تربية الأبناء: كيف يتأثر سلوكك في العمل بطبيعة العلاقة بين والديك في المنزل؟
تؤثر عوامل لا حصر لها في الكيفية التي تتواصل من خلالها مع زملائك في العمل، مثل طبيعة شخصياتهم، ونمط شخصية المدير، فضلا عن الأجواء التي تسود المؤسسة بشكل عام. لكن هناك عاملا آخر أقل وضوحا يتعلق بوالديْك، ربما يكون مسؤولا عن معاناتك من مشكلات في بيئة العمل، من قبيل سعيك لتجنب أن تطلب المساعدة من الزملاء، أو خشيتك من الفشل، أو صعوبة أن تتقبل التقييم السلبي لأدائك.
ومن هنا، ربما تكون طريقة تفاعلك مع زملائك في العمل، قد تحددت بناء على طبيعة العلاقة بين والديْك؛ خاصة فيما يتعلق بالطريقة التي كانا يتبعانها للتعامل مع خلافاتهما؛ فهل كانا ينزعان للطرق الودية والبناءة أم يميلان للشجار والصراع؟
وبحسب علماء النفس، يؤدي كثرة التشاحن والشجار بين الوالديْن إلى التأثير على ما يُعرف بـ”نمط التعلق” الخاص بابنهما، وهو النمط الذي يحدد كيفية تعامله مع الآخرين. وربما يلقي ذلك بظلاله على مقدرته على إقامة علاقات صحية في مكان العمل.
ويجرنا ذلك للحديث عن نظرية “التعلق”، التي بُلْوِرَتْ للمرة الأولى منتصف القرن الماضي على يد عالم النفس البريطاني جون بولبي. وتشير هذه النظرية إلى أن العلاقات الاجتماعية التي يقيمها المرء وتُسهم في تأسيس شخصيته – خاصة تلك التي تربط بينه وبين والديْه – تُشكِّل الطريقة التي يتفاعل بها مع الآخرين ويرتبط بهم طيلة حياته، وهو ما يُعرف علميا باسم “نمط التعلق”.
وتوجد عدة أشكال لهذا النمط؛ أولها “نمط التعلق الآمن” الذي يشعر أصحابه بالثقة في أنفسهم وفي الآخرين. أما الثاني فهو “نمط التعلق القَلِق”، الذي تقل ثقة أصحابه في أنفسهم ويخشون كذلك من التعرض للرفض أو التجاهل من جانب الآخرين، ويسعون دوما للحصول على تطمينات منهم. ويُعرف النمط الثالث باسم “نمط التعلق ذو الطابع الانطوائي”، الذي تقل ثقة أصحابه في أنفسهم وفي الآخرين كالنمط الثاني، لكن الاختلاف يكمن في أنهم يستطيعون التكيف مع هذا الأمر، من خلال تجنب الاقتراب الشديد ممن حولهم من الأصل.
وهناك عدد كبير من العوامل التي تسهم في تشكيل “نمط التعلق” الذي يطوّره كل منّا. ومن بينها، طبيعة استجابات الوالديْن للمواقف التي يمران بها، بجانب طبيعة شخصية الإنسان نفسه، التي تتشكل بدورها بفعل مزيج من العوامل البيئية والوراثية. كما تلعب طبيعة علاقة الوالديْن ببعضهما البعض دورا في تشكيل “نمط التعلق” هذا. فالأب والأم يقدمان لأطفالهما نموذجا لكيفية تسوية المرء خلافاته مع من يرتبط معهم بعلاقات وثيقة، وذلك بالطبع إذا كانت تلك الخلافات قابلة للحل من الأساس. وتشير الدراسات إلى أن النموذج الذي يقدمه الوالدان في هذا الصدد، يؤثر على “نمط التعلق” الخاص بالأبناء في المستقبل.
وتعاني الدراسات التي تُجرى في هذا الإطار مما يُعرف بـ “الخلط الوراثي”، وهو ما يعني تفسير أي ارتباط بين سلوك الأبناء وسلوك الآباء – ولو جزئيا – بالجينات المشتركة بينهما. لكن لا يمنع وضع هذا العامل موضع الاعتبار، من النظر إلى نتائج دراسة أُجريت على 157 زوجا، وأظهرت أن من عانوا منهم من طلاق والديهم خلال فترة الطفولة، كانوا أكثر ميلا إلى تطوير “نمط تعلق غير آمن” في طور البلوغ.
وأجريت دراسة أخرى في هذا السياق في جامعة أمريكية على 150 طالبا جامعيا طُلِبَ منهم تذكر المشاحنات والخلافات التي وقعت بين والديْ كل منهم، ثم تحديد طبيعة نمط التعلق الخاص بهم هم أنفسهم، بعد ذلك. وتظهر الدراسة أن الطلاب الذين تذكروا قدرا أكبر من الخلافات كانوا أكثر نزوعا لتطوير نمطيْ “التعلق القلق” و”التعلق ذو الطابع الانطوائي” مقارنة بغيرهم.
ولسنوات طويلة، تم الاستعانة بنظرية “التعلق” لدراسة كيف يؤثر “نمط التعلق” الذي يطوره المرء خلال طفولته، في سلوكياته خلال علاقاته العاطفية في طور البلوغ. ولم يكن مفاجئا أن يرتبط نمطا التعلق غير الآمنيْن، باضطراب العلاقات العاطفية التي ينخرط فيها من يطوّرون أيا منهما.
لكن علماء النفس سعوا – بشكل متزايد – خلال السنوات القليلة الماضية، إلى الاستفادة من تلك النظرية، لتفسير سلوك الموظفين في مكان العمل كذلك.
نمط الشخصية
على أي حال، هناك طرق متعددة يمكن أن يؤثر من خلالها “نمط التعلق” الخاص بك، في سلوكك في مكان العمل. فعلى سبيل المثال، إذا كنت صاحب “نمط تعلق قلق”، فربما ستخشى أكثر من اللازم من عواقب أدائك بشكل سيء في عملك. لكن الأمر لا يخلو من جانب إيجابي، يتمثل في أنك تصبح أيضا في هذه الحالة أكثر تنبها لأي تهديدات تحدق بك.
أما إذا كان لديك “نمط تعلق ذو طابع انطوائي”، فستصبح أكثر ميلا للشعور بعدم الثقة في زملائك ورؤسائك على حد سواء. وبطبيعة الحال، تؤثر طبيعة “نمط التعلق”، وهو أمر يضرب بجذوره في التركيبة النفسية للمرء، في طريقة تصرف المديرين كذلك، إذ يميل من يطورون منهم نمط “تعلق آمن”، إلى تفويض اختصاصاتهم لمرؤوسيهم.
وقد تعززت هذه النتائج من خلال قصص رواها البعض عن تجاربهم الشخصية، مثل تلك التي روتها سابرينا أليس (32 عاما)، وهي سيدة تعمل ممرضة للمصابين باضطرابات عقلية وخبيرة أيضا في علم النفس التنظيمي. فقد تحدثت أليس عما شهدته من وقائع عنف لفظي وبدني، حدثت بين والديْها من جهة، وفي ما بعد بين والدتها وزوجها من جهة أخرى. وقالت: “في فترة نشأتي، لم يكن هناك في المنزل أي شخص بالغ بوسعي الثقة فيه، سواء كان ذكرا أو أنثى. وشعرت بأنه يتعين عليّ حماية نفسي، حتى وأنا فتاة صغيرة في السن”.
وترى هذه السيدة أن ذلك سبب مشكلات لها في بداية مسيرتها المهنية، خاصة على صعيد عملية إعادة بناء الثقة بينها وبين زملائها الذكور، ممن خذلوها في بعض المواقف.
ووردت قصة أخرى على لسان كيران كور (34 عاما)، متخصصة في تقديم الاستشارات في المجال الإداري. وتعتقد كور أن العلاقة بين والديْها أثرت عليها سلبا وإيجابا سواء بسواء. فقد سعت في إدارتها لفريق العمل الذي تقوده، إلى الاستفادة من أسلوبهما في التعامل مع المشكلات، الذي كان يقوم على تجنب نشوب خلافات حادة بينهما، وتوحيد المواقف حيال ما يواجههما من مسائل شائكة. في الوقت نفسه، تأثرت كور سلبا بكون أبواها قد حالا – وبشكل كامل – دون أن تتعامل مع أشخاص آخرين، كانوا يتبنون رؤى أو وجهات نظر مختلفة عنهما. وتقر تلك السيدة بأن ذلك أثر على النهج الذي اتبعته في العمل، “لأنني لم أكن أسمح بإجراء نقاشات مفتوحة وصريحة كذلك”.
لكن “نمط التعلق” الخاص بك، ليس قدرا لا مهرب منه. فقد أظهرت دراسة أُجريت مؤخرا، أن هذا النمط يتطور بشكل ما على مدار حياتك، بفعل ما يحيط بك من ظروف خلالها. ولذا فإذا حالفك الحظ، وكان لديك شريك حياة مُحب يمكنك الاعتماد عليه؛ فسيزيد ذلك على الأرجح من ثقتك في نفسك وفي من حولك، وهي الصفات التي يتسم بها عادة من لديهم “نمط تعلق آمن”. ويُطلق على ذلك اسم “مفارقة الاعتماد على الغير”، والتي تعني أن وجود شخص يمكنك الاعتماد عليه، يزيد من استقلاليتك.
بجانب ذلك، كلما كنت أكثر وعيا بخصائص العلاقات التي تميل لتكوينها مع من حولك، وهي الخصائص التي تتحدد بناء على ما مررت به في طفولتك من تجارب، أصبحت قادرا على اتخاذ خطوات تستهدف تحسين هذه السمات، أو جعلها تصب في صالحك.
وتقول كيران كور إن التحاشي غير المفيد للخلافات والتعامل بذهن منغلق مع المحيطين، وهما صفتان تعتقد أنها أخذتهما من والديْها، أثرتا عليها بشكل سلبي، مشيرة إلى أنها لم تبدأ في التعامل مع آثار ذلك بغرض معالجته سوى منذ 10 سنوات فحسب، وذلك عندما لفت أحد زملائها انتباهها إليها. وتكشف عن أنها صارت الآن تسمح بفتح نقاشات في مكان العمل في مسعى لأن تصبح ذات عقلية متفتحة “بقدر الإمكان”.
ونجحت سابرينا أليس في التكيف، وبطرق إيجابية، مع المشكلات التي واجهتها جراء نمط التعلق الخاص بها، والذي طوّرته بناء على ما شهدته في طفولتها من تجارب. وتقول في هذا السياق: “تجنبت الخلافات طيلة مسيرتي المهنية، وتعلمت بوعي أساليب جديدة لحل المشكلات ومعالجة المخاوف بشكل مهني، عبر التركيز على كيفية إيجاد الحلول”. وأضافت: “كان ذلك مثمرا بشدة وساعدني على تحقيق النجاح كقائد لفريق العمل تارة، وكزميل لأشخاص آخرين يعملون في مجالي نفسه تارة أخرى”.
وهكذا فإن للطرق التي تتواصل بها مع الآخرين في مكان عملك جذورا عميقة. لكن علم النفس يؤكد لنا أن التعلم أمر يمكن للمرء الانخراط فيه، في أيٍ من مراحل حياته. وينطبق ذلك – بطبيعة الحال – على شخصيتك ونمط التعلق الخاص بك، بقدر انطباقه على مسألة تعلمك لغة جديدة، أو شروعك في ممارسة رياضة لم تكن يوما من ممارسيها.
وبوصفي طبيبا نفسيا يمكنني القول، إن اكتسابك مزيدا من الوعي بشأن هذه التفاعلات النفسية المرتبطة بعلاقاتك الشخصية مع الآخرين وجذورها، يعني أنه ما من سبب يمنعك من التكيف بشكل إيجابي مع تأثيراتها عليك، وأن تصبح كذلك مديرا أو زميل عمل أكثر كفاءة وفاعلية.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Worklife
[ad_2]