هل الإفراط في العمل شرط ضروري لتحقيق النجاح؟
[ad_1]
- بريان لوفكين
- بي بي سي
في أحد مشاهد فيلم “وول ستريت”، الذي أُنتج عام 1987، قالت شخصية غوردون جيكو إن “الطمع شيء جيد”، بيد أن الفيلم يهدف في النهاية إلى توجيه تحذير، إذ يصور المديرين التنفيذيين فئة لديها الولع بالثروة والعمل، ويقضون ساعات طويلة في ناطحات سحاب أنيقة لإبرام صفقات وزيادة حجم مخصصاتهم ورواتبهم، على حساب كل من يعترض سبيلهم.
إذا كنت تعيش وتتنفس العمل، فسوف تنطوي رسالة الفيلم على ما يتحقق من مكاسب مثيرة وهائلة.
وعلى الرغم من أن الكثيرين منا يربطون الإدمان الطموح للعمل بفترة ثمانينيات القرن الماضي وقطاع المال، يظل ميلنا إلى تكريس أنفسنا للعمل وإضفاء نوع من الإعجاب والتقدير على ثقافة العمل لساعات طويلة سائدا، وهو فكر يتوسع ويتمدد ليشمل مزيدا من القطاعات والمهن، في أشكال وقوالب مختلفة.
وتظهر دراسات جديدة أن الموظفين في جميع أنحاء العالم يعملون في المتوسط 9.2 ساعة من العمل الإضافي غير مدفوع الأجر في الأسبوع، من متوسط 7.3 ساعة قبل عام واحد فقط.
وتمتلئ المكاتب وأماكن العمل المشترك بملصقات تحثنا على أن نعمل أكثر، كما يدعو رواد أعمال شركات التكنولوجيا من أصحاب المليارات الناس إلى التضحية بالنوم حتى يتمكنوا من “تغيير العالم”.
ومنذ انتشار وباء كورونا، أصبحت أسابيع عملنا أطول؛ ونقوم بإرسال رسائل بريد إلكتروني ورسائل عمل عبر تطبيق (سلاك)، الذي تستخدمه بعض الشركات للتواصل الداخلي بين موظفيها، في منتصف الليل حيث تتلاشى الحدود الفاصلة بين حياتنا الشخصية والمهنية.
من ناحية جوهرية، لسنا بعيدين عن عصر جيكو كما نعتقد، وعلى الرغم من ذلك، يوجد شيء واحد مختلف: فنحن نعرف أكثر بكثير عن عواقب الإفراط في العمل، وأن الإرهاق قد يؤثر على صحتنا النفسية والبدنية، ومع ذلك، بالنظر إلى مدى رسوخ إعجابنا بثقافة العمل الذي يتسم بالتوتر، فإن عزوفنا عن هوس الإفراط بالعمل سيتطلب تغييرا ثقافيا، فهل يمكن أن يكون عالم ما بعد الوباء فرصتنا للمحاولة؟
أين يحدث ذلك ولماذا؟
إن الإفراط في العمل ليس ظاهرة حصرية لوادي السيليكون أو وول ستريت، فالناس يعملون لساعات طويلة في جميع أنحاء العالم، لأسباب مختلفة كثيرة.
في اليابان، يمكن إرجاع ثقافة الإفراط في العمل إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما اجتهدت الحكومة من أجل إعادة بناء البلاد بسرعة بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي الدول التي تجمعها عضوية جامعة الدول العربية، يرتفع مستوى الإرهاق بين العاملين في المهن الطبية، ربما لأن هذه الدول دول نامية ولديها أنظمة رعاية صحية مثقلة بالأعباء، كما تشير الدراسات.
وتعتمد أسباب الإفراط في العمل أيضا على طبيعة المجال الذي يعمل فيه الشخص، فقد أكد بعض أوائل الباحثين في ظاهرة الإرهاق في سبعينيات القرن الماضي أن العديد من الأشخاص في الوظائف الموجهة نحو مساعدة الآخرين، مثل الموظفين في العيادات أو مراكز التدخل وقت الأزمات، يميلون إلى العمل لساعات طويلة مما أدى إلى الإرهاق النفسي والجسدي، وهو الاتجاه الذي ظهر مع انتشار الوباء أيضا.
بيد أن الملايين منا يجهدون أنفسهم في العمل لأننا نعتقد بطريقة ما أن ذلك الأمر مثير، وأنه مؤشر على علو المكانة ويضعنا على طريق النجاح، سواء قمنا بحيازة هذه المكانة عن طريق الثروة أو عن طريق منشور على موقع إنستغرام يجعل الأمر يبدو وكأننا نعيش حياة أحلام مع وظيفة يحلم بها كثيرون.
ويبدو أن إضفاء طابع الرومانسية على العمل ممارسة شائعة بشكل خاص بين “العاملين في مجال المعرفة” في الطبقات المتوسطة والعليا. ففي عام 2014، وصفت صحيفة “نيويوركر” هذا التفاني في الإفراط في العمل بأنه “عبادة”.
وتقول أنات ليشنر، الأستاذة المشاركة في الإدارة في جامعة نيويورك: “نحن نمجد نمط الحياة، ونمط الحياة هو أن تتنفس شيئا ما، وتنام تحلم بشيء ما، وتستيقظ وتعمل عليه طوال اليوم، ثم تذهب إلى النوم وهكذا مرارا وتكرارا”.
منشأ الظاهرة
من أين جاء ميلنا إلى إضفاء جاذبية وفخر على الإفراط في العمل؟ لماذا، في الدول الغربية الغنية، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، يسود شعور بأن الإرهاق في العمل والظهور بمظهر غير مرتب هو شيء يدعو إلى التفاخر؟
يمكن إرجاع جذور هذه الظاهرة إلى “أخلاقيات العمل البروتستانتية” في القرن السادس عشر، وهي نظرة عالمية حملها البروتستانت البيض في أوروبا جعلت العمل الشاق والسعي إلى الربح يبدو أمرا حميدا.
وتقول سالي مايتليس، أستاذة السلوك التنظيمي والقيادة في جامعة أكسفورد: “عزز الدافع إلى الكفاءة، الذي نشأ نتيجة الثورة الصناعية، وكذلك الطريقة التي نقيّم بها الإنتاجية، قيمة العمل الشاق المستمر، وغالبا على حساب رفاهية الشخص”.
وبالانتقال سريعا إلى الأمام، أي إلى عصر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، مارغريت ثاتشر، والرئيس الأمريكي السابق، رونالد ريغان، الذي اتسم بالترف، أصبح قضاء ساعات طويلة في المكتب لدعم نمط الحياة الاستهلاكية المتفشية والمتغيرة في ذلك العقد أكثر شيوعا.
وبعد ذلك، في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين، بدأ التعرف على مدمني العمل ليس من خلال ما يلبسونه من بدلات وأطقم ولكن من السترات ذات أغطية الرأس، حيث تطورت الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا وأصبحت شركات عملاقة مثل غوغل وفيسبوك، وتحولت السلطة إلى وادي السيليكون.
أشاد المجتمع برواد الأعمال عندما قالوا إنهم يريدون تغيير العالم، وأخبرونا كيف ينظمون أيامهم (الطويلة جدا) لتحقيق أقصى قدر من النجاح. وتسلط مايتليس الضوء على تحول الدوافع في العالم بين غوردون جيكو ومارك زوكربيرغ؛ حيث شعر هذا الأخير أنه استمد طاقته من “الشغف بالمنتج أو الخدمة أو من العمل لهدف أسمى”. (رغم ذلك كان هذا محل سخرية منا، لأن الكثير من تلك التكنولوجيا الجديدة في نهاية المطاف عملت على تعزيز هذا النوع من الإفراط في العمل والإرهاق الذي نتعامل معه اليوم).
في هذه الأيام، يعمل العديد من الأشخاص لساعات طويلة ليتمكنوا من سداد الديون، وببساطة لكي يحافظوا على وظائفهم أو للارتقاء إلى منصب أعلى في السلم الوظيفي. (في كثير من الحالات، تتوقع الشركات من الموظفين العمل لساعات طويلة وأن يكونوا متاحين باستمرار).
لكن بالنسبة لأولئك الذين يعتنقون ثقافة الإفراط في العمل، يوجد أيضا عنصر متعلق بالأداء، سواء ظهر على شكل سيارة جديدة للتفاخر، أو العمل في “مهنة يحلم بها كثيرون”، يقوم صاحبها بشيء ذي معنى أو حتى الإرهاق الذي يمكن إظهاره كنوع غريب من النجاح أو التفوق.
تقول كريستينا ماسلاش، الأستاذة الفخرية لعلم النفس في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إنه منذ قرون مضت “كان الرجال يقومون بمبارزات، وكان على أجسادهم الندوب من أثر المبارزات، والتي هي تقريبا نوع من أوسمة الشرف، وكأن الواحد منهم يقول: لقد قاتلت وبقيت على قيد الحياة”.
وتضيف: “يشبه التفاخر بهذه الندوب على الجسد قول أحدنا هذه الأيام: “نعم أنا لا أنام” من باب التفاخر بالإفراط في العمل.
المسار السريع للإرهاق
كان الإرهاق نتيجة غير سارة لعبادة العمل هذه، وتقول ماسلاش، التي درست الإرهاق منذ سبعينيات القرن الماضي: “الإرهاق له دورات، يعاد اكتشافه، ثم يموت، ثم يعاد اكتشافه مرة أخرى”.
في ذلك الوقت، كانت تجري دراسة على الإرهاق الناتج عن العمل لدى متطوعين في عيادات إعادة التأهيل من الإدمان على المخدرات وغيرهم من العاملين في مجال الخدمات الإنسانية، وكان الكثير ممن هم على أتم استعداد للاستدعاء للعمل (تحت الطلب) طوال الليل، قد أبلغوا عن الصداع والاكتئاب والتوتر أثناء العمل.
وبعد عشر سنوات، عندما كان الاقتصاد في أوج قوته في دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ارتفع نجم الرأسمالية إلى عنان السماء ودأب الناس على العمل طويلا وبكد، ولكن على الرغم من التقدير والإشادة التي حظي بها الإفراط في العمل، لم يحظ الإرهاق الذي أعقب ذلك بمثل هذا التقدير والإشادة.
وتعرّف منظمة الصحة العالمية الإرهاق بأنه متلازمة “ناتجة عن إجهاد مزمن في مكان العمل لم يخضع للضبط بنجاح”، ويتميز بمشاعر الإرهاق والسلبية تجاه الوظيفة وانخفاض الكفاءة المهنية.
بعبارة أخرى، إنه يترك الشعور بافتقاد الصفات الإنسانية، والاستنفاد جسديا ونفسيا، ويجعلك تتساءل ما الذي جعلك تقبل بهذه الوظيفة في المقام الأول. وقد اعترفت منظمة الصحة العالمية رسميا بالإرهاق بوصفه “ظاهرة مهنية” في عام 2019.
تقول ليشنر: “كل شيء انهار هذه الأيام، لم يكن ذلك منتشرا قبل بضعة عقود كما هو شائع اليوم”. وفي حين أن الكثير من الإرهاق “ثقافة وفدت من وول ستريت”، كما تقول، إلا أنها الآن أشد سوءا، لأننا أقمنا تماثيل لرواد أعمال التكنولوجيا الذين بالكاد ينامون، وتقصد أننا نظرنا إليهم بإعجاب وتقدير. (غرد الرئيس التنفيذي لشركة تسلا وسبيس إكس إيلون ماسك في عام 2018 أنه عندما يتعلق الأمر بشركاته، “فهناك أماكن أسهل للعمل، لكن لم يغير أحد العالم بالعمل 40 ساعة في الأسبوع”).
وتضيف ليشنر: “إن التمييز القديم بين النهار والليل أو العمل حتى الساعة الخامسة ومن ثم الذهاب لتناول المشروبات والذهاب إلى النوم في العاشرة ثقافة كانت سائدة في القرن العشرين. أما القرن الحادي والعشرون فمختلف جدا”.
وتقول: “نحن نعيش ثقافة العمل طوال اليوم على مدار الأسبوع. وسائل التواصل الاجتماعي متاحة على مدار الساعة طوال الأسبوع، والاتصالات متوفرة على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع، وأمازون برايم تعمل على مدار الساعة طوال الأسبوع، وكل شيء يعمل على مدار الساعة طوال الأسبوع. ليس لدينا تلك الحدود الثابتة”.
المستقبل
على الرغم من أننا نعمل بشكل أصعب مقارنة بأي وقت مضى، ويواجه الموظفون الشباب مزيجا ضارا متوقعا من ضغوط مالية كبرى (مثل تسديد ديون الدراسة، إلى جانب انخفاض الرواتب وارتفاع أسعار المساكن)، وضغوط لتحقيق “طموحاتهم” وضغوط للعثور على وظيفة مستقرة في سوق عمل غير آمنة على نحو متزايد، قد تكون هناك بعض علامات للتغيير.
أظهر مسح أجراه 13 محللا في مؤسسة غولدمان ساكس شمل عددا من الموظفين، في مارس/آذار، أنهم يعملون في المتوسط 95 ساعة في الأسبوع وينامون خمس ساعات في الليلة.
وقال أحد المشاركين في المسح، الذي اطلعت عليه بي بي سي: “هذا يتجاوز مستوى (العمل الشاق)، هذا إساءة معاملة بطريقة غير إنسانية”.
وفي أماكن أخرى، على موقع تيك توك، كان مستخدمو التطبيق من مواليد منتصف التسعينيات أكثر انفتاحا على المعاناة النفسية، ودشنوا مجموعات دردشة تناقش علنا أمام الجميع الاكتئاب ونوبات الذعر والإرهاق.
وعلى الرغم من قسوة الوباء، إلا أنه أجبرنا أيضا على رؤية التوازن بين العمل والحياة بطريقة جديدة تماما.
ففي الشهر الماضي، أجرت “لينكد إن” دراسة مسحية شملت أكثر من 5000 مستخدم على مدى أسبوعين أظهرت نتيجتها أن 50 في المئة و45 في المئة من المشاركين قالوا إن مرونة الساعات أو مكان العمل والتوازن بين العمل والحياة على التوالي أصبحت أكثر أهمية بالنسبة لهم منذ انتشار الوباء.
وتقول مايتليس: “كان الوباء قويا ليس فقط في إبراز العديد من الأشياء الأكثر أهمية كالصحة والأسرة والعلاقات فحسب، بل أيضا في تعطيل بعض السلوكيات الروتينية والنظم التي كانت تجعل الناس يمارسون الرياضة للبقاء أصحاء”.
بدأت بعض الشركات، استجابة لذلك، الحديث عن تقديم برامج للصحة النفسية أكثر فائدة للعمال، بما في ذلك مزايا عقد جلسات العلاج النفسي المجانية أو الوصول المجاني إلى تطبيقات الإنترنت الخاصة بالصحة والرعاية. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد الخبراء أنه من غير المرجح أن ندخل حقبة جديدة ترجح كفة الرفاهية على كفة الإفراط في العمل.
فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي جعلت فيه التكنولوجيا العمل من المنزل بالنسبة لنا ممكنا إلى أجل غير مسمى، تربطنا هذه التكنولوجيا أيضا طوال اليوم.
ففي حالة إجراء مكالمة جماعية لموظفين من لندن وطوكيو ونيويورك ودبي، سيتعين على بعض الأشخاص الاستيقاظ في الساعة الثانية فجرا للمشاركة نظرا لفرق التوقيت بين هذه المدن. وإذا لم يقم هؤلاء بمثل هذه المكالمة الجماعية، فسوف تجد الشركة بديلا يفعل ذلك، لأنه طالما أننا نضفي سحرا على المال والمكانة والإنجاز، سيكون هناك دائما أشخاص يعملون بجد للحصول على هذه الأشياء.
إن هدف الشركات هو كسب المال في نهاية المطاف، وتقول ليشنر: “استأصلنا الإنسانية من مكان العمل منذ وقت طويل، لست فخورة عندما أقول ذلك”.
وبالنسبة للعديد من الشركات، مازال الأمر يتلخص في: “إذا كنت لا تعمل، فإن شخصاً آخر سوف يأتي ويقوم بالعمل. وإذا لم يساعدنا هذا، فسوف نلقي بالعمل إلى الذكاء الاصطناعي. وإذا تولى الذكاء الاصطناعي المهمة، سيكون لدينا قوة عاملة من خلال شبكة المعلومات العالمية”. عليك العمل بإفراط، وإما نمضي بدونك.
لهذا السبب لا تعتقد ليشنر أن مشكلة الإرهاق ستُحل في المستقبل القريب، وتقول: “إنها رسالة ليست بالضرورة يحب الناس الاستماع إليها. فهم يعتقدون أنهم يدخلون في علاقة مع صاحب عمل مفادها: “أنا أعمل بجد، وأنت تعتني بي”، مرة أخرى، هذه هي عقلية القرن العشرين.
نحن على مفترق طرق، إما أن نعطي أولوية لرفاهيتنا، أو نعطي أولوية لإرسال بريد إلكتروني الساعة الثالثة فجرا لأنه سوف يعجب المدير، إن سماح الشركات بعمل الموظفين من منازلهم لا يمكن إلا أن يذهب إلى هذا الحد من تخفيف العبء، وينبغي أن يعود الأمر للموظفين في العزوف عن جعل الإرهاق من الأشياء المرغوب فيها إلى حد ما، وأن تتوقف الشركات عن دفع الموظفين إلى الشعور بأنه يتعين عليهم أن ينهكوا أنفسهم في العمل.
وتقول ماسلاش: “يمكن أن تكون أماكن العمل بيئات غير صحية للغاية، وإذا كان هناك أي وقت لتغيير الطريقة التي نقوم فيها بعملنا، فقد حان الوقت للقيام بذلك”.
وتضيف: “إذا أخذت نباتا معينا ووضعته في وعاء ولم تقم بريه بالماء وتغرسه في تربة رديئة ولا تعرضه للشمس مدة كافية، فلا يهمني كيف كان هذا النبات رائعا في بداية الأمر، فهو لن ينمو”.
[ad_2]
Source link