انفجار بيروت: شهادات لبنانيين عن لحظة “الخراب الكبير”
[ad_1]
كانت الساعة السادسة إلا خمس دقائق في بيروت، مساء الرابع من أغسطس /آب، حين بدأت الناس تنتبه لسحب دخان أبيض تتصاعد من جهة المرفأ بالعاصمة اللبنانية.
تخلّف صديق غادة حداد عن موعدهما، فقررت مغادرة منطقة الجميزة المواجهة للبحر، والعودة إلى البيت في منطقة المتن. تمشّت نحو الطريق السريع الموازي للمرفأ، وركبت حافلة باتجاه منطقة الدورة، حيث تتجمّع الحافلات المتجهة من العاصمة إلى مناطق عدة.
الحركة عادية في بيروت، والناس تحاول إتمام أمورها الضرورية مساء الأربعاء وفي اليوم التالي، قبل العودة للإغلاق العام صباح الجمعة. فمع تصاعد أرقام الإصابات بفيروس كورونا من جديد خلال الأسابيع الماضية، فرضت الحكومة إغلاقاً شمل معظم المرافق. وكان من المقرّر أن يمتدّ على مرحلتين، كلّ منها خمسة أيام، يفصل بينهما وقت مستقطع ليومين، يتاح خلالهما للمواطنين انجاز أعمالهم.
حين وصلت غادة إلى الدورة، لاحظت حركة غريبة. لم تفهم لماذا كان المارة ينظرون إلى السماء. سمعتهم يصرخون: “طيارة”. فكّرت: “هل ستقصفنا إسرائيل الآن؟”
سمعت صوت انفجار خفيف، تبعه صوت انفجار آخر مدوٍّ.
“اعتقدتُ أن طيارة هوت من السماء فوقنا. ما سمعته لم يكن صوت تفجير، بل صوت شيء يجرف المنطقة بأكملها، ولم أستطع تحديد ماهيته. خفضت رأسي بين مقاعد الحافلة، لأحمي نفسي، ثمّ نزلنا جميعاً. لا أعرف كيف دخلت إلى صيدلية مجاورة، وجلست على الأرض. انتبهت أنّي أبكي، وأرتجف. رأيت رجلاً مسناً تغطي الدماء جسده، دخل مع حفيدته أو ابنته، وصاروا يسألون الناس عمّا يحدث”.
“بكيتُ طوال الليل”
تحاول غادة أن تتذكّر ما رأته حين خرجت من الصيدلية لتستقلّ الحافلة من جديد. “بدت لي المنطقة كلها كأنّها جرفت باتجاه واحد. زحمة، أناس يركضون، وآخرون يدورون في أماكنهم. كان البعض يحملون هواتفهم ويصوّرون السماء. رأيت أناساً تبكي، ورجلاً مصاباً في رجله. حين انطلقت بنا الحافلة مبتعدة، رأيت الدمار من حولي على طول الطريق السريع، والضرر الممتد في الأبنية وصولاً إلى منطقة أنطلياس” (على بعد 10 كيلومترات تقريباً من المرفأ).
في طريقها نحو البيت لم تكن غادة تعرف ماذا حصل بعد. ظنّت أنّ حرباً قد بدأت. لم تعرف أنّ انفجاراً وقع في المرفأ إلا حين اتصلت بها أمها.
وتقول غادة: “خفت لشدّة الفزع أن يغمى عليّ وأنا في الحافلة وحدي. صرت أتخيّل لو أني بقيت في الجميزة، لو أن صديقي لم يتخلف عن موعده، ماذا كان سيحلّ بي. شكرته لأنه لم يأت. لا أعرف كيف وصلت إلى البيت. لم أتجرأ على مشاهدة التلفزيون حتى ساعات الفجر الأولى. حاولت أن أنام، لكنّي كنت أسمع الصوت من جديد ما أن أغمض عيناي، وأبكي. بكيت طوال الليل”.
“نزلتُ بملابسي الداخلية”
حين كانت غادة تغادر منطقة الجميزة، كان علي الديراني في شقته الواقعة على سطح أحد أبنية منطقة مار مخايل. يقع الحيّ على ضفّة الطريق السريع الموازية تماماً للمرفأ. كانت الساعة السادسة إلا بضع دقائق، حين أحسّ أنّ هناك شيئاً غريباً في الجوّ.
“رأيت دخاناً يتصاعد من المرفأ، ووصلت على هاتفي أخبار عن اندلاع حريق في المكان. شعرت باهتزاز طفيف، يشبه خرق طائرة لجدار الصوت، كأنّ هناك قصفاً وشيكاً. عرفت أن عليّ مغادرة البيت فوراً”، يقول علي.
“حملت زوجتي بثياب نومها، نزلت الدرج بملابسي الداخلية، حافياً. ناديت بأعلى صوتي على الجيران، كي يخرجوا من البناء المؤلف من ست طوابق قبل ان يقصف وينهار فوقنا. لم أكد أصل إلى الطابق الأرضي، حتى دوّى الانفجار. ضممت زوجتي لحمايتها، لكنها نالت نصيبها من الحجارة. ملأ الزجاج المكان، رأينا الدماء على الأرض، وانقطعت الكهرباء”.
حين خرج علي إلى الشارع، كانت زوجته تتألم، كانا حافيين وشبه عاريين. بقيا في مكانهما على الرصيف لا يعرفان ما الذي حدث بالضبط. الحيّ منهار بالكامل. انتظرا أن تصل سيارة الصليب الأحمر، لكن أحداً لم يأتِ. كان عليه المشي فوق الزجاج المبعثر ليعود إلى الشقة، ويحضر الأوراق اللازمة والأموال لأخذ زوجته الجريحة إلى المستشفى.
“خزائن المصارف طارت”
يصف علي الدمار: “لم أشهد على مثيل لذلك الدمار حتى في حرب تموز عام 2006. كانت هناك أجساد مرمية على الطريق، لم نعرف إن كانوا أحياء أو أموات. السيارات مدمّرة. خزائن المصارف طارت إلى الشارع. أبواب الحديد نفرت من إطاراتها. الأبنية أشبه بهياكل من دون نوافذ ولا شرفات”.
نادى على سيارة عابرة نقلته مع زوجته إلى مستشفى الروم (الأشرفية) فوجده مدمراً.
“كان الجرحى مكدسين في الممرات. صرت أصرخ على الأطباء ليساعدوا زوجتي وتبيّن أن ضلعين من ضلوعها كسرا. لم أنتبه إلى أنّ الجروح تملأ جسمي بسبب الزجاج إلا لاحقاً، حين عدت بها إلى بيت أهلها. فكرت لو أني لم أغادر الشقّة، لو أنّي لم أشعر بالهزّة، لكنّا الآن في عداد الضحايا. في حيّنا سقط خمس قتلى على الأقل”.
تأذت منطقة مار مخايل بشدّة من انفجار المرفأ.
ويقول علي: “من يمشي في الحيّ يظنّ أنّ الثلج تساقط على الساحل، بسبب طبقة كثيفة من الزجاج المطحون والغبار. لا نعرف إن كان هناك أناس محاصرون تحت الأنقاض. جاء متطوّعون مدنيون إلى الحيّ، وصاروا يطلقون النداءات من فوق الركام على مداخل البنايات، لربما سمعهم أحد عالق تحتها”.
مشهد من نهاية العالم
حين وصل علي الديراني إلى مستشفى الروم، كان المشهد هناك أقرب إلى أفلام الكوارث الطبيعية ونهاية العالم. في الطابق الثاني، عند السادسة إلا بضع دقائق، كانت الطبيبة لور يمين، تغادر عيادة الطبيب المشرف، مع عدد من زملائها، متجهين إلى الطابق الثامن، لإنهاء جولتهم اليومية على المرضى. سمعوا باندلاع حريق على المرفأ، لكن لم يخطر لهم أن ألسنته ستصل إليهم.
يقع المستشفى الجامعي، على الخطّ الموازي تماماً للمرفأ، في أحد أحياء الأشرفية. إنه أحد أكبر المشافي في بيروت وأعرقها، وتفصله عن منطقة مار مخايل مئات الأمتار، ما جعل الأذى الذي طاله كارثياً.
تخبرنا لور: “كنا نقف في الممر بانتظار المصعد، وإذا بنا نسمع صوتاً مدوياً، ثمّ هوى السقف على رؤوسنا، انقطعت الكهرباء، وملأ الغبار المكان. لم أفهم ما حدث. نظرت حولي، فرأيت زميلي ممدداً على الأرض، صرت أصرخ. أومأ لي أنّه بخير. زميلي الآخر لا ير أمامه. أضاع نظاراته. صرنا ننظف الغبار عنا ونبحث معه عن نظاراته”.
“الدماء تسيل من عيون الأطباء”
فكرت لور بأهلها. “صارت الأفكار تتسارع في رأسي، وكان أمامي احتمالان، الموت أو الحياة، وفي الحالتين أردت أن أتصل بوالدي. فإنّ متّ أكون قد كلمته على الأقلّ. وإن بقيت على قيد الحياة، سيساعدني عبر الهاتف، ويقول لي ماذا يجب أن أفعل. اتصلت به، وسألت ما الذي حدث، وفهمت أنّ ما ضربنا للتوّ لم يكن قصفاً”.
تغالب الطبيبة دموعها وهي تحكي كيف نزلت درج المستشفى وبدأت تدرك تدريجياً حجم الدمار.
“خراب وركام في كلّ مكان. المرضى يتدافعون إلى الخارج، والدماء على الأرض. رأيت جثة لأحد عمال التنظيف بالقرب من وحدة الدخول”.
وتستطرد قائلة: “نحن نتعامل مع الموت دائماً في مهنتنا، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها جروحاً وأجساداً بتلك الحال. ضعنا. الناس حولي تبحث عن بعضها. الأهل يحملون مرضاهم للخروج. الممرضات مجروحات. الدماء تسيل من عيون الأطباء. الطابق الأرضي مدمّر بالكامل”.
اتجهت يمين إلى الخارج، لتكتشف أن قسم الطوارئ اختفى.
تخبرنا قائلة: “كانت الناس تستغيث بي، فلم أعد أعرف أساعد من أو أترك من. اقترب شاب من مجموعتنا، وكانت الدماء تنفر من رقبته، فربطناها له لكي يتوقف النزيف. صار يطلب منا نقله إلى الطوارئ ونحن نحاول افهامه أن المكان مدمّر. صرنا نداوي من نستطيع مداواته من الجرحى، ونحاول أن نوقف لهم سيارات لتقلهم إلى مستشفيات أخرى”.
من الصعب أن تحصر لور كلّ ما حدث في بعض الكلمات. “في محيط المستشفى كان المشهد فظيعاً. ناس بثياب، ناس بلا ثياب، ناس يمشون بفردة حذاء واحدة، ناس تحطّمت نظاراتهم على وجوههم، وناس غرزت قطع حديد في أنحاء أجسادهم”.
برفّة جفن واحدة
حين كان سقف الطابق الثاني من المستشفى يهوي على رؤوس الأطباء، شعرت الممرضة باميلا زينون أنّ الأرض ترتجّ تحتها في الطابق الرابع، وهو العنبر المخصّص للعناية بالرضّع المولودين قبل أوانهم. برفّة جفن واحدة، تحطّم كلّ شيء حولها، من الأجهزة الالكترونية إلى الكراسي، ونزل زجاج الشبابيك وحاضنات الأطفال على الأرض طحيناً.
تقول باميلا: “شعرت بأنّ ريحاً لفحت الطابق، وجرفت كلّ شيء في طريقها، ورمتني من مكان إلى آخر. انقلب كلّ شيء. أردت أن أتحرّك بسرعة لأصل إلى الأطفال، لكنّ معالم الطابق اختفت، ولم أعد أفهم الاتجاهات”.
كانت باميلا تحاول العثور على طريقها، حين وجدت ممرضتين من زميلاتها على الأرض، تنزفان، سارع أحد الأطباء لمساعدتهما. عرفت باميلا لاحقاً أنّهما نجتا، لكن أربع ممرضات أخريات في أقسام أخرى من المستشفى، خسرن حيواتهنّ.
“خائفة لكن عليّ التماسك”
توجهت باميلا إلى غرفة الحاضنات. “كان هناك خمسة رضّع في عنايتنا، حملت ثلاثة، وحملت زميلة لي، كانت جريحة، طفلة رابعة. وكان هناك زوجان يزوران طفلتهما، فحملتها الأم، وساعدنا الأب لإخراج الآخرين من تحت ركام الغرفة”.
حملت الممرضة الرضّع ونزلت الدرج. من حولها يتردّد صراخ أطفال مرضى، يحاول أهلهم إخراجهم من المبنى المدمّر. لم تصدّق ما رأته عيناها.
وتقول: “في التمرينات التي نخضع لها للتعامل مع الكوارث، نتفق على نقطة لقاء عند مدخل الطوارئ. وصلت إلى هناك ولم أجد قسم الطوارئ. صرت أضغط على الرضّع بين ذراعي كي لا يقعوا، وأنا خائفة لكن عليّ التماسك. صرت أطلب من الناس أن يعطوني أي قطعة ملابس كيف ألفهم بها، كي لا يبردوا”.
كان همّ باميلا الوحيد أن تصل بالأطفال إلى مستشفى آخر. حملتهم وشدّت ذراعيها حولهم، كيف لا يقعوا، فوزن الواحد منهم لا يزيد عن كيلو ونصل. مشت بهم مسافة على قدميها، ثم صارت تتنقّل من سيارة إلى أخرى، ومن مستشفى إلى آخر، حتى وصلت بهم إلى برّ الأمان.
انتشرت صورة لباميلا زينون على مواقع التواصل، وحصدت تعاطفاً كبيراً.
لم تدرك أنّها أصبحت معروفة إلا لاحقاً.
“لم أنتبه لوجود مصوّر. في تلك اللحظات تحت الدمار، أخذت وعداً على نفسي أن أنقل الأولاد من هناك. أصبحوا جزءاً مني، لم أستطع التخلّي عنهم”.
[ad_2]
Source link