سيتا مانوكيان: حكاية الفنانة التي صارت راهبة بوذية
[ad_1]
“كنتُ بوذيّة قبل أن أكتشف ما هي البوذيّة”، تقول سيتا مانوكيان، الفنانة التشكيلية اللبنانية والراهبة البوذية المقيمة في لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية.
وتعد سيتا البالغة من العمر 75 عاماً، المولودة في عائلة أرمنية الأصل، إحدى رائدات الفن التشكيلي في لبنان خلال السبعينيات، وتعيش منذ ١٥ عاماً كراهبة بوذية ملتزمة.
تفضّل سيتا مانوكيان أن نناديها “آني”، وتعني راهبة باللغة التيبتية. وتحمل الفنانة هذا اللقب منذ عام 2005، حين حلقت شعرها، وارتدت الثوب الزعفراني الغامق المعروف، وهو القماش الوحيد الذي يرتديه الرهبان البوذيون.
وتحمل اسم آني بيما تسولتريم درولما. وتعني بيما زهرة اللوتس، وهي ذات رمزية في الديانة البوذية، لأنها تخرج من الوحل وتنمو وتطفو كزهرة مكتملة على سطح الماء. كلمة تسولتريم تعني الطريقة، ودرولما أو دولما هي الصنو المؤنث لبوذا في تقاليد مذهب فاجرايانا التيبيتي.
لا شيء في حياة الرسامة الشهيرة كان يوحي بأنّها قد تدخل سلك الرهبنة، لذلك أثار خيارها باعتناق البوذية استغراب أصدقائها.
قالت لنا في اتصال هاتفي من منزلها في لوس أنجلس، حيث تمضي الوقت بالتأمل والرسم، “قالوا لي أيعقل؟ أنتِ راهبة؟ لكن، حين رأوني بعد مدّة في حلّتي الجديدة فهموا وقدّروا خياري”.
من الباليه إلى بوذا
تعلّمت سيتا مانوكيان رقص الباليه في طفولتها، وحلمت أن تحترفه، لكنّ طولها الفارع مع تقدّمها في العمر، حال دون ذلك.
ولكنها لم تتخل عن الرقص، بل واظبت عليه كراقصة رئيسية في فرقة فلكلور أرمنية.
في الصور التي التقطت لها في شبابها، تبدو شابةً مندفعة مليئة بالطاقة والحياة.
وتقول “كانت عائلتي منفتحة دائماً على كلّ خياراتي، سواء في الفن أو الروحانية، وكانوا يدعمون قراراتي. لم يعارضوا خياري بالترهّب. لكن بعض الأصدقاء استغربوا لأنّه عند اللقاء بي، كان يصعب على الناس أن يتخيّلوني راهبة”، وتضيف ضاحكة: “الآن صرت امرأة عجوز، وبات من السهل تصديق أنّي راهبة من شكلي”.
بعد اعتناقها البوذية هجرت سيتا مانوكيان الفرش والألوان لعشر سنوات كاملة.
وكانت قد بدأت التعبير بواسطة الرسم في سنّ صغيرة جداً، حين اكتشفت جدتها موهبتها.
وتدربت في طفولتها على يد الرسام اللبناني الشهير بول غيراغوسيان، ثمّ التحقت خلال المرحلة الجامعية بأكاديمية الفنون الجميلة في روما، وحاضرت كأستاذة للرسم في الجامعة اللبنانية في السبعينيات.
امتدّت مسيرتها الفنية الاحترافية لأكثر من خمسين عاماً، وعُرضت أعمالها في أبرز صالات بيروت، وكانت من الفنانين الذين أعطوا العاصمة اللبنانية وهجها الفكري والثقافي في المرحلة السابقة للحرب الأهليّة.
فكيف تترك الرسم لعقد من الزمن، هي التي أمضت معظم حياتها ترسم؟ الإجابة بالنسبة لها “الفنّ بالنسبة لي كان دوماً شكلاً من أشكال التأمّل ورحلة روحانية قبل أيّ شيء آخر. لا يمكنك اعتناق البوذية بشكل جزئي، يجب أن تغوصي بها بالكامل، ولم أرد لأي عامل آخر أن يشتتني”.
“وأخيراً وصلت إلى بيتي”
غادرت سيتا مانوكيان بيروت مع عائلتها عام 1985 إلى لوس أنجلس، حيث عرضت أعمالها في صالات فنيّة.
ولكنها وجدت الولايات المتحدة فضاءً بارداً وخالياً من العواطف، بعكس بيروت حيث كان من السهل عليها التواصل مع الناس أكثر.
وكانت تفكّر أنّها بحاجة لما يملأ قلبها بالحب من جديد.
وهناك اهتدت إلى التأمل في منتصف التسعينيات.
والتقت بمعلمها الأوّل، بانتي لاكانا الذي منحها أساسيات التأمّل، وساعدها للتعمّق بالبوذية.
وفي عام 2005، قررت السفر من لوس أنجلوس إلى سيريلانكا لتعتنق الرهبنة البوذية، وتتعمّق في ايمانها الجديد.
في وثائقي بعنوان “الأم سيلا”، عن حياة سيتا مانوكيان، تصوّر المخرجة سفتلانا دارساليا رحلة الرسامة إلى سيريلانكا، ولحظة قصّ شعرها وحلاقته بالكامل، والباسها زيّ الراهبات التقليدي لدى البوذيين.
وتقترب الكاميرا من وجهها وعينيها، فتبدو سعادتها جليّة. “حين اهتديت إلى البوذية شعرت أنّي وصلت إلى بيتي أخيراً، وكان ذلك أسعد يوم في حياتي، تملّكني فرح غير معقول”.
بعد رحلتها إلى سيريلانكا والهند، عادت آني درولما إلى لوس أنجلس عام 2007 حيث واظبت على ممارسة دورها كراهبة في معبد بوذي في المدينة.
وتخبرنا عن أيامها كراهبة بوذية آني درولما “لم يكن عندي وقت للرسم على الإطلاق. كنت أمارس التأمّل لثماني ساعات في اليوم، ثمّ أقرأ، ثمّ أزور معلّمي. بدأ على طريقة تيرافادا، ثمّ انتقت إلى البوذية التيبتية، وصار لديّ مهام أنفذها كلّ يوم في المعبد، فأستيقظ عند الرابعة والنصف فجراً، وأصعد إلى الجبل، حتى خلال فترات الثلج، وأهيئ المعبد استعداداً لوصول الآخرين”.
لم يكن كلّ ذلك صعباً بالنسبة لها، على العكس، كان جزءاً من طريقها نحو الراحة والسلام.
أبعد من الموت والحياة
كان السؤال الروحاني حاضراً دوماً في ذهن سيتا مانوكيان وحياتها وأعمالها. “كنت حين أنزل إلى شاطئ البحر، وأنظر إلى الأمواج والأفق، أفكّر أنّ تلك الأمواج تشبه حياتنا المليئة بالتقلبات والعذاب، وكنت أفكّر أنّي أريد الذهاب إلى أبعد من الموت، وأبعد من الحياة. لم أكن قد قرأت هذه الفكرة في كتاب، ولم يشرحها لي أحد، وكنت أكرّرها دائماً، إلى أن عرفت لاحقاً أنّها عنصر أساسيّ في البوذيّة”.
احتكاك سيتا مانوكيان الفعليّ الأوّل مع البوذية كان في سنّ الثانية عشرة.
وتقول “عثرتُ على مجلّة نسيها زائر عندنا في البيت، فيها مقالة عن البوذية، عن الدالاي لاما، والتيبت. قرأت المقال، وطار رأسي من مكانه. كان لديّ صفّ لغة عربيّة في البيت يومها، وحين حضر الأستاذ، لم يستطع أن يدرّسني شيئاً، كنت مأخوذة بالكامل بما قرأت”.
حين بدأت الرسم عندما كانت مراهقة، كانت تقفل باب غرفتها على نفسها، وتنظر إلى الحائط الأبيض، وتنقّي ذهنها من الأفكار كلياً، حتى يصير صافياً، وتبدأ بخطّ لوحاتها. وكأنّها اهتدت إلى شكل من أشكال التأمّل من دون أن يعلّمها أحد.
وتقول “اكتشفت في غرفتي أنّ المعرفة تأتي من الباطن، وليس عن السطح، وكلما غصنا أكثر في العمق، كلما حملنا معنا أشياء أهمّ”.
وتعتقد أنّها كانت راهباً بوذياً في حياتها السابقة، فالبوذيون يؤمنون بالتقمّص، وتقول إنّها رأت حياتها السابقة خلال جلسات التأمّل.
وذلك ما يفسّر بالنسبة لها ذلك التوق إلى روحانية بوذا قبل التعرّف إليها.
سألناها ماذا تعتقد أنّها ستصير في دورة حياتها اللاحقة؟ فضحكت قائلةً أنّها تريد أن تصير راهباً.
سألناها إن كان هناك تمييز في الرهبنات البوذية بين الرجال والنساء، فأجابت “سأكون صريحة معك، بالطبع حياة الراهب أسهل من حياة الراهبة، كما هي الحال عموماً في الحياة، فمن الأسهل أن تكون رجلاً من أن تكوني امرأة”.
أهدي رقصتي لبوذا
تحرّم المعتقدات البوذية السعي إلى الشهرة والاعتراف والثناء، وذلك صعبٌ في المهن الفنيّة حيث من الطبيعي أن يسعى الرسامون أو الممثلون أو الكتاب إلى الحصول على إعجاب المتلقين.
عادت آني درولما إلى الرسم عام 2016، واحتضن متحف سرسق في بيروت مجموعة من أعمالها.
وتقول إنّ “الجمع بين الفنّ والرهبنة صعب جداً، أحياناً أفكّر بالعودة إلى قطيعتي الفنيّة، للتركيز والتأمّل، لكنّي أجد من ناحية أخرى أنّه من واجبي أن أرسم”.
كبرت سيتا مانوكيان في أسرة أرمنية أرثوذوكسية، وكان جدها الأكبر لوالدها كاهناً.
يذكر أن اللجوء إلى التأمل والروحانية وممارسة اليوغا خيار يتخذه كثيرون في يومنا هذا، بغض النظر عن ايمانهم أو معتقداتهم الدينية، بحثاً عن التوازن والراحة النفسية.
وتقول آني “التأمل يعطي الناس الراحة، ويساعدهم على فهم أمور مهمّة في الحياة، مثل أن لا شيء دائم، وكيف يكونون سادة على عقولهم، فيضعون حداً لأي فكرة تزعجهم”.
هل كانت ستعتنق البوذية لو بقيت في لبنان ولم تذهب إلى لوس أنجلوس؟ تعتقد آني درولما أنّ احتمال اعتناقها البوذية في بلدها الأم كان ليكون ضئيلاً جداً. حين زارته قبل سنوات قليلة وجدته مختلفاً كثيراً عما كان عليه في منتصف الثمانينيات.
لكنّ “الناس ما زالوا، على حالهم، قريبين من القلب. في أميركا أتجنب المناسبات الاجتماعية والضجيج، وحتى الآن، ما زلت لا أجد الناس قريبين من القلب”.
سألناها قبل توديعها “ألا تشتاقين للرقص”. ردّت بالقول “كلا، ما زلت أحبّ أن أرقص، وأحياناً أرقص لوحدي، وأهدي رقصتي لبوذا”.
[ad_2]
Source link