ما السر في جاذبية “المدن المفقودة” في العالم؟
[ad_1]
- جين روز سميث
- بي بي سي
كانت شمس فترة ما بعد الظهر لا تزال تلقي بأشعتها على مئات من الوجوه المنحوتة على جدران وأبراج معبد بايون في كمبوديا، عندما كنت أسارع الخطى للتوغل بشكل أكبر في هذا الصرح الذي يعود للقرن الثاني عشر الميلادي، والمُشيّد في قلب مدينة أنغكور الأثرية مترامية الأطراف، الواقعة في شمال هذا البلد الآسيوي. وتحت أشعة الشمس، تضخمت شفتا كل وجه من هذه الوجوه، لتنفرج عن ابتسامة تبعث الرعب في القلوب.
كان ذلك خلال يومي الأول في تلك المدينة، التي لم أكن أعلم الكثير عن تاريخها في ذلك الحين. لكن تجوالي من معبد لآخر في جنباتها، جعلني أدلف إلى ما بدا حلم يقظة عامراً بالصور المتخيلة، لأرى بعينيْ خيالي المتعبدين وهم يحتشدون، حاملين قرابين زاهية الألوان، على وقع أصوات الأزاميل التي ينحت بها الفنانون روائعهم على الجدران، بينما تمضي مواكب الملوك العظام، عبر الأروقة والردهات العريضة، التي تصطف التماثيل على جانبيْها.
ذكرني ذلك بما أوردته الكاتبة الفرنسية أود دو توكفيل في كتابها الصادر عام 2014 بعنوان “أطلس المدن المفقودة: دليل سفر إلى مقاصد منبوذة ومهملة”، من أن “حقيقة أن مكانا ما لم يعد موجودا من الأصل، يمكن أن تحوله إلى مدينة مثالية، مدينة الأحلام بالنسبة لهذا الشخص أو ذاك. لذا تشكل المدينة المفقودة عالما خياليا ذا طابع شاعري، وساحة لمشاعرنا وعواطفنا وأحاديثنا المطولة”.
ففي واقع الأمر، تحظى البقاع المفقودة والمهجورة بقدرة كبيرة على إثارة الخيال، فهي تشبه “النعناع البري” بالنسبة للمسافرين الشرهين للترحال، إذ تلهمهم إحساسا بالمغامرة، يشكل وقودا لبعثات الاستكشاف الكبرى، ومادة للحكايات المطولة.
فنحن نرى حياتنا تتجسد على أحجار تلك البقاع، ونتخيل التفاصيل الدرامية لها، مُجسدة على أسطحها المتهدمة المُشبعة بالمشاعر والعواطف كذلك. ويبلغ الأمر حد أنه حتى إذا كانت هناك أجواء كارثة ما، تخيم على الكثير من المدن المفقودة، فإن وقع ذلك يتراجع بمرور الزمن.
وفي كتابها “أربع مدن مفقودة: تاريخ سري للعصر الحَضَرِي”، قالت الكاتبة أنالي نيفيتز إن الناس يروون “منذ آلاف السنين – ربما – قصصا حافلة بالمغامرات، تتناول أراض حافلة بالأحداث الدرامية، تقع خارج حدود أوطاننا، ويسردون حكايات عن الحضارات القديمة”. ومن خلال الكتاب، تتنقل نيفيتز بين القارات والقرون المختلفة، لتروي قصص أربعة مواقع أثرية قديمة، تعتبرها موضوع دروس عن الحياة في المناطق الحَضَرية، وهي أنغكور الكمبودية، ومدينة كاهوكيا، التي كان يقطنها السكان الأصليون لأمريكا وتقع على نهر الميسيسبي في الولايات المتحدة، وذلك بالإضافة إلى مدينتيْ بومبي الرومانية، وتشاتال هويوك التي تعود للعصر الحجري الحديث، وتقع في ما نعرفه الآن بتركيا.
وبينما تنسج القصص التي يتم تداولها حول المدن المفقودة، خيوط حكايات مثيرة عن الرحلات والأسفار؛ تذهب نيفيتز للقول إن هذه السرديات غالبا ما تحجب في الوقت ذاته، وقائع حقيقية تكمن خلف هذه البقاع، التي تندرج على قائمة أروع الأماكن في التاريخ الإنساني.
على أي حال، لا تشكل أنغكور استثناءً من ذلك، وهي المدينة التي كانت أطلالها تمثل – خلال زيارتي لها – ساحة لجولاتي في فترة ما بعد الظهر المشمسة. فقد كانت هذه البقعة، كما تقول أنالي نيفيتز، مأهولة بالفعل بالسكان، عندما وصل إليها المستكشف الفرنسي أونري مو في عام 1860، بل إنها لم تخل من قاطنيها أصلا بشكل كامل، في أي وقت من الأوقات. لكن المشكلة أن المستكشف الزائر، لم يستطع خلال وجوده في تلك البقعة، أن يتخيل أنه كان بوسع أسلاف سكانها تشييد مثل هذه الصروح العظيمة.
وربما ذلك ما حدا به إلى أن يشير في كتاباته عن هذه البقعة الأثرية الواقعة في قلب الغابات، إلى أن “شعورا بالإعجاب العميق يجتاح المرء للوهلة الأولى (عندما يراها)، فلا يجد بوسعه سوى التساؤل؛ عما حل بأبناء هذه السلالة القوية المتحضرة للغاية والمستنيرة بشدة” التي انتمى لها من أنجزوا هذه الأعمال العملاقة. وقد تكهن الرجل بأن تكون أنغكور قد شُيّدت على يد الإغريق أو المصريين القدماء، وهو أمر قوبل – كما تقول نيفيتز – بالحفاوة في فرنسا، واعْتبِر “اكتشافا” علميا.
وتمضي الكاتبة بالقول: “أصبحت القصص المتعلقة بالمدن المفقودة، شائعة للغاية في العصر الحديث، بدءا من القرن التاسع عشر أو الثامن عشر، وذلك لأنها شكلت وسائل مفيدة بشدة لإخفاء النزعة الاستعمارية.. فهي تسمح لك بتبرير كل أنواع الغزوات الاستعمارية، لكي تقول مثلا `هذه ليست حضارة تستطيع أن تمضي في طريقها بنفسها على نحو جيد، والدليل على ذلك أنها سقطت من ذروة ماضٍ ما ذي طابع عظيم وغامض في الوقت نفسه`”.
وفي فترة ما، شكَلَّت مسألة العثور على المدن والحضارات المفقودة، هوسا بالنسبة لبعض المستكشفين والمستعمرين الأوروبيين. ومن بين العوامل التي أذكت هذه المشاعر لديهم، السعي المحموم للتعرف على موقع جزيرة أطلانطس؛ أشهر مدينة مفقودة في التاريخ، والتي ورد ذكرها للمرة الأولى في كتابات أفلاطون. فأطلانطس التي تحدث عنها هذا الفيلسوف اليوناني القديم، نمت وازدهرت، قبل أن يُنْزَل بها عقاب إلهي نظرا لـ “انحلالها الأخلاقي”. ويقول المؤرخ المتخصص في التاريخ القديم غريغ وولف، مؤلف كتاب “حياة المدن العتيقة واندثارها: تاريخ طبيعي”، إن معاصري أفلاطون اعتبروا أن ما رواه عن “أطلانطس”، يمثل “قصة رمزية” لا أكثر.
واستطرد وولف قائلا: “كان سرد أسطورة ما لإيضاح جانب من حقيقة أكبر، أمرا يمكن تفهمه على نطاق واسع. لا أعتقد أن هناك من صدق بجدية أن أطلانطس وُجِدَت بالفعل، لكنها كانت أسطورة ملائمة”. غير أنه عندما انتشرت الترجمات الحديثة لما كتبه أفلاطون عن “أطلانطس”، وجدت هذه الكتابات جمهورا مستعدا لتصديق أي شيء.
وفي مقابلة أُجريت مؤخرا مع مدونة “إكسترا هيستوري” الصوتية التي تقدمها “بي بي سي”، قالت الأستاذة الجامعية البريطانية المتخصصة في دراسة التاريخ الإغريقي واللاتيني إديث هول، إن الناس “كانوا يطالعون هذه الكتابات في نفس التوقيت الذي كان يشهد تأسيس المستعمرات في العالم الجديد”. وأشارت إلى أن الكثيرين قرأوا القصة الرمزية الخاصة بـ “أطلانطس” بشكل حرفي، وأساءوا فهمها، واعتقدوا أنها تتحدث عن مكان حقيقي.
وكتبت نيفيتز تقول:” عندما واجه المستوطنون الأوروبيون أبناء هذه الحضارات الأصلية القديمة، عانوا الأمريْن لإيجاد ارتباطات بماضٍ غامضٍ لهم، وهو ما أدى في كثير من الأحيان لأن يتجاهل (أولئك المستوطنون) أناساً معاصرين لهم” كانوا لا يزالون موجودين بالفعل من أبناء تلك الحضارات.
وقد حدث ذلك في مدينة كاهوكيا، وهي حاضرة عتيقة يجاور الموقع الذي كانت فيه قديما، مدينة سانت لويس الأمريكية القائمة حاليا. فالتلال الترابية الشاهقة هناك، تضارع الأهرامات الموجودة في مصر من حيث الارتفاع. وفي أوج ازدهار كاهوكيا عام 1050، كانت المدينة تفوق باريس حجما، وهي كلها أمور كان من العسير على القادمين الجدد من أوروبا، استيعابها.
وفي تلك الآونة، انهمك المسافرون والمغامرون – كما تقول نيفيتز – في سرد “كل أنواع القصص الغريبة إلى حد الجنون بشأن أصل تلك المدينة، من قبيل أنه من المؤكد أن المصريين القدماء هم من جاءوا إليها وشيدوا” الصروح التي كانت موجودة فيها. وتشير الكاتبة إلى أن ذلك شكلَّ أسطورة بررت سرقة أراضي السكان الأصليين، التي وُصِفَت على نطاق واسع، بأنها “خالية من السكان”. بجانب ذلك، فكما حدث في أنغكور الكمبودية، تم افتراض أن أحفاد بناة كاهوكيا، ليسوا قادرين، على إنجاز مثل هذه المشروعات الضخمة.
وتضيف نيفيتز في كتابها أن الحكايات المتداولة بشأن المدن المفقودة في العالم، تخفي حقائق أخرى كذلك. من بينها، الوسائل التي أعاد بها القدماء الذين سكنوا مثل هذه البقاع، اكتشاف أنفسهم وبناء حياتهم، عندما اضطروا إلى ترك ديارهم. فمع أن انهيار مدينة ما وحدوث كارثة فيها، يُقدم غالبا على أنه نهاية القصة بالنسبة لها، وجدت نيفيتز أن ذلك الأمر لم يخل من بصيص أمل على صعيد فتح الباب أمام بداية جديدة، كما حدث في مدينتيْ بومبي وتشاتال هويوك، في غمار الاضطرابات الاجتماعية التي سادتهما.
ففور أن حوّلت الغازات البركانية فائقة الحرارة بومبي إلى مقبرة في عام 79، شرع سكانها المصدمون من هول ما حدث لهم، في إعادة بناء حياة جديدة لهم، في منطقتيْ نابولي وكوماي المجاورتيْن. وفي هذا الإطار، استشهدت نيفيتز بأبحاث أجراها الخبير المتخصص في دراسات الحضارتيْن اللاتينية والإغريقية ستيفن تاك، لتقول إن كثيرا من النازحين من بومبي، إلى هاتين المنطقتيْن، كانوا يحملون في الأصل، أسماء تشير إلى أنهم “عبيد محررون”.
ولاحظ تاك في هذا الصدد، نمطا مثيرا للاهتمام ساد بين أولئك النازحين، في ما يتعلق باختيارهم لأسماء أبنائهم، وذلك على نحو يختلف عما تعارف عليه الرومان في تلك الحقبة، من تكرار بعض الأسماء من جيل لآخر. ففي سياق رغبة النازحين من بومبي في التخلي عن الأسماء التي تشير إلى أنهم كانوا أرقاء في السابق، عَمدوا إلى نسبة أبنائهم إلى الأماكن الجديدة التي وصلوا إليها، كأن ينسب أحدهم ابنه إلى مدينة ساحلية غاصة بالبشر مثل بوتيولي، ليصبح اسمه بوتيالانوس.
وأشار تاك في رسالة تلقيتها منه بالبريد الإلكتروني، إلى أن الأمر يشبه أن يطلق شخص كان يقطن في مخيم للاجئين على طفله اسم “ذا لندنر” أو (اللندني) نسبة إلى العاصمة البريطانية لندن فور وصوله إليها، وهو ما يعني أن تغيير مكان الإقامة الذي يقطن فيه هؤلاء الأشخاص، أدى إلى “منحهم هذه الفرصة (للبداية الجديدة)، وقد اغتنموها بالفعل”.
فضلا عن ذلك، ترى نيفيتز أن تلك المدن الآفلة التي باتت مفقودة بعد ذلك أو ضائعة، كانت تضم أُناسا مفعمين بالقوة والحيوية، وهو ما يختلف عن الصورة النمطية، التي تعتبر أن هؤلاء لم يكونوا سوى أشخاص لا حول لهم ولا قوة أمام حوادث التاريخ. وقد رصدت الكاتبة ذلك في أطلال تشاتال هويوك، وهي مستوطنة تعود للعصر الحجري الحديث، كانت مزدهرة قبل تسعة آلاف عام، في سهل قونية بوسط تركيا.
فحسبما ورد في كتاب نيفيتز، كانت منازل تلك المدينة متراصة ومتلاصقة كما الأقراص التي تؤلف خلايا النحل. وأشارت الكاتبة كذلك إلى أن بيوت تشاتال هويوك، كانت تتصل ببعضها بعضا عبر ممرات تربط بين الأسطح، ما كان يتيح للجيران في الأمسيات الدافئة، الفرصة للتجمع على أسطح المنازل، لطهي الطعام وممارسة الحرف اليدوية معا. لكن الطابع الإبداعي الذي كان يكسو الحياة في تلك المدينة، لم يمنع من أن الإقامة هناك، كانت تزداد صعوبة يوما بعد يوم. فالمناخ كان قد صار أقل ملائمة لمواصلة العيش فيها، وتصاعدت التوترات بين سكانها.
وفي حين تبدو الكثير من القصص المرتبطة بالمدن المفقودة ضبابية ومبهمة وأسطورية، فإن نيفيتز تصور عملية نزوح السكان من بقاع مثل تشاتال هويوك، على أنها جاءت ثمرة لتفكير مدروس. فالأمر يتلخص – برأيها – في أن أولئك الأشخاص قرورا بمرور الوقت، العودة للعيش في مناطق تصطبغ بطابع ريفي على نحو أكبر، وهو أمر قد يكون مألوفا بالنسبة للقاطنين في المدن اليوم، ممن يعكفون بلهفة على البحث عن منزل يوحي لهم بالأجواء الريفية، لشرائه.
وتقول نيفيتز إن سكان تلك المدينة القديمة ربما كانوا يسعون من وراء قرارهم بمغادرتها، إلى البحث عن بقعة أفضل، أو لخوض تجربة جديدة، أو بناء منازلهم على شاكلة مختلفة، أو حتى بهدف الحياة بشكل مغاير لما ألفوه. وهكذا تواصل نزوح هؤلاء عن ديارهم، حتى باتت تشاتال هويوك خاوية على عروشها.
لكن السكان لم يغفلوا حينذاك، أن يحملوا في رِحالهم ما يهمهم أكثر من غيره؛ وهو ما أدى إلى أن تنتشر فنونهم وأفكارهم ومقومات ثقافتهم في شتى ربوع سهل قونية، بالتزامن مع مواصلتهم بناء حياة جديدة لهم، بعيدا عن تشاتال هويوك التي كانت تكتظ يوما ما بقاطنيها.
وبالرغم من أن مدناً متعددة مثل كاهوكيا وغيرها، صارت مهجورة على ما يبدو، فلا يمكن القول إنها باتت مفقودة بالنسبة لنا على الإطلاق، إذ لا تزال لدينا – كما تقول نيفيتز – كل “الذكريات الثقافية الخاصة” بها، وهو ما يؤكد استمرارية وجودها دون انقطاع.
[ad_2]
Source link