“لا وجود للشيطان” فضح “تفاهة الشر” وأثر الاستبداد فتوّج بدب برلين الذهبي
[ad_1]
يحرص المخرج محمد رسول اُف في فيلمه “لا وجود للشيطان” على أن ينظر إلى مفهوم الشر بمعزل عن كل التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية، التي تربطه بالشيطان ليعيده إلى جوهر الفعل الإنساني، بكل إحالاته السياسية والاجتماعية.
فالشر هنا يرتكبه الإنسان وليس سواه، ويظل فعلا محصورا داخل المجتمع الإنساني، وليست له أي امتدادات ميتافيزيقية كتلك التي تحيلنا إليها التفسيرات الدينية، بل هو نتاج اعتلال وتغييب للوعي الإنساني وحرية الاختيار يجعل البشر ينحرفون عن جوهرهم الإنساني، لمغريات وأطماع شخصية وخضوعا لأنظمة وقوى مستبدة.
ولا يخفى حجم التحدي لمثل هذه النظرة لنظام ثيوقراطي يستند على أسس دينية ويستند إلى ولاية الفقيه (رجل الدين الأعلم) في بنية نظامه السياسي، كالنظام الحاكم في جمهورية إيران الإسلامية، والذي يكثر من استخدام استعارة الشيطان حتى في فقهه السياسي (الشيطان الأكبر).
وليس هذا الموضوع ببعيد عن اهتمامات المخرج رسول اُف في أفلامه السابقة، لكن هذا الفيلم يمثل ذروة نضجه في التعامل مع هذا الموضوع وتجاوزا للكثير من الثغرات والمبالغات التي قدمها في صورة الجلاد أو مرتكب الشر في أفلامه السابقة (وهذا ما سنوضحه لاحقا في هذا المقال).
دب البرلينالة الذهبي
هذه المعالجة قادت لجنة تحكيم مهرجان برلين السينمائي الدولي (البرلينالة) في دورته السبعين إلى تتويج فيلم “لا وجود للشيطان” بجائزة الدب الذهبي وهي أعلى جائزة يمنحها المهرجان.
وقد بررت لجنة التحكيم قرارها بمنح الفيلم هذه الجائزة على لسان رئيسها الممثل جيرمي أيرونز، الذي وصف الفيلم بأنه أظهر كيف تنسج “شبكة نظام مستبد خيوطها بين الناس العاديين، وتجرهم نحو اللاإنسانية”.
وقد تكرر مشهد مقعد المخرج الفارغ الذي رأيناه قبل خمس سنوات لحظة فوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة الدب الذهبي عن فيلمه “تاكسي” عام 2015، بعد تعذر حضوره إلى المهرجان إثر منعه من السفر في أعقاب اعتقاله مع مجموعة من الأشخاص إثر لقاء في منزله، بينهم رسول اُف نفسه. فبدا مقعد رسول اُف هذه المرة خاليا أيضا، بعد منعه من السفر منذ أن صادرت السلطات الإيرانية جواز سفره بعد عودته من مهرجان كان في عام 2013، الذي توج فيلمه “رجل نزيه” بجائزة تظاهرة “نظرة ما” فيه.
وقد نقلت وكالات الأنباء عن محامي رسول اُف قوله إن السلطات الإيرانية قد فعّلت حكم السجن الصادر بحقه لمدة عام، بعد أن كان موقف التنفيذ، وإنه تسلم رسالة نصية من السلطة القضائية بذلك، لكنه لن يسلم نفسه وسيستأنف ضد القرار.
وترجع مشكلة رسول اُف مع القضاء الإيراني إلى عام 2011، عندما حوكم هو والمخرج بناهي بتهمة التصوير من دون الحصول على إذن رسمي، وصدر بحقهما حكم بالسجن لست سنوات، وقد خفف الحكم على رسول اُف إلى سنة واحدة لاحقا.
ويأتي منح هذه الجائزة لفيلم رسول اُف وسط مناخ سياسي محموم إثر تصاعد التوترات والمواجهات بين إيران والولايات المتحدة، وتشديدها للعقوبات الاقتصادية عليها.
“تفاهة الشر”
على مدى نحو ساعتين ونصف، يقدم رسول اُف معالجته في أربع فصول أو حكايات منفصلة، ويمكن اعتبارها أربعة أفلام قصيرة مختلفة في تفاصيلها السردية وشخصياتها لكنها تنتظم في النهاية في معالجة موضوع واحد، هو كيف يتولد الشر في بيئة الاستبداد، عندما ينسج خيوطه في أفعال الحياة اليومية، وما مدى مسؤولية الناس عن كشفه ومواجهته.
تحدث رسول اُف بلغة مثالية في مقابلة مع المهرجان عبر خدمة سكايب عن موضوع فيلمه قائلا: “أردت التحدث عن الناس الذين ينأون بأنفسهم ويقولون إن القرار اتخذته قوة عليا… لكنهم يستطيعون في الواقع أن يرفضوا، وهذه قوتهم”.
قوة الرفض التي يتحدث عنها رسول اُف بهذه اللهجة اليقينية، تغيب عن الفصل الأول من فيلمه، الذي يمثل بنظرنا جوهرة الفيلم الحقيقية، ومنجزه الحقيقي الذي لو اكتفى به ووسعه قليلا لقدم واحدة من التحف السينمائية التي لا تنسى، والتي تجسد مفهوما فلسفيا عميقا مثل “تفاهة الشر” كما طرحته المُفكرة حنا أرندنت (تلفظ أرنت)، ونرى أنه العماد الذي بنى رسول اُف فيلمه عليه، لكنه فشل لاحقا في تقديم تجسيد بصري مميز له في تلك الإضافات التي حملتها أجزاء الفيلم الأخرى.
وهذه المفارقة هي ما نراه تمثل محنة سينما رسول اُف التي تنجر في كثير من الأحيان إلى مشكلة التعبير السياسي المباشر، مبتعدة عن البناء الاستعاري العميق الذي يغلف مسحة نقد اجتماعي تنساب بهدوء تحت نزوع انساني عام تميز رموز السينما الإيرانية، وهو ما أعطاها انتشارها وقبولها عالميا بوصفها تعبيرا إنسانيا خالصا رغم تناولها ثيمات محلية.
ينجح رسول اُف في تصوير الضعف الإنساني وتفاهة الشر وعاديته بعيدا عن المفهوم الميتافيزيقي والقيمي للشر المطلق، أو الشيطان الذي ينفي عنوان فيلمه وجوده، لكنه يفشل حين يتحدث عن البطولة.
يروي رسول اُف في مقابلته آنفة الذكر كيف استوحى أحد أجزاء الفيلم الأربعة بعد رؤيته رجلاً، أجرى معه تحقيقات خلال فترة سجنه، خارجاً من مصرف. وكيف تابعه لبعض الوقت، ليخلص إلى القول: “أدركت كم هو شخص طبيعي وكم يشبه جميع الآخرين. أدركت عدم وجود وحش، لم يكن هناك شرّ أمامي، وإنما مجرّد شخص لا يشكّ في تصرفاته”.
ويوضح لنا ذلك مدى حرص رسول اُف على الارتكاز إلى مفهوم أرندنت “تفاهة الشر” التي نأت بالشر عن أي مفاهيم قيمية أو ميتافيزيقية تنبع من الديني والمقدس، وأعادته إلى أرضيته وإنسانيته بوصفه فعلا يرتكبه الإنسان ولا وجود للشيطان فيه (كما يشدد عنوان الفيلم)، لكن هذه العادية تصب مع الاستبداد في صورة الشر المطلق أو الجذري وفي ذلك إحالة واضحة إلى مفهوم الشر الجذري لدى احد أهم أهم فلاسفة الفكر الإنساني، أوغست كانط، في كتابه الذي ترجمه الى العربية التونسي فتحي مسكيني “الدين في حدود مجرّد العقل”، عندما أعطى للإنسان شرط “الحرية” التي تمكنه من الاختيار بين المفهوم اللاهوتي عن الخطيئة الأولى التي تقود إلى أن الشر جزءا كامنا في الإنسان منذ خطيئته الأولى، وبين النزوع إلى الخير لديه.
لقد جعلت أرندنت من تغطيتها لمحاكمة المجرم النازي أيخمان مناسبة لمناقشة هذا المفهوم، فأيخمان مجرد موظف إداري قد يتحمل مسؤولية إجرامية، أصر في دفاعه على أنها جزء من واجبه الإداري كموظف لا يفهم غير لغة الإدارة، في حين أن المسؤولية السياسية تلقى على عاتق نظام سياسي بأكمله شرعنَ هذه الأفعال وجعلها واجبا.
فالشر المطلق هنا هو في بنية الاستبداد التي تمثل مسؤولية سياسية تقف وراء المسؤولية الجُرمية التي يرتكبها الأفراد بوعي أو من دونه، أما أيخمان نفسه فمجرد شخص عادي وسطحي تماما وليست لديه إرادة شخصية لارتكاب فعل الشر، الذي مارسه ضمن نظام استبدادي عام يغيب إرادة الإنسان ووعيه بحريته. وهنا يتوضح مفهوم تفاهة الشر مقابل الفكرة الكانتية عن الحرية.
وهذا هو واقع بطل رسول اُف في الفصل الأول من فيلمه الذي حمل عنوان الفيلم نفسه “لا وجود للشيطان” حشمت (أدى دوره بتميز الممثل إحسان مير حسيني)، الذي يبدو رجلا عاديا بسيطا يقتطع لنا المخرج يوميا من حياته بدءا من خروجه إلى العمل حاملا كيسا من الرز لعائلته وانتهاء بعودته إليه. نراه فيه رجلا حريصا على أداء واجباته إزاء أسرته، وعطوفا في التعامل مع أفرادها، متسامحا في مواجهة مشكلات الحياة اليومية، يدور بسيارته لجلب زوجته من عملها، وابنته من مدرستها، ثم الذهاب إلى التسوق، وتسلية ابنته الصغيرة وتنفيذ طلباتها، مستمعا إلى ثرثرة زوجته وممتصا غضبها من مشكلات الحياة اليومية ومساعدا إياها حتى في عملية صبغ شعرها.
ويمتلئ يوم حشمت بتلبية متطلبات عائلته كزيارة والدته المريضة والاهتمام بها، مساعدة زوجته في التحضير لحضور حفلة زفاف واختيار الهدية المناسبة.
ويمعن رسول اُف في تقديم تلك التفاصيل العائلية تهيئة للمفاجأة التي يُدخرها لمشاهده في نهاية هذا الجزء مع نهوض حشمت فجرا لعمله الذي نرى أنه في بناية محصنة ومسورة بجدران عالية، نعرف أنها سجنا لاحقا، ومع إعداد لقهوة الصباح وتناول فطوره، نرى أزرار حمراء تتحول إلى خضراء، ولا يقوم حشمت سوى بفعل بسيط وبلا أبالية يتمثل الضغط على أحدها، ليقطع رسول اُف بقسوة إلى منصة تسحب ونرى أقدام متدليه لعدد من الأشخاص الذين أعدموا ولا نرى سوى سيقانهم المتدلية وقطرات بول أحدهم تسيل من تحت بنطاله.
وينهي رسول اُف هذا الجزء من فيلمه بتلك اللقطة القاسية التي تُناقض كل ذاك الحنو والرأفة التي نشرها في تصوير حياة بطله اليومية.
أربع قصص
في الفصل الثاني من الفيلم الذي حمل عنوان “قالت: يمكنك أن تفعلها”، وهو ما نراه أضعف أجزاء الفيلم، نرى بويا (الممثل الشاب كاوة آهنغر) المجند حديثا الذي يعيش محنة بين واجبه العسكري الذي يفرض عليه المشاركة في عملية إعدام شخص صدر حكم بإعدامه وضميره الذي يرفض المشاركة في عملية قتل شخص قد يكون بريئا.
فنرى بويا قلقا ومرعوبا، ويطلب مساعدة زملائه في الوحدة العسكرية (السجن) الذي يتحدث أحدهم عن بساطة وعادية تنفيذ الأمر استجابة لما يراه عدالة القانون ويعرض عليه آخر تنفيذ العمل بدلا عنه مقابل مبلغ مالي كبير، ويطلب تلفون أحدهم للاتصال بحبيبته التي تشجعه على رفض تنفيذ الأوامر والهرب من السجن، ويسلمه أحدهم قبيل ذهابه لتنفيذ الأمر ورقة صغيرة رسم فيها خطة لهروبه.
ويتحول بويا، الذي نراه في البداية مهزوزا وخائفا إلى شخص بالغ الشجاعة يسرق بندقية حارس السجن الذي يرافقه، ويتمكن من الهرب من السجن المحصن بعد أن يتمكن من مفاجأة الضابط المسؤول عن بوابة السجن والحارس المرافق له وتكبيلهما والخروج حيث تنتظره حبيبته في سيارتها وتقوده في رحلة عبر الجبال على أنغام الأغنية الفلكلورية الإيطالية “بيلا تشاو” التي تحولت إلى نشيد المقاومة ضد الفاشية.
وفي الجزء الثالث الذي حمل عنوان “عيد ميلاد” ننتقل إلى حكاية جواد (الممثل محمد ولي زادغان) وهو شاب مُجند ينزل في إجازة لزيارة عائلة حبيبته بمناسبة عيد ميلادها والتقدم لخطبتها، والتي يبدو أنها من عائلة معارضة وتعيش في منزل وسط بستان في الريف. فنرى جواد ينزع ملابسه العسكرية قبل وصوله إلى منزل العائله ويستحم في مياه النهر وسط منظر طبيعي ساحر، وتستقبله حبيبته نانا (مهتاب ثروتي) التي نرى أن عائلتها منشغلة في إقامة حفل تأبيني لصديق للعائلة أعدمه النظام، ومع استعدادات الحفل يرى جواد أنه نفس الشخص الذي شارك هو بتنفيذ عملية إعدامه. ويعترف لنانا بذلك التي تظل مترددة بين حبها له ونفورها منه بعد هذه الحادثة، لكن العائلة بعد حفل التأبين تعود لحياتها الطبيعية وتفاجئ ابنتها بهدية عيد ميلادها وهي إعلان خطوبتها لجواد، ويترك رسول اُف هنا النهاية معلقة دون حسم المشاعر المتناقضة التي تعتمر داخل نانا بعد سماعها اعتراف جواد.
“قبّليني”
ويأخذ الجزء الرابع عنوانه “قبّليني” من أغنية إيرانية اكتسبت شهرة أسطورية في إيران وفي أوساط المعارضة السياسية الإيرانية إبان حكم الشاه.
وتقول كلمات المقطع الأول منها ما معناه (في ترجمة بتصرف عن النص الإنجليزي) “قبليني، قبليني لأخر مرة. وداعا . أنا متجه إلى مصيري. ربيعنا قد مضى وماضينا قد مضى، وأنا ما زلت أبحث عن مصير”.
وفي بداية انتشار هذه الأغنية نُسبت إلى عزت الله سيامك القيادي في التنظيم العسكري السري للحزب الشيوعي الإيراني “تودة” وقيل إنه كتبها لابنته قبل إعدامه، لكن تبين لاحقا أنها قصيدة للشاعر الإيراني والناشط في الحركة الوطنية الإيرانية والمقرب من رئيس الوزراء السابق مصدق، حيدر رقابي، الذي كان يكتب باسم مستعار (هاله) متخفيا من ملاحقة الشرطة السرية للشاه بعد الإطاحة بمصدق.
في هذا الجزء نتابع دريا (تؤدي دورها ابنة المخرج نفسه والتي تسلمت الجائزة نيابة عنه، باران رسول اُف) التي تعود من جامعتها في ألمانيا إلى إيران ليستقبلها عمها بهرام (الممثل محمد صديقي مهر) وزوجته، ويأخذانها إلى منزلهما في منطقة ريفية نائية، يعيشان فيها على تربية النحل على الرغم من دراستهما للطب.
ونرى بهرام وزوجته قلقان بشأن كيفية إخبارها بسر أخفياه عنها طوال حياتها، وهو أن بهرام هو والدها الحقيقي، وقد اضطر إلى تسجيلها باسم صديق له حماية لها عندما كان معارضا سياسيا ومطاردا من السلطات، ورفض أن يساهم اثناء خدمته العسكرية بتنفيذ إعدام أحد المعارضين (وهنا ربط بالحكاية الثانية).
يأخذ بهرام دريا في رحلة لصيد ثعلب يهدد دواجن المزرعة، لكنه في الحقيقة يريد الانفراد بها وإبلاغها بالسر الذي كتمه عنها، فتقول له أنها ترفض أن تقتل أي كائن حي، ويبدو بهرام أمامها متحمسا للصيد على الرغم من أننا نراه في مشاهد أخرى يرعى النحل من دون قناع ويضع الطعام يوميا للثعلب نفسه أمام منزله الريفي.
وينهي رسول اُف فيلمه بغضب دريا من والدها الذي تسميه “والدها البيولوجي” واتهامه بالأنانية لأنه لم يبلغها بالحقيقة إلا لحظة مرضه وشعوره بأنه مقبل على الموت، وقيامها بلملمة حقائبها للعودة إلى دراستها في ألمانيا من دون أن تقبله قبلة الوداع قبل رحيله المتوقع.
على حافة الميلودراما
أراد رسول اُف لبنية فيلمه أن تنتظم في أربع حركات وفي إيقاعات مختلفة أقرب إلى البناء السيمفوني، فنراه ينتقل من الإيقاع البطيء في الجزء الأول إلى إيقاع حركة سريع وقطع حاد في الجزء الثاني ثم يعود إلى الإيقاع البطيء في الجزئين الأخيرين.
بيد أنه باستثناء الجزء الأول، بدت الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الفيلم، تحمل الكثير من الحشو السردي وتسير في معالجتها على حافة الميلودراما. وبدا الجزء الثاني فيلم حركة عادي واحتوى على مبالغة واضحة في رسم بطولة شخصيته الرئيسية امتدت أيضا إلى أداء ممثله الرئيسي.
وتباين أداء الممثلين بشكل كبير في أجزاء الفيلم الأربعة، ففي الوقت الذي برع الممثل إحسان مير حسيني في أداء شخصية “حشمت” في الجزء الأول ببساطة شديدة ودون أي انفعالات أو تعبيرات مبالغ فيها، جاء أداء كاوة آهنغر بدور بويا في الجزء الثاني حافلا بهذه المبالغات بالتعبيرات العاطفية. ومن متابعتنا لأفلام رسول اُف الأخرى نرصد ضعف تعامله مع ممثله الذي يتضاعف الإحساس به عند المقارنة مع إدارة الممثل لدى مواطنيه أصغر فرهادي أو عباس كيارستمي.
ويظل الاستبداد وأثره في سحق كرامة الإنسان وتدميره موضوعا أثيرا لدى رسول اُف في معظم أفلامه، سواء في أفلامه الأولى التي اتخذت منحى رمزيا في معالجة هذه الموضوعة وسط اهتمام بجماليات الصورة، كما هي الحال مع “الغسق” 2002 أو “الجزيرة الحديدية” 2005 و”السهوب البيض” 2009، وفي الفيلم الأخير اتخذت المعالجة بعدا أسطوريا مع شخصية جامع الدموع الذي يجمع دموع الناس المكلومين الذين يعيشون على جزر ملحية وسط البحر ليغسل في النهاية بها قدمين متقرحتين لثري ومالك مستبد في المنطقة.
وتواصل مع انتقالته إلى تلك الواقعية النقدية التي ميزت أفلامه الأخيرة كما هي الحال مع “وداعا” الذي حصل على جائزة الإخراج عام 2011 في قسم “نظرة ما”، التظاهرة الثانية في مهرجان كان السينمائي بعد المسابقة الرسمية، و”المخطوطات لن تحترق” الذي عرض في القسم نفسه في عام 2013 وفاز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما (فيبريسي)، و”رجل نزيه” الذي توج بالجائزة الرئيسية في القسم نفسه في مهرجان كان عام 2017.
ويمثل “لا وجود للشيطان” أعلى نقطة في منحنى بياني يمثل تطور نضج رسول اُف الفني، ويمكن لنا هنا أن نضرب مثلا موجزا بالمقارنة في تصويره لشخصية الجلاد أو مرتكب الشر بين شخصية “حشمت” في هذا الفيلم وشخصية “خسرو” وزميله “مرتضى” في فيلم “المخطوطات لن تحترق”، اللذين يعذبان ويقتلان المعارضين السياسيين، ويبدوان أقرب إلى قاتلين مأجورين في فيلم حركة أمريكي. وتُرسم شخصية خسرو ضمن مبالغة ميلودرامية فيبدو أقرب إلى الشخصية الكاريكاتيرية في توزعه بين فقره ومرض ابنه وساديته في تعذيب المعارضين أو دناءته حيث يسرق الطعام من ثلاجة الضحية الذي يعذبه.
ويُثير المستوى التقني الاحترافي الذي ظهر في الفيلم، الكثير من التساؤلات بشأن آلية تنفيذ رسول أف لأفلامه المعارضة بشكل مباشر للنظام في إيران، ولاسيما عند مقارنته مع زميله الممنوع من السفر أيضا جعفر بناهي، الذي ينفذ أفلامه بميزانيات منخفضة وبإمكانات تقنية بسيطة وعبر كاميرا فيديو محمولة ذات دقة وضوح منخفضة الصورة، نرى رسول اُف يُنفذ أفلامه ضمن شروط إنتاجية واحترافية عالية. فعلى صعيد الصورة بدا مدير التصوير أشكان أشكاني (سبق أن عمل مع رسول اُف في فيلم رجل نزيه) مسترخيا في تنفيذ تلك المشاهد الخارجية المنفذة للشاشة العريضة ومعتنيا برسم جمالياتها، وكذلك الحال مع عنايته بتوزيع مساقط الضوء وتوزيع الكتل والشخصيات في المشاهد الداخلية.
وفي الموسيقى التصويرية، عمل رسول اُف مع موسيقار محترف هو أمير ملوكبور الذي عرف باهتمامه بالموسيقى الفلكلورية الإيرانية وموسيقى الطقوس الدينية الزرادشتية على وجه الخصوص.
لقد وضعت جائزة البرلينالة، وقبلها الجوائز الثلاث في “نظرة ما” في كان، رسول اُف في مقدمة المشهد السينمائي الإيراني. وعلى مدى التاريخ شكل مهرجان برلين السينمائي مدخلا للشهرة العالمية لكثير من المخرجين الإيرانيين منذ تتويج المخرج الراحل سهراب شهيد ثالث ببعض جوائزه في سبعينيات القرن الماضي.
وهذه المرة الثالثة التي يقتطف المخرجون الإيرانيون جائزة المهرجان الكبرى بدءا من فيلم انفصال لأصغر فرهادي، عام 2011 ومرورا بتاكسي جعفر بناهي وانتهاء بالفيلم الأخير، فضلا عن حصولهم على عدد من جوائز المهرجان الأخرى في دورات سابقة.
وفي كل أفلامه الأخيرة اختار رسول اُف نهج المواجهة الحادة مع السلطة الحاكمة في إيران، وظل ينفذ كثير من أفلامه التي ركزت على نقد ما يراه بنية الاستبداد في هذه السلطة ودور أجهزتها الأمنية في اضطهاد المثقفين والطبقة الوسطى الطامحة إلى الحياة العصرية في بلاده، وهو نهج انتقادي مباشر بعيد عن ما ميز رموز السينما الإيرانية أمثال: داريوش مهرجوي وسهراب شهيد ثالث وعباس كياروستمي وأصغر فرهادي وأمير نادري وبهرام بيضائي، في تغليف مسحة النقد الاجتماعي في أفلامهم ببنية استعارية ونزوع إنساني عام ولمسة تأملية في الوجود تبعدها عن النهج السياسي المباشر، وهي ما يصفه الناقد الإسباني، ألبرتو إيلينا، بأنه نوع من “فن التقية” بكتابه الذي حمل العنوان نفسه، في إشارة إلى المفهوم المستمد من الممارسة الدينية لدى شيعة إيران. ولعل هذا النهج هو ما ضمن للسينما الإيرانية استقلاليتها ونجاحها رغم الأنظمة المستبدة.
وفي سياق نهجه هذا نجح رسول اُف في اختيار موضوع يحظى باهتمام عالمي كبير وهو عقوبة الإعدام، وناقشه ضمن سياق بيئته المحلية في بلد تضعه منظمات حقوق الإنسان في مقدمة أعلى البلدان في تنفيذ عمليات الإعدام في العالم. وقد قدم المهرجان فيلما آخر تناول موضوع عمليات الإعدام في إيران ولكن منظور كيفية تناولها في وسائل الإعلام، وهو فيلم “يلدا: ليلة تسامح”، لمواطنه المخرج مسعود بخشي والمأخوذ عن واقعة حقيقية في أحد برامج الواقع في التلفزيون الإيراني.
[ad_2]
Source link