التاريخ النفسي (3) هكذا تفعل الدنيا بأهلها … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
إيسايكو: التاريخ النفسي (3) هكذا تفعل الدنيا بأهلها … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
تاريخ النشر: 14 أبريل 2022م
لم تستقم الدنيا لأحد، ولن تستقيم، ذلك تقدير العزيز الحكيم، فمن بات غنيا أصبح فقيرا، وغيره اغتنى! ومن بات سليما أصبح عليلا، وغيرهاشتفى، ومن بات عزيزا أصبح مستضعفا، وغيره اعتز، وتلك الأيام يصرفها الله بين الناس لحكمة ربانية، والعاقبة للمتقين.
وهكذا تفعل الدنيا بأهلها، فعندما سقطت الدولة الأموية الأولى في بلاد الشام قامت الدولة الأموية الثانية في بلاد الأندلس، وعندمااستضعف بني العباس قرابتهم، وسلبوهم الخلافة الإسلامية، وسلبوهم الاستقرار في بلادهم، وفرّقوا شملهم، وقتّلوهم .. مما دفعتهم تلكالأحداث نحو الشتات، ثم الاستقرار في بلاد الغربة! وقد استبدل الله من بعد ضعفهم قوة، ومن بعد خوفهم أمنا، مع الحنين الشديد إلىالعودة إلى دياريهم، والاجتماع بقرابتهم!
وتتلخص تلك الأحداث المضطربة والمشاعر الصادقة بقصيدة الأمير عبدالرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية الثانية الذي كان كثيرا ما يحنويشتاق إلى بلاده ومسقط رأسه دمشق! وهو القائل:
قد قضى الله بالفراق علينا
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
المسجد الأموي في دمشق
يُعدّ عبدالرحمن الداخل هو المؤسس الأول للدولة الأموية في أوروبا، فبعدما كان مصيره مجهولا، أصبحت خلافته يقينا، وقد بدأت معه رحلةالمجهول نتيجة لسقوط الدولة الأموية في دمشق عام 132 من الهجرة، واضطراره للهروب خوفا من بطش (السفّاح) أول خليفة عبّاسي،ووصوله إلى بلاد الأندلس عبر المغرب العربي في رحلة استغرقت 6 سنوات من الألم والأمل، ومن ثم اجتهاده باتخاذ القرار منفردا بتأسيسالدولة الأموية في أوروبا الإسلامية عام 138 من الهجرة، وقد دام حُكمه 33 عاما من عمر الدولة التي استمرّت نحو ثلاثة قرون لتسقط أخيرافي عهد آخر خلفاء بني أمية الأمير محمد المستكفي بالله الحفيد التاسع للأمير عبدالرحمن الداخل الأول، الذي فرّ هاربا مع حرسه الخاص بزي امرأة لضمان سلامته من بني حمود أمراء مالقة أحفاد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب الذين نازعوه الخلافة القرشية في أوروباالإسلامية! وإن كان المستكفي قد سلم من خصومه بشكل مذل! إلا أنه لم يسلم من غدر حرسه الخاص الذين اغتالوه وحيدا طريدا ضعيفا! وبسقوطه قد انتهت الخلافة الإسلامية في أوروبا، وقامت على أعقابها الممالك المترفة الغارقة بالملذات والشهوات، والفاقدة للاستقرارالسياسي، فكان أول نذير لسقوط ملوك الطوائف هو تناحرهم واستنجادهم بخصومهم النصارى ضد إخوانهم المسلمين!
جزء من قاعة احتفالية في مدينة الزهراء بنيت في عهد عبد الرحمن الناصر لدين الله
بعد سقوط الخلافة الأموية قام أمراء الأندلس بتأسيس كيانات سياسية منفصلة! ومنها اشبيلية التي أقامها أسرة بني عباد، وكانت نهايتها في عهد زعيمها ومليكها وأميرها الأوحد .. المعتمد بن عباد، صاحب الأمر والنهي في مملكته الجميلة التي لا زالت آثارها شامخة ليومنا هذا(من أشهرها قصر المبارك)، فقد عاش حياة مترفة هانئة لم تثنه عن مبادئه وقيمه عندما اجتمع ملوك الطوائف بالعلماء للتباحث حول قدرتهمعلى مواجهة العدو! وقد انقسموا إلى فريقين! أولهما الأمراء المعارضين لفكرة المواجهة العسكرية لعدم استطاعتهم ذلك! وخوفهم من سيطرةدولة المرابطين في المغرب على بلاد الأندلس! وثانيهما العلماء الذين أيدوا فكرة الاستعانة بدولة المرابطين لمواجهة العدو القشتالي، وترسيخقواعد إماراتهم وكياناتهم، وحينها انفرد المعتمد بن عباد بخطبة تاريخية قال في آخرها: (والله لا يُسمَعُ عني أبدا أنني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم عليّ اللعنة في منابر الإسلام مثلما قامت على غيري، تالله؛ إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعا لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، والله لأن أرعى الإبل في المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا).
فاطمئن الجميع لرأيه بالاستعانة بأمير المرابطين يوسف بن تاشفين ضد ألفونسو ملك قشتالة، وحينما اجتمعوا على قلب رجل واحد .. كان نصر الله حليفهم، وقد حلّ يوسف بن تاشفين قبل عودته للمغرب ضيف على المعتمد في إشبيلية الأندلس، ورأى فيها ما لم يره في حياته! فاحتقر مُلكه في المغرب أمام مُلك المعتمد في اشبيلية، ولعلّ ذلك كان دافعا معززا لغزو إشبيلية والقضاء التام على حكم بني عباد، لتبدأ بعدذلك دولة المرابطين في الأندلس، وهذا الذي كان يخشاه أمراء الطوائف! وإن كان يوسف بن تاشفين لم يوفق في معالجته للأحداث! إلا أنه يحسب له إنقاذ ممالك المسلمين من السقوط بسبب ضعف وتناحر ملوكها، كما يحسب له أنه استدفع الضرائب بما أوجبه الله تعالى من الزكاة والعشر والجزية والخُمس.
قصر المبارك في إشبيلية (بني عباد)
ومن هنا بدأت دولة المرابطين بالتوسع في بلاد الأندلس عندما أرسل الأمير يوسف بن تاشفين جيشه لغزو اشبيلية واعتقال أميرها المعتمد،واحتجازه أسيرا في منطقة أغمات القريبة من مراكش المغرب، ليعيش المعتمد انكساره في المنفى، ويرى بأم عينيه بناته المدللات يمشين حافيات الأقدام يحملن غزلهن لبيعه في الأسواق في أول أيام العيد! فبعدما كان العيد فرحا وسرورا على المعتمد! أصبح الآن همّا وغمّا عليه! وإن سلبوا المعتمد سلطته ومملكته إلا أنهم لم يسلبوه مبادئه وقيمه وأدبه وشعره، فالمناصب تزول والعلم يدوم،
فمن ارتكن على المنصب؟ قد زال عند زواله! ومن توكأ على العلم طاب ذكراه حيا و ميتا!
وقد وصف المعتمد أحواله السياسية والمعيشية والنفسية في قصيدة خالدة، قال بها:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا
فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً
يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً
أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ
كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا
لا خَدَّ إِلّا تَشكّى الجَدبَ ظاهِرهُ
وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا
أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ
فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا
قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلاً
فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيّاً وَمأمورا
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ
فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
وفي تلك اللحظات الحزينة جاءته رسالة من ابنته بثينة، التي ورثت الجمال والحلم والأدب ونظم الشعر من والديها، وقد أخبرته بها .. أنه تم اقتيادها أسيرة بعد اقتحام جيش المرابطين لقصر المبارك وسيطرتهم عليه واغتنام جميع ما فيه، وأنها لم تفصح لهم عن صفتها ونسبها! فاعتقدوا أنها من جواري القصر! فباعوها بثمن بخس في سوق النخاسة بالأندلس، واشتراها أحد تجار إشبيلية، فاستحسن الرجل صمتها وجمالها وفطنتها ومعرفتها القراءة والكتابة، واطمئن قلبه لأدبها فوهبها لابنه الشاب! ولكنها امتنعت عنه في ليلة الدخلة! ولم تمكنه من نفسها، وصارحته بأنها الأميرة بثينة بنت المعتمد بن عباد ملك اشبيلية، وأنها لن تقبل به زوجا شرعيا قبل موافقة والدها المعتمد، وهنا تمت مراسلة والدها، ففرح وزوجته اعتماد بسلامة ابنتهما الغالية، وأبلغها بالقبول، وأوصاها بطاعة زوجها، وقد عاش المعتمد في منفاه حتى مماته.
ضريح المعتمد بن عباد وزوجته اعتماد الرميكية وابنهما
هي لحظات صعبة جدا، أشبه ما تكون بالقصص الخيالية التي تحكي عن تقلبات الدنيا في أهلها، وكيف أن الجارية تصبح أميرة! والأمير يصبح أسيراً! فتعود الأميرة جارية! وأن الذي كان يودّك ويزورك في قصرك هو نفسه الذي سيستبيح وطنك وعرضك! ويسجنك حتى الممات من دون شفقة!!
وأن ذلك الحارس البسيط الواقف على بوابة قصر المبارك، يهيم على وجهه بعد سقوط الحكم! فيدفعه إخلاصه للمعتمد، فيخرج متخفيا من إشبيلية الأندلس إلى أغمات المغرب لينفق على بنات المعتمد بما تجود به نفسه مساعدة منه للملك المعتمد بن عباد!! فهل سيغتر الإنسان بعد ذلك بواقعه الذي يعيشه؟ ومن هنا تأتي حاجتنا جميعا لقراءة التاريخ بقصد فهم الماضي واستيعاب الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
الدكتور مرزوق العنزي