من دمشق إلى فرانكفورت: عندما يعالج الطبخ متاعب الوحدة
[ad_1]
لم تكن علاقتي بالمطبخ استثنائية عندما كنت أعيش في الوطن (سوريا)؛ كحال معظم الفتيات العربيات دخلت المطبخ في سن مبكرة تيمناً بأمي وجدتي، أما والدي فقلما كان يدخل المنزل غير محمّل بأكياس الخضار والفاكهة. لهذا كنت دائما في حالة تحدِّ مع الزمن لتدبر أمر تلك الكميات الضخمة قبل أن تفسد، فأسرع إلى تطبيق وتجريب وصفات جديدة من المطبخ العالمي كمهمة إنقاذية.
حين هاجرت إلى ألمانيا كنت بحاجة إلى مكان يفوح بروائح مألوفة، كنت بحاجة إلى الشعور بالإنجاز في مكان لا تاريخ لي فيه، إلى تحدي المواد الغريبة عنا وتطويعها لتصبح مشابهة لما عرفناه، وإلى مائدة أجمع حولها بعض المعارف والأصدقاء كي لا ينتهي بي الأمر إلى تناول طعامي وحيدة في شقة لم أختر تفاصيلها. أردت أن أخلق حواراً يوقظ اهتمامات مشتركة في وقت كان فيه الحديث عن الصراع الدائر في سوريا أمراً يصعب تجنّبه.
أنشأت صفحة على فيسبوك عام 2014، بعد أقل من عام على استقراري في ألمانيا، وأسميتها “مطبخ غربة”.
لم أتوقع يوماً أن يصل متابعو المجموعة إلى عشرين ألفاً، كان كل ما سعيت إليه كان خلق مساحة للأصدقاء ليعبروا من خلالها أن يعبروا عن أنفسهم وعن حنينهم وإنجازاتهم بواسطة الطبخ.
التغيير قادم والمطبخ يقول كلمته
الطعام نافذة من الفضول لاكتشاف الآخر وسماع قصته.
كثيراً ما أضبط نفسي متلبسة وأنا أتلصص على مشتريات الشخص الذي يسبقني في طابور السوبرماركت. أحاول التنبؤ بنمط حياته وحجم عائلته، أرسم ملامحه وأصوله، وأقيم درجة انفتاحه وجرأته. أحياناً أخرى وفي غمرة الفضول، أحدق في أطباق الناس في المطاعم المختلفة. أجعل من الأمر برمته لعبة؛ لعبة ثقافية قد تساعدني كي آلف بلد الاغتراب وسكانه.
من مكاني كمراقبة لمطابخ الغربة، لاحظت أشياء أبعد من الوصفات وثقافة بلدانها؛ تمكنت من تلمس تحولات على الوصفات تدخل بقوة على ما ورثته من نساء عائلتي وحملته معي زاداً إلى المهجر. كل ما يحدث من حولي من تغيرات في الظروف الاقتصادية والبيئة والمجتمع والعادات، يغلي أيضاً في القدر الذي أطهو فيه عشائي وتمتزج مكوناته لتعلن عن التغيير في الوجبات ومحتويات البراد، شئت ذلك أم أبيت.
في النقاشات التي أتابعها على مجموعة “مطبخ غربة” بين أشخاص مقيمين في بلدان تختلف مواقعها الجغرافية لكنها قد تتشابه فيما تفرضه على المهاجرين إليها، استطعت أن أدرك أن هناك تغييراً قادماً لا محالة، يسرع خطاه على وقع تكاثف حركات الهجرة واللجوء في الأعوام الأخيرة.
في الغربة يرحب البعض بالتغيير ويقاومه آخرون، والسؤال، كيف سيكون هذا التغيير؟
أحاول العثور على إجابة بين سطور صفحات التواصل الاجتماعي دون الوصول إلى إجابة واحدة، لكنني على يقين بأن حدوث التغيير هو الأمر الوحيد الثابت. أشاهد الناس يتحايلون على قسوة غياب مكونات الطبخ، فتولد طرق جديدة تعلن مرغمة القطيعة مع طريقة الأم والجدة. الوصفة تتحول بمرور الزمن إلى وصفة أخرى تعمدت باسم البلد المضيف، كالكيبي البرازيلية التي وجدت بوحي من المهاجرين السوريين واللبنانيين الأوائل في مطلع القرن الماضي، وكانت محاولة منهم آنذاك لمحاكاة الكبة في الوطن بما توفر من مواد، غير أنها اليوم لا تشبه كبتنا في شيء على الرغم من كونها طبقاً لذيذاً مازال طعم البرغل والنعناع فيه يشي بمنبته الأصيل. أراقب من بقي في الوطن، محاولاً تدبر الأمور بالقليل المتاح ضمن ظروف الحصار والحرب والتدهور الاقتصادي والكساد والبطالة، فلا أطباق الوطن تشبه ما عرفناه في ماضينا ولا وصفات الغربة.
من يلبس المريول؟
تغيرت الأدوار الجندرية أيضا ولكن لم تتبدل كلياً، ويمكن أن نستشف هذا التغيير من خلال تعليقات الشبان ومنشوراتهم حول أطباقهم.
ساهم الاغتراب في خروج الرجل عن دوره التقليدي ودلال والدته المفرط له، وجعله يطبخ بشكل جدي، بدءاً بالأطباق البسيطة وانتهاءاً بأكثرها تعقيداً وتقليدية، وتتزايد هذه الظاهرة في المدن التي يكون فيها الطعام الجاهز غاليًا أو التي تخلو من المطاعم العربية.
لا شك أن القدرة على إطعام النفس هي أولى درجات الاستقلالية والمسؤولية، إلا أن مسؤولية إطعام الأسرة بشكل يومي ما تزال ملقاة على عاتق المرأة؛ فالرجل يطبخ كهواية وليس لأن ذلك دور يومي يمارسه مناصفة مع المرأة تجاه باقي أعباء المنزل.
وأدت صعوبة الحياة في دول الاغتراب إلى تجاوز الأفراد للتوقعات الجندرية عمن يعمل في المطبخ بشكل أسرع مما لو كانوا في الوطن، على ما أعتقد، ربما لأن وجود الإنسان في مجتمع مغلق يكرس الأنماط التقليدية، أما اليوم فيتقاسم كثير من الأزواج المسؤوليات بحرية أكبر مما لو كانوا لا يزالون تحت أنظار مجتمعهم المتربصة وبالأخص جيل الشباب.
لكن في الوقت ذاته يمكن أن يؤدي فهم “سطحي” للنسوية إلى ابتعاد المرأة عن المطبخ تحديا للمجتمع لكون الطبخ أبرز الأدوار النمطية الموكلة للمرأة. ولكن يمكن للمرأة إن ابتعدت عن المجتمع الذي يحكم ويقيم، أن تجد التوازن بين دورها الجندري المفروض عليها وبين حبها للطبخ ورغبتها بتطوير مهاراة خاصة في هذا المجال والتعبير عن نفسها من خلاله.
قبول الطبق الآخر
أحاول من خلال صفحة “مطبخ غربة” أن أساعد في بناء ثقافة الحوار وقبول الاختلاف وإيجاد أرضية مشتركة قد ينطلق منها المشاركون لاحقا لنقاش قضايا أعمق قد تكون إشكالية اليوم؛ لذا يقوم “مطبخ غربة” بتعزيز أوجه التعبير الديمقراطي عن طريق الانتخابات (ملك المطبخ) والتصويت والاستفتاء حول قضايا مطبخية وطرق إعداد أطباق ومواضيع للنقاش ونشر ثقافة احترام الرأي المختلف حتى لو بدءا من طبخة.
ما يثير الانتباه في المجموعة حرص الأعضاء على الحفاظ على جو إيجابي في الحوار وإشاعة روح الدعابة والمرح بينهم.
كما يسعى مطبخ غربة إلى التعريف بالمبادرات التي تنشأ في بلدان اللجوء لاحتراف الطبخ ودعمها وتمكين اللاجئين والمهاجرين من إيجاد مصادر للدخل عن طريق إعداد وتقديم وتصنيع الأطعمة.
يتعنت البعض أحياناً في قبول التغيير، يصرون على إعداد الأطباق بحرفيتها، وينظرون بنوع من التكفير إلى أي مساهمات تهدف إلى تغيير شكل الطبق أو أحد مكوناته بحجة حفظ التراث. وهناك من يقدم الأطباق السورية بنفس البلد المضيف وبمكوناته معلناً فتحاً جديداً ووصفة تلقى إعجاب السوريين وغيرهم على السواء.
ما أحرصُ على ألا يتغير، هو علاقة المشاركين بهذه المساحة للتعبير والحرية، لسرد الذكريات والقصص التي تتمحور حول موسم المونة أو عيد ما أو تقليد يرافقه نوع معين من الأطعمة. تلك القصص فيها شفاء ومصالحة مع الماضي وما تركناه خلفنا، تُصالحنا معه ومع بعضنا وتجعلنا نكتشف الآخر الذي لم نعرفه وجارنا الذي لم ندخل مطبخه. مطبخ الغربة يصل موائد السوريين ببعضها أملاً بأن تصبح مائدة واحدة تضم الجميع.
[ad_2]
Source link