كيف يمكن أن يؤدي إفراطك في العمل إلى موتك؟
[ad_1]
- كريستين رو
- بي بي سي
دقت دراسة جديدة أجراس الإنذار فيما يتعلق بالتبعات المحتملة للعمل ساعات أطول من المعتاد، إذ أظهرت أن من يعملون أكثر من 54 ساعة في الأسبوع، يتزايد خطر تعرضهم للوفاة جراء الإفراط في العمل، في ظل بيانات تفيد بأن ذلك يودي سنويا، بحياة نحو 750 ألف شخص.
لم تعبأ ليزا تشوي، المحللة في مجال المال والأعمال، في البداية بأعراض مرضية شعرت بها، وكان ينبغي أن تُنذرها بأنها تعاني من مشكلة صحية ما.
فتشوي، البالغة من العمر 53 عاما، سيدة نشيطة للغاية، تتمتع بلياقة بدنية جيدة، وتتبع نظاما غذائيا نباتيا، وتتجنب الأطعمة الغنية بالدهون، كما تستقل الدراجة بانتظام، ما جعلها – للوهلة الأولى – بعيدة كل البعد، عن سمات وصفات “الضحايا النموذجيين للأزمات القلبية”.
لكن تشوي، التي تتخذ من مدينة سياتل الأمريكية مقرا لعملها، كانت تعمل لنحو 60 ساعة أسبوعيا، بما في ذلك خلال فترات المساء والعطلة الأسبوعية. فضلا عن ذلك، كانت هذه السيدة تدير مشروعات معقدة ذات طابع رقمي، وتلتزم بإتمام إنجاز الكثير من المهام في إطار زمني محدود. وبالنسبة لها، كان هذا العبء معتادا بكل معنى الكلمة، إذ كانت تقول دائما: “عملي حافل بالضغوط، وعادة ما انخرط فيه، على نحو يشعرني بالإرهاق”.
غير أن تشوي بدأت أخذ الأعراض المرضية التي تواجهها على محمل الجد قبل شهور قليلة، عندما شرعت فجأة، في الشعور وكأن سندانا ما يضغط على صدرها. وتبين لاحقا في المستشفى، أنها تعاني من تمزق في أحد شرايينها، وهي علامة مُميزة للإصابة بما يُعرف بـ “التسلخ التلقائي للشريان التاجي”، وهي حالة مرضية في القلب نادرة الحدوث نسبيا، تصيب النساء والشبان تحت سن الخمسين، بشكل خاص.
وعندما قيل لتشوي إنها ستحتاج إلى تدخل جراحي لعلاج شريانها، كان أول ما جال بخاطرها – للمفارقة – أنه لا يوجد لديها وقت كافٍ لذلك، فـ “أنا أعكف على وضع جدول يخص عملية نقل العاملين من مكان لآخر، وأتولى القيام بكل الأمور المتعلقة بذلك بنفسي”.
ولا يشكل ما مرت به هذه السيدة حالة فريدة من نوعها؛ فهناك الكثيرون ممن يجدون أنفسهم في حالة صحية متداعية بسبب العمل المكثف. وقد أُجريت مؤخرا دراسة جديدة، يُقال إنها الأولى من نوعها على الإطلاق، على صعيد محاولة تحديد الأمراض التي يتحمل العالم أعباء مواجهتها جراء العمل لساعات طويلة. وأظهرت هذه الدراسة مدى قتامة الصورة على هذا الصعيد.
وفي ورقة بحثية نُشِرَت في 17 مايو/أيار، قال باحثون من مؤسسات تشمل منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، إن 750 ألف شخص تقريبا يفارقون الحياة سنويا، بسبب الجلطات وأمراض القلب الإقفارية الناجمة عن العمل لساعات طويلة. ويشمل هذا النوع من أمراض القلب، الذي يُعرف كذلك بـ “أمراض القلب التاجية”، المعاناة من ضيق الشرايين.
ورغم أن “التسلخ التلقائي للشريان التاجي”، لا يندرج على قائمة أمراض القلب الإقفارية التقليدية، فإنه يتشابه مع هذه الأمراض، في أن التوتر وارتفاع ضغط الدم، يشكلان أحد أبرز العوامل المُسببة لها جميعا.
وتشير هذه الأرقام إلى أن عدد الوفيات جراء الإفراط في العمل، يزيد عن نظيره الناجم عن الإصابة بمرض مثل الملاريا، ما يعني أننا إزاء أزمة صحية عالمية، تتطلب إبداء اهتمام من جانب الأفراد والمؤسسات والشركات والحكومات، على حد سواء. ومن شأن عدم التوصل إلى حل لهذه المشكلة، استمرارها، بل وتفاقمها على الأرجح كذلك.
كيف يؤثر الإفراط في العمل على صحة الإنسان؟
ونُشِرَت الورقة البحثية في دورية “إنفيرومينتال إنترناشيونال”. وتضمنت مراجعة منهجية للبيانات الخاصة بعوامل مختلفة، من بينها تلك المرتبطة بالأشخاص الذين يعملون لساعات طويلة. وقد عُرِّف العمل على هذه الشاكلة، بأنه ذاك الذي يستمر 55 ساعة أسبوعيا أو أكثر.
كما تشمل تلك العوامل أيضا؛ التأثيرات الصحية لذلك، ومعدلات الوفاة التي سُجِلَت في غالبية دول العالم، في الفترة ما بين عاميْ 2000 و2016. وحرص معدو الدراسة، على تثبيت عوامل مثل النوع الاجتماعي والوضع الاجتماعي الاقتصادي، بهدف تحديد تأثيرات الإفراط في العمل على الصحة، بأقصى قدر ممكن من الدقة.
وقد خَلُصَت الدراسة إلى أن الإفراط في العمل، يمثل أكثر عامل يمكن أن يتسبب منفردا، في الإصابة بالأمراض المرتبطة بممارسة المهن المختلفة، إذ يُربط بينه وبين ثلث هذه الأمراض تقريبا.
ويقول فرانك بيغا، المعد الرئيسي للدراسة والمسؤول في منظمة الصحة العالمية: “بوصفي عالما في الأوبئة، شعرت بدهشة شديدة بشكل شخصي، عندما حللنا هذه الأرقام. فقد فوجئت للغاية بحجم العبء” الذي يتسبب فيه الإفراط في العمل. ورغم أن بيغا يصف الاستخلاصات التي أسفرت عنها الدراسة، بأنها “متوسطة” الأهمية، فإنه يشير إلى أنها “ذات مغزى من الناحية السريرية” بالنسبة للأطباء.
على أي حال، يمكن أن يؤثر الإفراط في العمل سلبا على الصحة والمتوسط المتوقع لطول العمر، بطريقتين رئيسيتين؛ أولاهما ترتبط بالمشكلات البيولوجية التي تنجم عن الإجهاد المزمن، وتنتج عن ارتفاع مستوى الهرمونات ذات الصلة بالشعور بالتوتر، وهو ما يفضي إلى ارتفاع ضغط الدم ونسبة الكوليسترول.
أما الطريقة الثانية، فتتمثل في التغيرات التي تطرأ على السلوك بسبب العمل لساعات أطول من اللازم. فمن ينخرطون في ذلك، ربما ينامون لساعات أقل، وقلما يمارسون الرياضة، ويتناولون أطعمة غير صحية، ويعكفون على التدخين واحتساء الكحوليات، للتكيف مع ظروف عملهم وحياتهم.
إلى جانب ذلك، ثمة أسباب أخرى تحدو بنا للشعور بالقلق، إزاء مسألة الإفراط في العمل، سواء خلال تواصل أزمة تفشي وباء كورونا، أو ونحن نتطلع إلى شكل الحياة في الفترة التالية لانتهاء هذه الأزمة. فقد زاد الوباء من حدة بعض الضغوط الناجمة عن العمل، وأدى لظهور أشكال جديدة للإرهاق القائم في بيئته كذلك.
وبوسعنا النظر إلى الهند كنموذج لذلك. فرغم أن هذا البلد أصبح الآن بؤرة تفشي فيروس كورونا على مستوى العالم، مع تسجيل أكثر من 25 مليون حالة إصابة بالفيروس في أراضيه، فإن الوباء يؤثر على صحة الهنود بطرق أخرى كذلك.
فحسبما يقول الطبيب سيفيث راو، مؤسس الرابطة الهندية للقلب، يواجه أبناء جنوب آسيا من الأصل خطرا أكبر من سواهم، فيما يتعلق بإمكانية الإصابة بأمراض القلب. والآن “ومع تفشي وباء كورونا، نرى زيادة في عدد من يعملون من المنزل، ما يجعل تحقيق التوازن بين الحياة المهنية ونظيرتها الشخصية أمرا غير واضح لدى الكثيرين، بما يقود إلى إرباك نمط النوم وممارسة الرياضة، وهو ما يفاقم بالتبعية خطر التعرض للجلطات وأمراض القلب والأوعية الدموية”.
علاوة على ذلك، أدى الوباء إلى انكماش اقتصادي، هو الأكبر منذ أن شهد العالم قبل عقود أزمة الكساد الكبير. وتشير الوقائع التاريخية، إلى أن فترات الركود السابقة كان يعقبها زيادة عدد ساعات العمل. ويقول بيغا إنه في ظل فقدان الوظائف بشكل واسع النطاق خلال الوباء “يبدو أنه بات يتعين على من لا يزالون يحتفظون بوظائفهم، أن يعملوا لفترات أطول، لتعويض ما فُقِدَ من الوظائف”.
أماكن تزيد فيها معدلات الإفراط في العمل
ووفقا للبيانات الواردة في الورقة البحثية، ينخرط تسعة في المئة من سكان العالم، بمن فيهم أطفال، في العمل لساعات طويلة، وأن عدد من يعملون على نحو مفرط في ازدياد، منذ عام 2000. وأشارت الدراسة إلى أن تأثيرات هذا الإفراط في العمل تتباين بشدة، باختلاف شرائح المجتمع.
فالورقة البحثية كشفت عن أن الرجال يعملون لفترات أطول من النساء، في كل الفئات العمرية التي شملتها الدراسة. وأشارت إلى أنه رغم أن إفراط المرء في العمل، يصل إلى ذروته في مستهل مرحلة منتصف العمر بالنسبة له، فإن التأثيرات الصحية لذلك، تستغرق وقتا أطول لكي تظهر عليه.
ومن هذا المنطلق، اعتبر معدو الدراسة، أنه يجب عليهم أن يضعوا في الحسبان، وجود فارق زمني يصل إلى عشر سنوات، بين المرحلة التي يفرط فيها المرء في العمل والفترة التي يظهر فيها عليه أي مرض محتمل جراء ذلك. فبرغم كل شيء؛ لا يشكل “الموت بسبب الإفراط في العمل” أمرا “يحدث بين عشية وضحاها”.
كما كشفت البيانات التي تضمنتها الدراسة النقاب عن أن أبناء جنوب شرق آسيا، يتربعون على رأس قائمة من يعملون لساعات أطول مقارنة بنظرائهم في العالم، وهي القائمة التي يتذيلها الأوروبيون.
ويقول بيغا إنه قد تكون هناك أسباب ثقافية، تقف وراء انخراط أعداد كبيرة من الآسيويين في العمل المضني على هذه الشاكلة. فالكثير من أبناء الدول الآسيوية، ينخرطون في أعمال تعود عليهم بدخل منخفض أو متوسط، وتندرج في إطار ما يُعرف بقطاعات الاقتصاد غير الرسمي. ويشير بيغا إلى أن من يقومون بذلك “ربما يتوجب عليهم العمل لساعات أطول لمواصلة البقاء في وظائفهم. ربما يعمل هؤلاء في أكثر من وظيفة في وقت واحد، وقد لا يكونون من بين من تشملهم قوانين الحماية الاجتماعية”.
على الجانب الآخر، ينعم كثير من الأوروبيين، بثقافة عمل تحتفي بالعطلات الطويلة، وفترات الراحة الكبيرة كذلك. اللافت أن هذا التوجه الذي يتسم بقدر أكبر من الاسترخاء، وجد طريقه إلى قوانين العمل في القارة. فالتوجيه الذي يتبعه الاتحاد الأوروبي، بشأن ساعات العمل المطبقة في الدول الأعضاء فيه، يحظر على العاملين أن يعملوا لما يزيد على 48 ساعة في المتوسط أسبوعيا.
لكن بعض الدول الأوروبية، خاصة تلك الواقعة خارج منطقة إسكندنافيا وفرنسا أيضا، تشهد منذ عام 1990 زيادة في عدد العمال المهرة، الذين يعملون لساعات طويلة للغاية.
ولعل من الأمور الدالة في هذا الصدد، تقديم وزير الصحة النمساوي استقالته من منصبه في إبريل/نيسان الماضي، قائلا إنه أصيب بارتفاع ضغط الدم، وارتفاع نسبة السكر في الدم، بالتزامن مع اضطراره للعمل بشكل مضنٍ خلال أزمة الوباء. وقد بدا إفصاحه علنا عن ذلك، أمرا غير معتاد، ليس فقط بسبب منصبه الرفيع، وإنما كذلك لأنه استطاع في نهاية المطاف بالفعل، أن يتخذ خطوة ترك هذا العمل المرهق.
وإذا عدنا إلى مدينة سياتل حيث مقر عمل تشوي، سنجد أن هذه السيدة كانت محظوظة، لأن زملاءها اتخذوا موقفا داعما لها، وتفهموا مدى حاجتها لإبطاء إيقاعها في العمل. لكن ذلك لا ينفي أن ثمة حاجة للإسراع بالتعامل مع مثل هذا الخطر الذي يواجه الصحة، في ضوء أنه ربما لن يتسنى للجميع إحداث توازن بين ساعات العمل وفترات الراحة، ولن يحظى الكل بجرس إنذار يُنذرهم بأنهم عرضة لجلطة أو أزمة قلبية مميتة، كذاك الذي قرع في آذان هذه السيدة قبل شهور.
مواجهة الإرهاق في العمل
وبوسعنا الإشارة هنا إلى أن استمرار التوجهات السائدة حاليا على هذا المضمار، لن يؤدي إلا إلى تفاقم مشكلات الإرهاق الناجم عن الإفراط في العمل، وما يترتب على ذلك من أضرار صحية، وهو أمر يثير القلق على نحو خاص، بالنظر إلى العدد الكبير من المجتمعات، التي تُمَجّد قيمة العمل المفرط، إلى حد وصول المرء إلى ما يُعرف بـ “الاحتراق الوظيفي”.
كما أن زيادة ساعات العمل بالقدر الذي يحدث حاليا خلال فترة الوباء، ومحدودية المؤشرات التي تفيد بقرب انتهاء هذا الوضع، يشيران إلى أن عدد من يعانون من قضاء وقت أطول في العمل، سيزداد لا محالة.
ويتحمل أرباب العمل والعاملون – سواء بسواء – المسؤولية عن وضع حد بشكل أو بآخر، لهذه الدائرة المهلكة. وربما تعين على الطرفين العمل يدا بيد، لكبح جماح ظاهرة العمل المفرط هذه، وما يترتب عليها من مشكلات.
وبوجه عام، يحث بيغا المسؤولين عن الشركات والمؤسسات المختلفة على تبني الأفكار الخاصة بتطبيق نظام ساعات العمل المرنة، وتقاسم الوظائف، وغير ذلك من الأساليب، التي يتم من خلالها تحسين التوازن بين الحياة المهنية والشخصية. كما ينبغي أن يتم التعامل مع الخدمات الصحية التي تُقدم للعاملين في أماكن عملهم، على محمل الجد.
ويُعقّب الطبيب سيفيث راو على ذلك قائلا: “نؤمن في الرابطة الهندية للقلب، بأن زيادة مقدار التعليم الذي يُحصلِّه المرء، وإجراء فحوص أكبر، يشكلان أمرا أساسيا للوقاية من الإصابة بالجلطات وأمراض القلب والأوعية الدموية”.
فضلا عن ذلك، ثمة دور يتعين على الأفراد الاضطلاع به، لإعادة صياغة توجهاتهم نحو العمل، فبوسعنا جميعا أن نحاول مقاومة أن يجبر الإفراط في العمل الكثيرين منّا، على البقاء ملتصقين بهواتفهم حتى ساعات متأخرة من مساء كل يوم.
وكلما أسرع العاملون في التحرك على هذا الصعيد، أصبحوا في وضع أفضل، نظرا لأن الخطر المترتب على الإفراط في العمل، يتراكم بمرور السنوات، وهو ما يعني أن الحيلولة دون أن يصبح مزمنا، ربما يقلل من حدة المشكلات الصحية الأكثر خطورة، التي قد تترتب عليه، وذلك على الرغم من أنه لا توجد حتى الآن، أدلة علمية كافية، تكشف عن المرحلة، التي تتحول فيها هذه المشكلة من خطر قصير الأجل، إلى خطر مزمن.
ولا ينفي كل ذلك، وجود حاجة لإحداث التغييرات الأوسع نطاقا في هذا المجال على المستوى الحكومي. ويقول بيغا في هذا الشأن: “لدينا حلول بالفعل. فقد تم وضع قيود تحدد أقصى عدد من ساعات العمل مسموح بها”، كما يحدث – مثلا – بموجب التوجيه الخاص بساعات العمل، الساري في الاتحاد الأوروبي، وقوانين أخرى مماثلة مطبقة في مناطق شتى من العالم.
وفي الدول التي سُنت فيها قوانين صارمة لمواجهة ظاهرة العمل بشكل مفرط، يتمثل العنصر الحاسم فيما يتعلق بضمان تحقيق ذلك الهدف، في تطبيق بنود هذه القوانين، ومراقبة ذلك أيضا.
أما في الدول التي لا تتسم فيها شبكات الأمان والحماية الاجتماعية بالقوة نفسها، فمن الممكن أن يفضي تفعيل التدابير الخاصة بمكافحة الفقر وتطبيق برامج الرعاية الاجتماعية، إلى تقليل عدد من يكدحون ويعملون لأقصى عدد ممكن من الساعات، بدافع الاحتياج والضرورة.
في نهاية المطاف، من شأن الإحجام عن إحداث أي تغيير على صعيد حياتنا المهنية، استمرار مشكلة الإفراط في العمل، وما يترتب عليها من متاعب صحية. لكن علينا جميعا إدراك أن التغيير ليس بالأمر المستحيل. فكما يقول بيغا: “بوسعنا القيام بشيء ما، وهو أمر بمقدور الجميع”.
[ad_2]
Source link