أخبار عاجلةمقالات

ضبط الانفعالات وقت الأزمات: نحو استدامة الصحة النفسية … بقلم الدكتورة ابتسام عباس النومس

إيسايكو: ضبط الانفعالات وقت الأزمات: نحو استدامة الصحة النفسية … بقلم الدكتورة ابتسام عباس النومس

في خضم الأزمات وتفاقم الضغوط النفسية، تبرز الحاجة المُلِحّة إلى ضبط الانفعالات بوصفه مهارة حياتية أساسية، لا ترفًا سلوكيًا. فإدارة المشاعر تحت الضغط تُمثل صمام أمان يحمي التوازن الداخلي، ويُسهم في تعزيز التواصل الفعّال، وصيانة الكرامة الإنسانية، واستدامة الصحة النفسية على المستويين الفردي والمجتمعي.

أولًا: ضبط الانفعالات في ضوء علم النفس الحديث

يُعرّف ضبط الانفعالات بأنه القدرة على تنظيم المشاعر والتحكم في استجاباتنا الانفعالية تجاه المثيرات، بحيث لا تطغى على السلوك أو تُشوّش القرارات. وقد أكدت أبحاث Gross & Thompson (2007) أن الأفراد ذوي الكفاءة العالية في التنظيم الانفعالي يتمتعون بصحة نفسية أفضل ورضا أعلى عن حياتهم، لا سيما في البيئات التي تتسم بعدم الاستقرار.

وفقًا لنظرية المعالجة المعرفية، يبدأ التعامل مع الأزمة من خلال تقييم ذاتي للموقف، يليه اتخاذ استجابة إمّا انفعالية عشوائية أو عقلانية متزنة. وهنا يبرز دور الوعي الذاتي والتنشئة النفسية المبكرة كعوامل حاسمة في تعزيز القدرة على التماسك النفسي.

ثانيًا: السلوك الإيجابي كاستجابة استراتيجية

السلوك الإيجابي لا يُعبّر عن إنكار الواقع أو التغاضي عن الألم، بل هو توجه واعٍ نحو التكيف والمواجهة المرنة. وقد أشار مارتن سليجمان، مؤسس علم النفس الإيجابي، إلى أن التفاؤل ليس إنكارًا للمشاكل، بل هو إيمان بالقدرة على تخطيها والتعلم منها.

وقد بينت دراسة لجامعة هارفارد (2019) أن الأفراد الذين يتبنون أنماط تفكير إيجابية خلال الأزمات يتمتعون بمناعة نفسية أعلى، وقدرة أكبر على تقديم الدعم للآخرين، وتحقيق تواصل فعّال.

ثالثًا: التفكير المتزن… حصن ضد الانهيار

يتأسس التفكير المتزن في الأزمات على ثلاث ركائز رئيسية:
1. إعادة التقييم المعرفي (Cognitive Reappraisal): عبر إعادة تفسير الحدث من منظور أقل تهديدًا.
2. مقاومة التهويل والتفكير الكارثي: لما له من دور في تصعيد القلق وتعطيل المنطق.
3. التحليل المنطقي: لتفسير المواقف استنادًا إلى معطيات واقعية وليس انفعالات آنية.

وقد أظهرت دراسة منشورة في Journal of Traumatic Stress (2021) أن التفكير المتزن يُعدّ عامل حماية حاسم ضد اضطرابات ما بعد الصدمة، ويُسهم في تحسين الأداء الأسري والمؤسسي في حالات الطوارئ.

رابعًا: الاتصال الفعّال في بيئات الأزمات

يتحوّل الاتصال أثناء الأزمات من مجرّد أداة لنقل المعلومات إلى وسيلة لتحقيق الاستقرار النفسي والطمأنينة. ويؤكد Heath & O’Hair (2009) على أن الاتصال الفعّال في مثل هذه السياقات يجب أن يتسم بالوضوح، والشفافية، والسرعة.

أما على المستوى الشخصي، فالاتصال البنّاء يتطلب:
• الإصغاء العميق للآخر.
• انتقاء العبارات بعناية.
• التحكم في نبرة الصوت.

وهي مهارات تُسهم في الحد من التصعيد الانفعالي وخلق بيئة داعمة نفسيًا.

خامسًا: نحو استدامة نفسية مجتمعية

تحقيق الاستدامة النفسية على مستوى المجتمع يتطلب تفعيل أطر مؤسسية ومبادرات شعبية هادفة، من أبرزها:
• دمج الذكاء العاطفي في المناهج الدراسية.
• تأسيس برامج للدعم النفسي الوقائي، خاصة للفئات الأكثر عرضة للخطر.
• تمكين الإعلام من أداء دوره التوعوي بعيدًا عن الإثارة أو التهويل.
• تعزيز ثقافة الانضباط الانفعالي، باعتبارها قيمة جماعية لا مجرد سلوك فردي.

وقد مثلت مبادرات مثل الإسعاف النفسي الأولي، التي نفذتها منظمة الصليب الأحمر، نموذجًا فعّالًا لبناء مجتمعات قادرة على الصمود النفسي أثناء الأزمات والنزاعات.

سادسًا: استراتيجيات عملية لضبط الانفعالات

توصي الأدبيات النفسية بتطبيق عدد من الممارسات اليومية التي تُسهم في تعزيز التنظيم الانفعالي، من أبرزها:
1. الوعي الانفعالي اللحظي باستخدام تقنية “توقّف – سمِّ – تنفّس”.
2. تمارين الاسترخاء والتنفس العميق لتخفيف التوتر الفسيولوجي.
3. الحوار الداخلي الإيجابي الذي يُعيد ضبط الأفكار السلبية.
4. الاستفادة من الدعم الاجتماعي كشبكة أمان نفسية.
5. الامتناع عن تداول الشائعات لحماية الوعي الجمعي من التضليل والانجرار وراء القلق الجماعي.

دعوة للتفكير والتركيز إن الانفعال المنضبط… لبنة الاستدامة النفسية

كما قال الطبيب والفيلسوف فيكتور فرانكل:
“بين التحفيز والاستجابة توجد مساحة… في تلك المساحة تكمن حريتنا وقدرتنا على الاختيار.”

تلك المساحة هي جوهر الانضباط الانفعالي، وهي التي تحدد ما إذا كنا سننهار تحت الضغط أو نصمد بحكمة وهدوء. فليست الأزمات بحد ذاتها هي الخطر، بل طريقة تعاملنا معها.

وكما لخّص نيلسون مانديلا هذه الفلسفة بقوله:
“لا يمكننا التحكم في الرياح، لكن يمكننا تعديل أشرعتنا.”

فلنُعلِّم أبناءنا وندرب مؤسساتنا على الانضباط النفسي بوصفه فنًّا إنسانيًا ومهارة وجودية تعزز قدرة المجتمع على البقاء، التكيف، والنهوض.

الدكتورة ابتسام النومس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى