“نرجس ع” فيلم عن المقاومة بالأمل والفرح في “ثورة الابتسامة” بالجزائر
[ad_1]
حرص المخرج البرازيلي الجزائري الأصل، كريم عينوز، في فيلمه الوثائقي “نرجس ع.” على أن يلتقط لحظة خاطفة وسط الحراك الشعبي المتواصل منذ أكثر من عام في الجزائر، تحاول الإمساك بنبض هذا الحراك وروحه الحية، مجسدة بحيوية الشباب الجزائري الذي يقف في مقدمته.
فقدم لنا روحا مرحة وكرنفالا من الغناء والرقص للحشود التي ملأت ساحات التظاهر، بعد أن كسرت حاجز الخوف في أول تجمع حاشد في ساحة البريد المركزي وسط العاصمة الجزائرية في 22 فبراير/شباط العام الماضي.
ولا تخفى هنا رمزية هذا المبنى الفخم الباقية منذ عهد الاستعمار الفرنسي في قلب الجزائر العاصمة والذي حرص مصممه، المعماري الفرنسي ماريوس تودوار، على استلهام نموذج العمارة الإسلامية فيه وزينه بالزخارف الأندلسية، في محاولة لعكس رغبة الإدارة الاستعمارية حينها في كسب قلوب الجزائريين الذين كانوا ينفرون من التعامل مع منشآتها، وبات اليوم يقع في ملتقى شارعين يحملان اسمي اثنين من شهداء الثورة الجزائرية.
لقد اختار الجزائريون اسم “ثورة الابتسامة” لوصف حراكهم الشعبي للإطاحة بنظام (عابس) تخشبت مفاصله يقوده رئيس مُقعد في وضع صحي حرج (الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة) كان يسعى لولاية رئاسية خامسة، وتجاوز معظم رُموزه السن القانونية للعمل، ونخر الفساد وسوء الإدارة بنيته.
وجاء فيلم عينوز (الذي بدأت عروضه العالمية بدءا من الدورة السبعين لمهرجان برلين السينمائي التي اختتمت فعالياتها مطلع هذا الشهر) ليعبر عن هذه الروح بأخذ شريحة من هذا الحراك، ليقدمه في صورة كرنفال فرح وجموع تحتفي في الشوارع أكثر منه تصويرا لحركة احتجاج شعبية وبحثا في تحليل دوافعها وأهدافها.
فهذا فيلم لم يُخطط له، بل المصادفة وحدها، كما يقول عينوز، هي التي قادت إليه؛ إذ تصادف انطلاق حركة الاحتجاجات بعد أسبوع واحد فقط من وصول عينوز إلى الجزائر مع فريقه للعمل على فيلم يتتبع فيه جذور والده في منطقة القبائل الجزائرية، ويبحث في آثار الثورة الجزائرية من أجل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي.
روح اللحظة
وعندما اندلعت حركة الاحتجاجات، كان على عينوز ومنتجة فيلمه ماري بيير ماسيا اتخاذ قرار سريع بالنزول إلى ساحات التظاهر وبدء العمل على فيلم وثائقي جديد على هامش فيلمهما المُخطط له.
وماسيا هي منتجة فرنسية مولودة في الجزائر، عرفت بمشاركتها في إنتاج فيلم المخرج الهنغاري الشهير بيلا تار “حصان تورين”، فضلا عن إنتاجها لعدد من الأفلام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما هي الحال مع بعض أفلام المخرج اللبناني أحمد غصين والمخرج الفلسطيني كمال الجعفري، ورئاستها لصندوق “سند” لدعم الأفلام في مهرجان أبو ظبي السينمائي سابقا.
ولم تكن هذه الخطوة من دون معوقات، إذ منعت قوات الأمن الجزائرية مدير تصوير الفيلم من التصوير خلال المظاهرات، وقاد هذا المنع إلى قرار تقني طبع مسيرة الفيلم اللاحقة كلها، وهو التصوير بكاميرا هاتف نقال (من نوع آيفون X وباستخدام تطبيق ’فيلميك برو’، الذي أصبح شائعا بعد نجاح فيلم “تانجرين” للمخرج شون بيكر المصور به في عام 2015)، فهدف عينوز هو التقاط روح تلك اللحظة المتدفقة أمامه بأي شكل من الأشكال، بل ومجاراتها في تدفقها وعفويتها وانسيابيتها أمامه وليس تصويرها ضمن تقنيات سينمائية عالية الجمالية.
وقد حكم هذا المنطق مجمل بناء الفيلم، الذي ظل عند روح الالتقاط والتوثيق السريع والقبض على روح اللحظة قبل أن تتبدد، وهو نهج كان للمصادفة والعفوية دور كبير فيه أكثر من الإعداد والتخطيط.
لقد نجح مدير التصوير، خوان سارمينتو جي، في التعبير عن روح الالتقاط تلك، وكانت لعبته الأساسية التقاط الوجوه بكاميرا الهاتف النقال والتركيز على تعبيراتها، متجنبا ما يمكن أن تسببه اللقطات الواسعة من إرباك لميزانسين الصورة وهو يصور وسط مساحات ضيقة وسط حشود المتظاهرين؛ فامتلأ فيلمه باللقطات القريبة لوجوه المتظاهرين وتعبيراتهم الغنية، إلى جانب التقاط أصواتهم والشعارات والأغاني التي يرددونها بعفوية شديدة.
وكان مدير التصوير العنصر الرئيسي وراء نجاح هذا الفيلم بقدرته على خلق معادلات جمالية وسط ظروف تصوير صعبة، وتلك القدرة على التقاط التعبير العفوي وتجنب أكبر قدر ممكن من التصنع الذي يلجأ إليه الكثيرون من غير الممثلين المحترفين عند مواجهتهم الكاميرا.
وسارمينتو جي، الكولومبي المولد المقيم في برلين، مدير تصوير شاب يشق طريقه بقوة في المشهد السينمائي العالمي وارتبط اسمه بالمخرج عينوز الذي عمل معه في ثلاثة من أفلامه، ومن أعماله الأخرى تصوير فيلم المخرج الكولومبي نيكولاس رينكون “وادي الأرواح” الذي توج بجائزة مهرجان مراكش الكبرى العام الماضي.
وبعدَ هذا العمل التصويري السريع، بذل صانعو الفيلم جهدا كبيرا في مرحلة ما بعد الإنتاج على متممات الصورة للخروج بفيلم احترافي مميز، وانصب الجانب الأكبر منه على العمل على شريط الصوت والمؤثرات الصوتية في الفيلم، التي نجحت في مجاراة تلك الروح الحيوية للحظة المصورة، عبر إضافة تلك الإيقاعات الصوتية المتنوعة التي تختلط بالأناشيد والشعارات والأغاني الوطنية التي يرددها المتظاهرون.
الأمل والفرح بوصفهما مقاومة
لقد وجد عينوز المحبط من التحول اليميني في بلده الأول، البرازيل، بعد وصول الرئيس جائير بولسارنو إلى السلطة، الأمل في حراك الشباب الجزائري الذي ملأ الساحات أمامه، واختار أن يقفز إلى جانبهم موثقا هذه اللحظة وملتقطا نبضها وروحها، باختيار نموذج يعبر عن شريحة هذا الشباب المنتفض.
واختار الفتاة نرجس عسلي، الفنانة المسرحية الشابة التي تعمل بدوام جزئي في كافتريا المسرح والناشطة في الحراك المدني، بوصفها انموذجا لشريحة الشباب التي تقف وراء هذا الحراك، وركز على تصوير يوم كامل من حياتها ومرافقتها من الساعة الثامنة صباحا إلى الخامسة فجرا، في ساحات التظاهر ولقائها بأصدقائها حتى سهرتها التي تنتهي في ناد ليلي في الجزائر.
يُذكّر هذا الحصر الزمني بفيلم المخرجة الفرنسية أنييس فاردا “كليو من الخامسة إلى السابعة” الذي نتابع فيه حياة بطلتها فلورانس (كليو) من الخامسة فجرا حتى السادسة والنصف مساء، وهو موعد إعلان نتيجة فحص السرطان الذي تنتظره.
لقد وجد عينوز في نرجس خلاصة المجتمع الجزائري بين ماضيه وحاضره، فالشابة القادمة التي تعيش في “باش جراح” الحي الشعبي الذي يعيش فيه الكثيرون من الطبقة العاملة الجزائرية والمولودة في حقبة العنف الدموية التي عاشها الجزائر في التسعينيات، المعروفة محليا باسم العشرية السوداء، والمتحدرة من عائلة ناضلت من أجل بناء الجزائر الحديثة عبر جد شارك في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، وراح لاحقا ضحية فشل المسار السياسي الذي أعقبها وأب شيوعي تعرض لمشاكل كبيرة مع النظام المهيمن، باتت تمثل في النهاية حيوية جيل شاب يحاول أن يكتشف هويته ومصيرة ويشق طريقه الخاص بعيدا عن هيمنة فشل الأجيال السابقة له في بناء دولة وطنية تتسم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لذا حرص عينوز على أن يبتدأ فيلمه بمشهد تمهيدي مميز مزج بين صور أرشيفية لمظاهرات الجزائريين مطلع الستينيات من أجل استقلال بلادهم مع تصوير جوي لجموع المتظاهرين الجزائرين في مظاهرات الجزائر الأخيرة يدورون تحت الكاميرا في اتجاهات مختلفة فيبدون وكأنهم أسراب تدور بلا هدى وتراوح في مكانها، وتبدو الصورة شاحبة أقرب إلى الأبيض والأسود حتى يبدأ اللون تدريجيا بالظهور مع اقتراب الكاميرا من تصوير الأفراد الذين يشكلون هذه الحشود.
ينتقل عينوز بعد ذلك، لمرافقة بطلته في شقتها وهي تضع مكياجها وتستعد للبدء بيومها، والمساهمة في المظاهرات. وتظل الكاميرا ملتصقة بها وتدور حولها في لقطات قريبة (من الكتف) وهي تشق جموع المتظاهرين أو تلتقي بأصحابها، ثم تتركها لتصوير نشاطات المتظاهرين الآخرين الذين تواجههم وسط الجموع لكنها تعود إليها في النهاية، فهي النقطة التي تنطلق منها كثير من مشاهد الفيلم وتنهي بها.
وعلى الرغم من مشهد التظاهر المتكرر، حاول عينوز إيجاد تنوع عبر لعبة التقاط شخصيات مميزة من بين المتظاهرين ومتابعة شعاراتهم وتعبيراتهم، وعززت اللقطات القريبة للوجوه التي أكثر منها إعطاء فرادة للأشخاص المشاركين الذين قدمهم في البداية كحشود بدون ملامح.
وبدا هذا النهج من العام إلى الخاص، هو المسار الذي سار عليه الفيلم بدءا من مشهد التمهيد العام مرورا بانتقاء بطلته وشخصيته الرئيسية نرجس وانتهاء برقصها في النادي الليلي في نهاية يومها، الذي بدا وكأن تلك الحركات السريعة المتوترة فيه جاءت لتفريغ زخم ذاك التوتر المتواصل في ساحات التظاهر طوال اليوم.
بيد أن هذا التقسيم قاد إلى ترهل في إيقاع الفيلم لا سيما في الثلث الأخير منه. وقد حاول عينوز معالجته بالقطع السريع في مشاهد الرقص في النهاية، ولكن سبقته أحاديث جانبية بين نرجس وأصدقائها بدت مختلفة عن ذلك التدفق الحيوي الذي ميز الشخصية في حركتها في بداية الفيلم أو عن تدفق الجموع المنتفضة.
ولعل العامل الرئيسي في ذلك، هو قلة زمن التصوير، الذي اقتصر على يوم تظاهر واحد، وما ولده ذلك من محدودية الاختيار في عملية المونتاج.
من هنا نخلص إلى أن عينوز قدم لنا فيلما وصفيا، ابن لحظته، وكان حريصا على توثيق هذه اللحظة والتقاط نبضها وحيويتها، لكنه لم يشغل نفسه بتحليلها والذهاب إلى قراءة دوافعها ومآلاتها. فلم يشغل عينوز نفسه بتحليل آليات القوة ونظم القمع أو الاختلالات المجتمعية التي قادت إلى حركة التظاهر، ولم يهتم بالبحث عن الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والقوى السياسية التي يمكن تقف وراءها، بل على العكس حرص على إظهار الحراك الشعبي ككرنفال مجتمعي للشباب والنساء على وجه الخصوص.
و لاتخفى هنا أيضا دلالة اختيار يوم الثامن من آذار، الذي يصادف يوم المرأة العالمي، لتصوير فيلمه الذي امتلأ بأصوات الشخصيات النسائية التي تحدثت عن أهداف الحراك الشعبي الجزائري بدءا بوجهات نظر بطلته الرئيسية وانتهاء بأراء وصيحات وشعارات حشد الأمهات المشاركات فيه.
وكنا أمام حشود أقرب إلى مشجعي كرة القدم (قالت نرجس في تعليقها بعد عرض الفيلم إن ملاعب كرة القدم كانت الأماكن الوحيدة التي نعبر فيها عن روح الاحتجاج في داخلنا قبل الحراك الشعبي). و لاننسى هنا أن عينوز غريب عن هذا المجتمع الذي تحدر والده منه وجاء لزيارته والتعرف عليه للمرة الأولى.
لم يقدم عينوز (المتوج بجائزة أفضل فيلم في تظاهرة ’نظرة ما’ في كان العام الماضي عن فيلمه ’حياة غير مرئية’) فيلما يُمثل (من مفهوم التمثيل في علم الجمال) الحراك الشعبي وحركة الاحتجاج في الجزائر ويشرح آلياته ومآلاته، بل حمل كاميرته مثل شاب جزائري ونزل إلى الشارع مشاركا في ما بدا كرنفالا جماهيريا، محاولا أن ينقل لنا قوة الفرح ولحظة الأمل فيه، أو كما قال في الندوة التي أعقبت عرض فيلم إن “الفرح والأمل يمكن أن يكونا شكلين للمقاومة”.
[ad_2]
Source link