الروائي الذي تنبأ برحلات الفضاء بدقة عجيبة
[ad_1]
لم يكن آرثر تشارلز كلارك واحدا من الكتاب الذين يخفون مواهبهم الفذة عن الآخرين هربا من الأضواء، بل بلغت ثقته في نبوغه حدا جعله يطلق على مكتبه “غرفة حب الذات”، التي يحترق فيها أي أثر لضعف الثقة بالنفس. واشترى منزلا ضخما لاستيعاب مجموعة مؤلفاته وأبحاثه.
لكن كلارك كان يرفض رفضا باتا أن توصف توقعاته للمستقبل، بأنها “تنبؤات”، رغم أنه وصف الإنترنت والطابعات ثلاثية الأبعاد والبريد الإلكتروني قبل ظهورها بسنوات طويلة، بل كان يرى أنها محض استنباطات واستنتاجات.
وقد اجتذبت روايات كلارك أعدادا هائلة من القراء حول العالم، تعلقت قلوبهم بأعماله التي تستشرف المستقبل. وكتب كلارك العديد من المقالات والأبحاث العلمية، ذكر فيها تنبؤات تحقق الكثير منها، إذ صاغ مثلا في مقال نشر عام 1959، فكرة “جهاز الإرسال والاستقبال الشخصي”، وهو جهاز صغير متنقل، يتيح لحامله الاتصال بأي شخص في العالم، ويضم الجهاز أيضا “التموضع العالمي”، الذي لن يضل من بعده أي شخص طريقه أبدا، وكان يصف حينها الهاتف المحمول.
وبعد خمس سنوات تحدث في حوار في برنامج “هورايزون” الذي يذاع على قناة “بي بي سي” عن رؤيته للاتصالات السلكية واللاسلكية والطب عن بعد. وتنبأ أيضا في مؤلفاته بأمور أخرى مثل الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، والمركبات الفضائية التي يمكن إعادة استخدامها، وحتى مشكلة الألفية التي يطلق عليها مشكلة الصفرين في مطلع الألفية الثالثة.
لكن بعد مرور عقد على وفاته، لا يزال اسم كلارك يتردد على ألسنة عشاق الخيال العلمي بفضل رواياته وقصصه القصيرة الشهيرة، ولا سيما رواية “2001: أوديسا الفضاء”، وهي قصة قصيرة شارك بها كلارك في مسابقة نظمتها هيئة الإذاعة البريطانية عام 1948، لكنها لم تفز.
وفي عام 1964، قرر كلارك والمخرج ستانلي كيوبريك، تحويل هذه القصة القصيرة إلى رواية وفيلم. وتنبأت هذه الرواية بجهاز “آيباد”، وبرنامج كمبيوتر يمكنه قراءة حركة الشفاه، ومحطة الفضاء، بالإضافة إلى تنبؤات أخرى، لم تتحقق بعد، مثل السياحة الفضائية، والحياة المعلقة، أو التعطيل المؤقت للوظائف الحيوية لإطالة العمر، وهذه التقنية لا تزال في طور التجربة.
- هل شرب “المياه الخام” من الينابيع أفضل من المياه المعالجة؟
- طرق غير تقليدية للاستمتاع بالرحلات السياحية
وقبيل موته، ذكر كلارك أن رواية “أوديسا الفضاء”، كانت من أبرز أعماله، رغم أنها لم تكن انجازا استثنائيا بين مؤلفاته العديدة الأخرى. إذ تنبأ في أولى رواياته “مقدمة إلى الفضاء”، على سبيل المثال، في عام 1947 بدقة بالسنة التي سيُطلق فيها أول صاروخ إلى القمر في عام 1959. وتزخر صفحات رواياته وقصصه القصيرة بالعديد من الأجهزة الإلكترونية والتكنولوجية والأفكار الخلاقة، مثل “السيارات التي تدار آليا”، التي نطلق عليها الآن ذاتية القيادة.
وُلد كلارك عام 1917، لأب مزارع في مقاطعة سومرسيت بإنجلترا، وكانت حينئذ أجهزة السونار وأحجيات الكلمات المتقاطعة وحمالات الصدر بدعا حديثة معقدة. وأمضى جل وقته في مرحلة الصبا في قراءة مجلات الخيال العلمي وجمع الحفريات- التي افتتن بها من اللحظة التي أهداه فيها والده بطاقة تحمل صورة ديناصور- ومراقبة النجوم، وقد صنع أول منظار من اسطوانات من الورق المقوى. وكان لديه جهاز راديو بلوري، وعلمته أمه، التي كانت تدير مكتب بريد، كيفية إرسال رسائل باستخدام شفرة مورس.
ومات والده عندما بلغ كلارك 13 عاما. وبعد بضع سنوات عندما أنهى دراسته الثانوية، لم يكن لدى أمه المال الكافي لإرساله إلى الجامعة. وعمل في المقابل موظفا حكوميا عام 1936. وانضم إلى جمعية الكواكب البريطانية، وهي مجموعة من الشغوفين بفكرة السفر بين الكواكب قبل أن تصبح البعثات الفضائية واقعا ملموسا. وكان يساهم في الجمعية بكتابة مقالات وقصص قصيرة في مطبوعات الجمعية.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تطوع كلارك في سلاح الجو الملكي، وأصبح خبيرا في تكنولوجيا الرادار. وفي عام 1945، كتب مقالا في مجلة “وايرليس ويرلد”، كشف فيه عن احتمالات العثور على مدار يبعد 23 ألف ميل عن الأرض، لتستقر فيه الأقمار الصناعية وترسل منه إشارات لاسكلية إلى الأرض. وتدور الآن الأقمار الصناعي حول ما يسمى بـ “مدار كلارك”.
وبعد الحرب، حصل كلارك على زمالة بجامعة كينغز كوليدج لدراسة الرياضيات والفيزياء. ومع حلول الخمسينيات من القرن الماضي بدأ كلارك في نشر الروايات الخيالية وغير الخيالية، وحصد الجوائز. وذاع صيته كروائي وباحث علمي لأكثر من نصف قرن، وأمضى سنواته الأخيرة في سريلانكا منعما، يقوم على خدمته فريق من المساعدين والخادمين. ثم اتهم بالتحرش الجنسي بالأطفال، لكن برئت ساحته من الاتهامات لاحقا.
المستقبل مذهل
ولا تزال رؤية كلارك للمستقبل تداعب خيال القارئ حتى الآن، إذ يبدو أن بعض تنبؤاته عصية على التحقيق، مثل “المصعد الفضائي” الذي تصوره في رواية “ينابيع الجنة” التي استلهمها من الحياة في سريلانكا عام 1979، وهو نظام نقل بين الكواكب في الفضاء، يغنينا عن الصواريخ والمركبات الفضائية.
وقد تأخر الاستيطان البشري للمريخ أو كوكب الزهرة الذي تنبأ به كلارك، رغم أنه كان من المتوقع أن نصل إلى كلاهما بحلول عام 1980.
وبحكم اهتمام كلارك على الكتابة لفترات طويلة ثم ملازمته للمقعد المتحرك بعد إصابته بمتلازمة ما بعد شلل الأطفال، شغل السفر الحيز الأكبر من تفكيره. وكان يحلم بالانتقال الآني، قبل سنوات طويلة من ظهور المسلسل الأمريكي “ستار تريك”، الذي استهلمت أحداثه من روايات كلارك. وتنبأ في الثمانينيات من القرن الماضي، بمشروع “هوتول” البريطاني (للإنطلاق والهبوط الأفقي) الذي باء بالفشل، وكان يهدف المشروع إلى تصنيع طائرة فضائية تنتقل من إنجلترا إلى أستراليا في غضون 48 دقيقة. وتنبأ بالهبوط الناجح لبعثات أبولو على سطح القمر.
وتخيل كلارك آلات تنقل حمولات ضخمة على وسائد هوائية، بعدها اشترى طوافة برمائية من نوع “هوفركرافت”. وقال في حوار مع صحيفة دايلي تليغراف: “كنت أعتقد أن الهوفركرافت أضخم من ذلك. لقد أخطأت عندما اشتريت واحدة”.
أما عن سر دقة تنبؤاته، فقد قال كلارك في حلقة برنامج هورايزون: “إن التنبؤ بالمستقبل مهمة مثبطة وخطيرة”. فإذا بدت التنبؤات معقولة إلى حد ما، قد تسبقها التطورات التكنولوجية المتلاحقة لتبدو “متحفظة بشكل سخيف”، لكن إذا وصف الكاتب المستقبل بدقة كما لو كان يراه، فإن تنبؤاته ستبدو غير معقولة ويعجز العقل عن تصديقها، إلى حد أنها ستصبح مثار تندر وسخرية”.
وقد جاءت “استنباطات” كلارك، التي لا تزال عصية على التصديق، مفعمة بالتفاصيل. فعندما تنبأ بالسفر بين النجوم خارج نظامنا الشمسي، اهتم بوصف تكاليف الوجبات وسبل الترفيه على متن المركبة. وقد يرجع ذلك إلى أن كلارك كان ينهمك في الأنشطة التي يحبها وينشغل بها حتى يعجز عن رؤية ما عداها.
وفي بداية مشواره المهني، كان يسكن في شقة في لندن وكان يشاركه السكن كتّاب خيال علمي، وكانوا يحسدونه على مهارته في تجاهل المشتتات. وعندما لمع نجمه، كان يوزع على الصحفيين الذي يأتون لإجراء حوارات معه مئات الأوراق البحثية.
وكان كلارك يهوى الغوص، وزاد ولعه به حتى انتهى به المطاف في سريلانكا، حيث استكشف الآثار القديمة تحت الماء، ونظم حملات لحماية الشعب المرجانية، ودشن مدرسة لتعليم الغوص.
وعشق كلارك كتب الخيال العلمي منذ الصغر، وكان ينغمس في قراءتها، إذ ذكر في مقال نشر في صورة كتاب عام 1962 بعنوان: “لمحات من المستقبل”: “من الصعب أن يتخيل حقائق المستقبل من لم يعش في عالم الأوهام والخيال في الماضي”.
ولا شك أن السر الحقيقي وراء قدرة كلارك العجيبة على استشراف المستقبل هو خياله الجامح. وبالرغم من أن تنبؤاته المثيرة وردت في مقالاته العلمية، إلا أن كتابة قصص الخيال العلمي أسهمت في شحذ قدراته على التنبؤ بدقة بما سيحدث مستقبلا، إذ كان يترك لخياله العنان ليتخطى حدود المعقول.
وذكر كلارك ذات مرة أن واحدا في المئة فقط من قرّاء الخيال العلمي قد يصبحون عرافين، في حين أن 100 في المئة من العرافين هم قراء أو كتّاب خيال علمي. وقال في عام 1962: “إن الحقيقة الوحيدة المؤكدة عن المستقبل هي أنه مذهل”، وقد استخدم كلمة مذهل للدلالة على روعته واستحالة توقعه.
ومن يدري؟ ربما لو استدعينا مخيلة كلارك الخصبة، لأصبحت حياتنا اليومية أقرب شبها بالمستقبل الذي رسمه كلارك في رواياته.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture
[ad_2]
Source link