عاشوراء في زمن كورونا: الحداد على الحسين صار رقمياً
[ad_1]
على مرّ القرون، اعتاد ملايين الشيعة إحياء ذكرى كربلاء، كتفاً بكتف، ويداً بيد، حتى باتت التقاليد العاشورائية ثقافة راسخة في حياتهم.
لكن وباء كورونا جاء ليغيّر عادات لم تمسّ منذ زمن، من بينها عاشوراء، وقبلها موسم الحج السنوي إلى مكّة، وغيرهما من المناسبات. وحتى الآن، تتردّد الدول والمؤسسات الدينية الرسمية في فتح دور العبادة للمراسم الجماعية مثل صلاة الجمعة وقداديس الأحد.
في محرّم هذا العام، لا مسيرات، ولا لطميات، ولا دموع وما يتبعها من مسحٍ، بات خطيراً، للوجوه. فكلّ ذلك غير موافٍ للشروط الصحيّة، بحسب توجيهات المرجعيات الدينية الشيعية كافة.
في قريته في جنوب لبنان، يفتقد الممثل المسرحي والسينمائي محمد نسر أجواء مجالس العزاء هذا العام. يقول إنّه يواظب على ممارسة شعائر الحداد في بيته، وإنّ الحرمان من الشعائر انعكس سلباً على نفوس بعض أصدقائه.
يقول نسر إنّ الإسلام بالأساس دين جماعة، والجو الجماعي في إحياء مراسم عاشوراء مختلف كلياً عن الإحياء فردياً أو بين أفراد تفصلهم عن بعضهم البعض مسافة كافية لعدم نقل العدوى.
في المآتم والمسيرات الحسينية، يتبادل المصلّون الطاقة والزخم والمواساة. تسري بين الناس موجة من الحزن، ما يعطي ذلك الطقس قيمةً وجدانية، تسمح للمشاركين ببلوغ حالة روحانية عالية.
وإلى جانب كونه وسيلة لإظهار الولاء الديني والحضور السياسي، يعدّ إحياء شهر محرّم نوعاً من تفريغ الحزن على نطاق جماعي. وبالنسبة للشيعة كأقلية دينية عانت من الاضطهاد السياسي على فترات طويلة من التاريخ، تعدّ الشعائر العامة أشبه بفرض وجود وإعلان ثورة.
“لا نقول للحسين ابتعد”
تقول المختصة بالمسرح والتربية بتول كاج من بيروت: “مهما كانت الظروف قاسية وقاهرة، لا نقدر إلا على احياء ذكرى الحسين. لقد مرت علينا خلال التاريخ ظروف أقسى من ظروف الوباء، منها مجازر واضطهاد، بالرغم من ذلك بقي إحياء الذكرى قائماً. نحن محبّون، والمحب لا يقول لمن يحبّه ابتعد، أو لن أقدر على لقائك الآن لأن ظرفي لا يسمح. فكيف إن كان من نحبّه هو الحسين؟”.
مع التمسك بإحياء الذكرى، كان الالتزام بالشروط الصحيّة متفاوتاً، رغم اجماع المرجعيات على ضرورتها. في بيروت، تلاحظ بتول كاج التزاماً عاماً بمظاهر السواد، وبالطقوس ضمن المقتضيات الصحيّة، مع الاستعاضة عن المسيرات الجماعية بمجالس تعزية عائلية وبرفع أصوات العزاء في الشوارع عبر مكبرات الصوت.
تقول إنّ “الالتزام بالإحياء هذا العام يترافق مع تكليفات شرعية للحفاظ على الشروط الصحية من كمامات، وقفازات، ومعقمات، لأن التسبب بنقل العدوى إلى شخص قد ينتهي بوفاته، وذلك أشبه بالقتل”.
من جهته، يلفت محمد نسر إلى أنّ مجالس العزاء المنظمة هذا العام، أكثرها مبادرات فردية. فيما اكتفت الجهات الرسمية المعتادة على إحياء الذكرى في لبنان، سواء كانت دينية أم حزبية، ببث مجالس عزاء مركزية ومحاضرات عبر مواقع التواصل ووسائل الاعلام.
هناك مبادرات أخرى، بعضها كشفية، ومنها رادود حسيني يتجوّل في أحياء الضاحية الجنوبية، ويتلو الندبيات من الشارع عبر مكبر الصوت، لكي تتمكن الناس الملتزمة بالحجر الصحي من المشاركة بدون مغادرة منازلها.
كربلاء افتراضية
في كربلاء التي شهدت واقعة الطفّ في عام 61 للهجرة (680 م.)، ترتبط حياة الناس بشكل مباشر بمراسم زيارة المقامات والعتبات الحسينية التي تحتضنها.
يخبرنا علي الأشيقر، وهو أحد أبناء المدينة: “شهر محرّم السنة يختلف عن كلّ سنة. لطالما كان أهالي كربلاء ينتظرون هذا اليوم بلهفة، لإحياء مراسم الزيارة والخدمة الحسينية. البعض يلتزم بالتوجيهات الصحية، سواء من ناحية استقبال الزوار أو المواكب الحسينية، أو من ناحية الأكل والشرب المعتاد في المناسبة. في المقابل، يجد الآخرون الالتزام بها أمراً صعباً، لأن مراسم عاشوراء تقليد تربّوا عليه منذ الصغر”.
المختلف هذا العام، بحسب الأشيقر، أنّ “أحداث ثورة تشرين كان لها أثر كبير في المراسم. بعض مجالس العزاء ترفع صور شهداء الثورة واغلب كلماتهم تمجيد للثورة”.
في العراق، كان لتوصيات المرجعيات الدينية دور مهم في إقبال الناس على مشاركة العزاء والشعائر الحسينية عبر مواقع التواصل، كما يخبرنا علي الأشيقر.
يقول: “هناك شباب كثر يريدون نقل القضية الحسينية عبر مواقع التواصل الاجتماعي كي تصل لأكبر عدد ممكن من المتابعين. وبالنسبة لكبار السن الذين لا يقدرون على المشاركة بالمجالس، بحكم المرض، أو تجنباً للعدوى، كانت المشاركة الافتراضية أمراً مفيداً، إذ باتوا ينخرطون بمجالس العزاء وهم في المنزل”.
عند زيارة صفحات العتبات الحسينية في كربلاء على مواقع التواصل، سنجد مشاركة كثيفة لمنشورات إحياء الذكرى، مع صور بجودة عالية، وتسجيلات مصوّرة لندبيات ومواكب لطم.
وتماماً كما كانت تكتسي المواكب بالأسود والأحمر والأخضر، باتت الصفحات الرسمية للعتبات مكتسية بالألوان ذاتها، مع نشر صور لرايات حسينية ومصلين. كما تمنح صفحة العتبة الحسينية لزوارها إمكانية زيارة تطبيق للزيارة الافتراضية، والتنقّل في مخيّم المعزين عن بعد.
تلاحظ بتول كاج الفرق في التعبير عن الحداد عبر مواقع التواصل بين العام الحالي، والأعوام السابقة. “هناك استجابة كبيرة لطلب (الأمين العام لحزب الله) السيد حسن نصر الله بتحويل مواقع التواصل لمنابر حسينية. حتى من لا يتفاعلون بالعادة عبر صفحاتهم، ينشرون الآن خطباً عاشورائية، أو رسوماً تعبيرية. وهناك صفحات تحوّلت إلى منصات حسينية، تبثّ بثاً مباشر لبعض القراء والمجالس”.
ويخبرنا محمد نسر أنّ “بعض العلماء يبادرون إلى إنشاء مجموعات شبابية عبر التلغرام يشارك فيها الناس بنقاشات حول الثورة الحسينية وإزاحة غبار الموروثات لتبيان القيم، وذلك عبر استضافة شخصيات متنوعة مختصة بمختلف المجالات التربوية والدينية. وينظم النقاش عند الشروق، باعتباره من المواقيت الأهم في حياة الإنسان المسلم”.
كلٌّ يعبّر على طريقته
مسرحة التعبير شأن مهمّ جداً في الطقوس العاشورائية، وكان له أثر كبير على أشكال الفنون في الدول ذات التقاليد الشيعية. ففي إيران نمط مسرحي خاص يعرف بمسرح التعزية، وفي لبنان والعراق تقام سنوياً مسرحيات تسترجع واقعة الطف.
حديثاً، انتقلت هذه المسرحة إلى تطبيقات مثل تيك توك، حيث تنتشر تسجيلات قصيرة لفتيان وفتيات في سنّ المراهقة، يأدون مقطعاً من بعض اللطميات الشائعة. بعضهم يلتفّ بوشاح أخضر، تعبيراً عن الانتماء الحسيني، وبعضهم يرتدي اللون الأسود، لكنه يضفي على تسجيله ما أتيح من مؤثرات وبريق.
تتراوح التعليقات على تلك التسجيلات بين الثناء والهجوم، على اعتبار أنّه لا يتناسب مع وقار المناسبة. في حين يشارك مراهقون من أديان ومذاهب أخرى بالتحدّي، ويكتبون “لست شيعيةشيعياً، لكني أحترم كل الأديان”.
يخصص علي الأشيقر حسابه على إنستغرام لنقل الأجواء من كربلاء خلال شهر محرّم، ويحرص على تسجيل المواكب وبثّها عبر خاصية القصص. “لدي متابعون من خارج كربلاء ومن خارج العراق، يحبون رؤية أجواء محرم، ويتفاعلون مع الموضوع بكثافة”.
لكنّ رأي الأشيقر بفيديوهات تيك تيك العاشورائية سلبي. “بعض الشباب يبثون قصيدة حسينية ويقدمون أداءً لها على نمط تيك توك، وشخصياً أجد ذلك الأمر غير لائق. فتطبيق تيك توك مخصص لفيديوهات الرقص والضحك، ولا أجده متسقاً مع المناسبة. ولكن هناك من ينقل مراسم العزاء عبر التطبيق ذاته، وأجده أمراً طبيعياً”.
من جهته، يرى محمد نسر أنّ ” ما يقوم به الشباب للتعبير عبر تيك توك أو مواقع التواصل الأخرى، محاولة صادقة من أطفال أو مراهقين لا يمكن أن نظلمهم أو نتهمهم بالإساءة. وهناك أشخاص كثر يشعرون بالفقد والحزن بسبب الظروف التي فرضت تخفيف زخم المناسبة. لكن عاشوراء ليست طقوساً فحسب كما يعتقد الكثيرون بسبب الموروثات الشعبية، وربما تكون القيود هذا العام أمراً إيجابياً، للفت النظر إلى أن عاشوراء منبع للقيم الفكرية والإنسانية، وأنّ عدم الإحياء الجماعي هو إحياء من نوع آخر”.
كذلك ترى بتول كاج أنّه “يحق لأي انسان في العالم التعبير عن حبه وعن عشقه وعن ولاءه وانتماءه بطريقته الخاصة، ان كان عبر التيك توك او عبر الرقص او عبر الندب أو بأي وسيلة يختار التعبير من خلالها، ونحن الآن في عصر التطبيقات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، ولا يمكننا منع الشباب الصغار في السن من التعبير بالطريقة التي يحبونها، بغض النظر إن كانت طريقتهم صح أو غلط، لسنا في موقع تقييمهم”.
“خذوا أسرارهم من صغارهم”
يقول الفنان والخبير بالتسويق الرقمي روي ديب، إنّ “تيك توك أشبه بالمثل الشعبي خذوا أسرارهم من صغارهم، فالجيل الصغير يعرف أنّ الكبار لا ينشطون عبر هذه المنصة، لذلك يتخففون من الرقابة الذاتية”.
ويرى ديب أنّ الطقوس الدينية تقاليد ثابتة وأي تعديل فيها صعب، ويتطلب وقتاً طويلاً ليحظى بالقبول الجماعي. “ما يقوم به هؤلاء الفتيان والفتيات على تيك توك هو تحويل المراسم الجماعية، إلى لغة جسدية شخصية مختلفة، يعبرون من خلالها عن فردانيتهم”.
ويقول إنّ الناس اعتادت على تيك توك كمنصّة للتحديات والرقص والحركة والموسيقى، لذلك ارتبط بأشياء يعيطها المجتمع قيمة دنيا، ولكنه تحوّل لاحقاً إلى منصة مهمّة لنقل التظاهرات الأخيرة في الولايات المتحدة، من حراك “حياة السود مهمّة”. لذلك فإنّ استخدامه للتعبير الديني ليس مستغرباً، “لأنّه لغة يفهمها هذا الجيل، ويتقن التواصل عبرها”.
من جهتها تلفت بتول كاج إلى أنّ المراهقين ليسوا وحدهم من يستخدمون مواقع التواصل للتعبير، بل هناك أيضاً أسر تصور أطفالها وهم يلقون خطبة الامام الحسين أو إحدى اللطميات الشهيرة، وينشرونها على مواقع التواصل، أو يرسلونها للبثّ على قناة طه الخاصة بالأطفال. “نحن نتباهى بهذا الأمر، ولا نريد أن نخبأه، عملاً بقول السيدة زينب “والله لن تمحو ذكرنا”.
[ad_2]
Source link