زيارة إلى مهد “الاستشفاء بالطبيعة” في العصر الحديث
[ad_1]
لدى توجهي إلى منتجع بليد الواقع في قلب بحيرة تحمل الاسم نفسه وتمضي بين التلال في شمال غرب سلوفينيا، سرت على الدرب ذاته الذي قطعه قديما السائحون، الذين تدفقوا على هذه المنطقة من مختلف أنحاء أوروبا قبل 150 عاما، بفضل جهود خبير سويسري في ما يُعرف بـ “المداواة الطبيعية”، و”العلاج بالماء” يُدعى آرنولد ريكلي.
وريكلي هو مؤسس هذا النوع من أنواع الطب البديل، الذي يتجنب ممارسوه اللجوء إلى الأدوية لمعالجة الأمراض، ويستعينون بدلا من ذلك بعناصر الطبيعة الأربعة: الشمس والماء والهواء والأرض.
وفي الفترة ما بين عام 1855 والعقد الأول من القرن الحالي، تدفق آلاف من الأوروبيين الأثرياء على مؤسسة المداواة بالطبيعة، القائمة على ضفاف البحيرة الموجودة هنا، ما حوّل بليد من مجرد بلدة صغيرة في الإمبراطورية النمساوية، إلى مقصد صحي رئيسي، وهو ما ساعد عليه كذلك مد خط للسكك الحديدية، في هذه المنطقة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر.
ويقول فويكو زافودنيك، الذي ألف كتابا عن حياة ريكلي، إن هذا الرجل لم يكن رائدا فقط في مجال “الاستشفاء بالطبيعة”، وإنما بدأ كذلك في تأسيس وتنظيم منتجع صحي وأنشطة متعلقة بالسياحة الصحية في بليد، ما جعله “رجل تسويق بكل معنى الكلمة”.
وتمثلت مهمة ريكلي في أن يساعد قاطني المناطق الحضرية، الذين يعانون من تأثيرات التلوث والضغوط اليومية الناجمة عن الإقامة في مدن تصطبغ بالطابع الصناعي بشكل متسارع، على أن ينعموا بـ “صحة جيدة وطبيعية كذلك”.
- مهرجان فريد من نوعه للناجين من الموت بأعجوبة في إسبانيا
- لماذا تحث الشركات في اليابان موظفيها على القيلولة خلال العمل؟
وبرغم أن وسائل الإعلام حفرت في وجداننا الجمعي، صورة الأوروبيين الأثرياء، على أنهم يؤثرون الإقامة في منازل ريفية فارهة، فإن هؤلاء كانوا يسافرون في الواقع إلى بليد من مناطق قصية، سعيا لنمط حياة يبدو بسيطا ومتقشفا. فلماذا؟
يتمثل السبب بحسب أكاديميين سلوفينيين، في مزيج من عوامل مختلفة من بينها الطقس الذي تنعم به هذه المنطقة، والدروب الصالحة للمشي حول الجبال الموجودة هناك، والمشاهد البانورامية الخلابة التي يطالعها المرء في ذلك المكان، بجانب أساليب ريكلي في “المداواة الطبيعية” بطبيعة الحال.
ويقول هؤلاء الأكاديميون إن هذا الرجل أثبت أنه من الممكن علاج الناس من الأمراض، باستخدام “العلاج بالماء والشمس وعناصر المناخ الأخرى، مع القيام بالحد الأدنى من الأنشطة البدنية، وتغيير نظام التغذية”. بعبارة أخرى، من خلال تطبيق أساليب علاجية، تشمل استخدام الماء البارد والدافئ، وأشعة الشمس وعناصر المناخ (والتي يُفضل أن تتمثل في هواء الجبال) وذلك من أجل أغراض الوقاية والعلاج.
ويبدو الشعار الذي رفعه ريكلي – وتضمن الحديث عن ثلاثة من عناصر الطبيعة – بسيطا إذ يقول: “الماء جيد والهواء أفضل منه، لكن لا شيء يُقارن بالضوء”.
فقد وفر لمرتادي مؤسسته في بليد فرصة الإقامة في أكواخ عامرة بالهواء والضوء؛ تتألف من جدران خشبية من ثلاث جهات، بالإضافة إلى ستارة تغطي الجهة الرابعة، التي تتمثل في الجانب المواجه للبحيرة، حتى يتسنى لقاطنيها الاستمتاع بالمشهد الطبيعي. كما كان يقدم لهؤلاء طعاما نباتيا بسيطا، يتكون – مثلا – من خبز الجاودار والحليب والفواكه والبقوليات، لإزالة السموم وتنظيم تدفق الدم.
وكان التدخين واحتساء المشروبات الكحولية من المحظورات، ولم يكن القائمون على المكان يترددون في طرد أي شخص يخالف هذه القواعد.
في تلك الآونة، كان النظام العلاجي يبدأ منذ الفجر وحتى ساعات المساء. إذ كان الرجال يرتدون قمصانا قطنية وسراويل قصيرة من القطن أيضا، بينما ترتدي النساء فساتين بلا أكمام تصل إلى الركبة. وينخرط الجميع – رجالا ونساءً – في المشي حفاة الأقدام في مختلف أنحاء بليد.
وكانت مدة هذه الجولات وطولها ومدى انحدار المناطق التي تشملها؛ تتحدد بحسب جنس المشاركين فيها وحالتهم الصحية. فالجولات القصيرة على طول المروج الخضراء كانت تستمر 30 دقيقة، أما تلك الأطول منها، فقد كانت تصل إلى أربع ساعات كاملة.
وبعد تناول وجبة إفطار قصيرة في الهواء الطلق، كان المرضى يشرعون في تلقي “العلاج بالمناخ” الذي يتضمن ممارسة رياضة الجمباز وغير ذلك من الرياضات والتمارين البدنية في الهواء المنعش، الذي تتميز به منطقة الألب.
كما كانوا يحظون كذلك بـ “علاج شمسي”، وهو عبارة عن حمامات شمسية ينعم بها المريض، وهو مستلق شبه عار على منصة خشبية حول البحيرة. الأمر يشمل أيضا “العلاج المائي”، المتمثل في سلسلة من الحمامات، التي يُستخدم فيها البخار والماء البارد والدافئ، لتنقية الجسم من السموم عبر تحسين الدورة الدموية.
ولم يكن نيل قسط من الراحة، يقل أهمية عن كل ما سبق، فقد أُوصي المرضى، بأن يخلدوا للنوم ثماني ساعات في كل ليلة. وقبل النوم، كانت الأمسيات تحفل بالأنشطة الاجتماعية، التي تراوحت بين ركوب الدراجات أو قوارب تقليدية في البحيرة، ولعب التنس، أو الاستماع إلى الموسيقى.
بطبيعة الحال كان لكل ذلك ثمن. فوفقا لزافودنيك، كان غالبية المرضى يقضون شهرا على الأقل في هذا المكان، بمقابل مبدئي يتراوح بين 12 و15 جنيها إسترلينيا، وهو مبلغ كان يزيد سنويا.
وشكّل ذلك مقابلا كبيرا نسبيا، بالنظر إلى أن متوسط الأجر السنوي للعامل في إنجلترا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، لم يكن يتجاوز ما يتراوح بين 20 و30 جنيها إسترلينيا.
وقال زافودنيك إن ريكلي كان يوفر بشكل ما خدمة “التخييم الفاخر”، الذي بات يمثل “صيحة رائجة” في الوقت الحاضر. وأشار إلى أن بعض الإفادات التي تعود إلى تلك الحقبة، تُظهر أن هناك من كانوا على استعداد لأن يدفعوا مقابل هذه الخدمة “ذهبا”.
وقد استقى آرنولد ريكلي بعض أساليبه من راهب بافاري يُعرف على نطاق واسع، على أنه أحد الآباء المؤسسين لمدرسة “المداواة بالطبيعة”، وكذلك من رجل ألماني كان مهتما بفكرة “العلاج بالماء”.
ورغم أن ريكلي استلهم أساليب العلاج بالطبيعة هذه، من أنواع الطب البديل التي ازدهرت في البلدان الناطقة بالألمانية في القرن التاسع عشر، فإنه كان قادرا على الترويج لتلك الأساليب وجعلها شائعة إلى حد كبير، عبر طرق تفرد هو بها.
فعندما كان ريكلي شابا، لم يكن العلاج بالطبيعة أو بالماء شائعا. وقد تعرف على ذلك النوع الأخير، وهو في التاسعة عشرة من العمر، عندما قرأ خلال جولة في مناطق بجنوب أوروبا، كتابا حول هذا الموضوع في مكتبة عمه في سلوفينيا.
وعندما أصابه المرض بُعيد ذلك، بدأ في تجربة أساليب العلاج، التي قرأ عنها، على نفسه. وتمثل ذلك في القيام بجولات سير طويلة تحت أشعة الشمس، والاستحمام بالماء الساخن والدافئ، وتناول أطعمة نباتية.
وخلال أربعينيات القرن التاسع عشر، وفي مصبغة أنشأها في ألمانيا، وصف ريكلي لعماله مثل هذه الأساليب “العلاجية”، نظرا لأنهم كانوا يصابون بالمرض كثيرا بسبب المواد الكيمياوية التي يستخدمونها في عملهم. وقتذاك، بدأت تلك الأساليب تُكلل بالنجاح، وذاعت شهرة “الطبيب الخبير في العلاج بأساليب طبيعية”.
وبحلول منتصف العقد التالي، توقف ريكلي عن العمل في الصباغة، وانتقل للعيش في بليد، التي وجد أنها موقع مثالي لتطبيق أساليب “المداواة بالطبيعة”، نظرا لأنها كانت بقعة بكرا نسبيا، تضم كذلك الكثير من الدروب وطرق السير متفاوتة الوعورة، التي تناسب المرضى على اختلاف قدراتهم وحالاتهم الصحية.
في البداية، لم يحظ ريكلي بثقة سكان المنطقة، ممن اعتبروا أن أساليبه العلاجية تمثل تحديا لعاداتهم وقيمهم. فمرضاه – مثلا – كانوا يرتدون ملابس كاشفة، بشكل يتناقض كثيرا مع نمط الملبس الذي كان سائدا في ذلك الوقت. بجانب ذلك، كانت النسوة يسرن بحرية في أرجاء الطبيعة. والكل – سواء من هذا الجنس أو ذاك – يستحمون لعدد مرات يزيد كثيرا عما كان معتادا آنذاك.
لكن الكثيرين ساروا في ما بعد على درب ريكلي، بعد أن رأوا الأرباح التي حققها، من وراء الانتفاع بالمقومات الطبيعية لمنطقتهم. ولذا، عرض أصحاب النُزُل في البلدة أكواخ “الهواء والضوء” الخاصة بهم بأسعار أقل لطالبيها.
وبينما اعتبر الكثير من الأطباء ريكلي دجالا، كان لمرضاه رؤية مغايرة تماما، ولم يكفوا عن التردد عليه. وأشار باحثون إلى أن هذا الرجل كان يدعي أن الأساليب التي يتبعها، تكفل الشفاء من الكثير من الأعراض المرضية، ومن بينها فقر الدم، والصداع النصفي والاضطرابات العصبية والهيستيريا واختلال الحيض لدى النساء، والتهابات الرحم، والبواسير بل والشلل كذلك. وكانت الفكرة لديه تتمثل في علاج الجسد والعقل كوحدة واحدة.
في نهاية المطاف، ذاعت شهرة “الأساليب العلاجية” التي ابتكرها ريكلي، وانتشرت في مختلف أنحاء العالم. وفي ذروة مسيرته المهنية، كانت لديه مراكز استشفاء في بليد، ومدن ترييستي وميرانو وفلورنسا في إيطاليا.
وأفاد كتاب يتناول أساليب المداواة بالطبيعة في الهند، بأن المهاتما غاندي – الذي روج لهذه الأساليب وجربها بنفسه طيلة حياته – كان من بين الأتباع الذين ظهروا في القرن العشرين لأفكار ريكلي.
أما في أوروبا، فقد بدا تأثير هذه الأساليب والأفكار واضحا، من خلال ظهور حركة “ليبينز فورم” (إصلاح الحياة) التي نشأت في القرن الماضي، وركزت على أنماط حياة، تقوم على العودة إلى الطبيعة، من خلال تناول طعام نيء وعضوي، والتجرد من الملابس، واتباع أساليب الطب البديل.
لكن إرث ريكلي تلاشى تقريبا بعد وفاته عام 1906. فبالرغم من أن أحد أبنائه حل محله، فإن ازدهار السياحة القائمة على الطب البديل في سلوفينيا، خبا بسبب الحرب وعدم اهتمام الزوار والمسافرين باللجوء إليه.
غير أن اللافت أن الفلسفة التي ابتدعها ريكلي، تعود إلى الذيوع والانتشار في الوقت الراهن. ففي القرن الذي مضى منذ وفاته، عادت الأماكن التي تقدم خدمات المداواة بالطبيعة، إلى اكتساب الشعبية، وزاد عددها أضعافا مضاعفة.
وبوجه عام، يشكل العلاج بأساليب الطب البديل، قطاعا اقتصاديا كبيرا، ينمو سنة بعد أخرى، ويُتوقع – بحسب إحدى الشركات المتخصصة في أبحاث السوق – أن يدر هذا القطاع عائدا يصل إلى 210.81 مليار دولار أمريكي في مختلف أنحاء العالم بحلول عام 2026.
وبرأي باحثين في تاريخ الطب، كانت الأفكار التي يتبناها ريكلي ثورية في زمنه، مع أن الأمر يبدو الآن منطقيا “في ضوء أنه صار لدينا أدلة علمية” تعزز صحة الأساليب التي ابتكرها.
وأوضح الباحثون أن الدراسات تُظهر الآن أن أشعة الشمس تلعب دورا حاسما في إنتاج فيتامين “دي” وهرمون الميلاتونين، الذي ينظم دورة النوم لدى الإنسان، ما يجعل بوسعه أن ينعم بنمط النوم المنتظم الضروري ليحظى بصحة جيدة.
من جهة أخرى، من شأن الانخراط في نشاط بدني والتمتع بالوجود وسط الطبيعة، أن ينتج الجسم ناقلا عصبيا يحمل اسم “السيروتونين”، يُنظم الحالة المزاجية للإنسان، ما يُشعره بالراحة النفسية.
أما بليد نفسها، فتواصل منذ سنوات استعادة إرثها المتمثل في أنها كانت مركزا لأساليب المداواة بالطبيعة، إذ تصف نفسها بأنها مقصد ثقافي وتراثي يقبع في بيئة طبيعية مذهلة وخلابة، ويقدم خدماته لمن يبحثون عن ملاذ من حياتهم الحافلة بالضغوط والتوترات.
وفي العام الماضي، بدأ أحد الفنادق هناك في تقديم خدمات مستوحاة من نمط الحياة الذي كان يروج له ريكلي. كما تقول مصادر محلية إن بعض المنتجعات الصحية الموجودة في المنطقة، أضافت إلى قوائم خدماتها، مكونات مرتبطة بالأساليب العلاجية الخاصة بذلك الرجل.
وتكريما لريكلي، ثمة جولات سير تُنظم سنويا في بليد منذ 21 عاما تحت اسم “ريكلي ووكس”، كما أنه يُؤمل في أن يتم ترميم منزله – غير المسقوف – قبل حلول الذكرى المئتين لمولده في عام 2023. فضلا عن هذا وذاك، هناك نصب تذكاري للرجل، يتضمن نحتا لوجهه من الجانب على عمود جرانيتي، وذلك في إقرار بسيط بالتأثير الذي خلّفه على أنماط الحياة الحديثة.
وهكذا فبينما كنت أقف على أحد تلال المنطقة لا يتناهى إلى سمعي سوى حفيف أوراق الأشجار، وتغمرني أشعة الشمس الصباحية، ويُبرِّد النسيم العليل جسدي المفعم بالنشاط والحماسة بعد 45 دقيقة من السير المضني، راودني شعور بالهدوء والسكون، وأنا أرقب التباين بين اللون الأخضر للمروج المورقة والغابات الألبية، مع لون مياه بحيرة بليد الزرقاء، واللون البرتقالي الذي تصطبغ به السماء.
وعندما عدت إلى السفح، رأيت أشخاصا يرتدون زي السباحة، يضعون أقدامهم في مياه البحيرة، وقد تركت الشمس بصماتها على أجسادهم، وهم لا يدركون على الأرجح، المسيرة الطويلة التي قطعتَها، حتى يتسنى ليّ أن أقدّر بشكل كامل فوائد تلك المباهج التي توفرها لنا الطبيعة.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel
[ad_2]
Source link