخلو إنسان من حنين.

ذلك ما شدني للبحث عن المسرحية «١٢٣٤ بم» في تلافيف الشبكة العنكبوتية! البيتامكس صار نسيا منسيا، تبعه ال في أش أس، ثم السي دي، الدي في دي، البلوراي واليوتيوب والنيتفلكس ولا أعلم ما القادم.

بات البحث عن المسرحيات القديمة والنادرة عملا غير شاق، سأكتفي حاليا بإعادة مشهدي المفضل من «١٢٣٤ بم» عندما يكتشف جد العائلة القادم من الماضي، خزانة خمر في منزل أحفاده في الحاضر. فيخرجها قنينة قنينة عازما كسرها على سيف البحر.

جرأة صارت يتتبعها مقص الرقيب في أزمنة الإنترنت، لننس الرقيب ومقصه، ونستمتع بالفن الذي شيده السريع والرشود وزملاؤهما.





Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى