التاريخ النفسي (4) أنسنة المجتمع … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
إيسايكو: أنسنة المجتمع … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
من خلال علم التاريخ النفسي الذي يُعدّ مَجالا حديثا لِدراسة جوانب عديدة من حياة الإنسان، ومنها تِلك الشّخصيّة التي لن يَصِل أحد لِمُنتهاها مهما سَبر أغْوَارها، وإن كانت الشّخصيّة سِرّ من أسرار الله سبحانه وتعالى، إلاّ أن ذلك لا يمنع من تناولها امتثالا للكتاب والسنة في طلب العلم والتعلّم، فالله سبحانه وتعالى علّم الإنسان ما لم يعلم، وعليه سأتناول جانب من سماتها وخصائصها بِصُورة مُخْتَصرة منْذ بدْء الخَلِيقة وعملها واختبارها إلى يوم الحساب بِهدف مُعالجة ظاهرة مُجتمعيّة.
الأصل أن فطرة الإنسان سَلِيمة، غير أنّ البعض منهم انحرف عن طريقالسواء، فعندما بدأت البشرية في عهد أبونا آدَم عليه السلام كانت سويّة رضيّة تحبّ الله وتخافه وتخشى عقابه، والخطأ وارد في ذريّة آدم كما أن الاستغفار والتوبة علاج للذنوب والمعاصي، فعندما وسوس الشيطان لأبونا آدَم وأمنا حوَّاء، أخرجهم الله من الجنة، وعندما استغفروا وتابوا، تاب الله عليهم وأكرمهم بأن جعل العالم من ذريتهما كما جعل آدم نبيا رسولا، فاغتاظ الشيطان مرّة أخرى، وبدأ بالتّحريش بينهم، واشتعلت في ذريّة آدم شَرارة العداوة والبغْضاء، فبدأت في قصّة قابيل وهابيل، واستمرّت في البشريّة إلى يومنا هذا، ثم بلغ الشرّ مَبْلَغه، وخلال عشرة قُرُون تقريباً فيما بين عهد أبونا آدم ثم شيث بن آدم ثم إدريس وصولاً إلى عهد أبونا نُوح عليهم السلام، كان هناك صِدق و كَذِب بين النّاس! وخَيْر وشَرّ، وصِراع بين الحقّ والباطِل، وأمر بِمَعروف ونَهْي عن مُنكر كما كان هناك تأييد ونصر وثواب من الله لِعباده المُؤمنين، وعقاب شديد لِمَن أبى واستكبر، وعندما طَغت سلبيّة المجتمع، وتجرّد أهله من إنسانيّتهم، أصبح مُجتمعاً غير صالح لاسْتِخلاف الله الإنسان في الأرض! الذي تنازل عن دوره في عمارة الأرض وإقامة العدل فيها وتهيئتها لعبادة الله وحده لاشريك له، وعليه نزل العقاب الجماعي و نجّا الله تعالى آدم الثاني أبو البشر سيدنا نوح ومعه الصالحين من ذريته، فأكرم الله البشرية بفرصة جديدة يتقربون بها إلى الله تعالى، في مُجتمع يحترم الإنسان قبل كلّ شيء، في مُجتمع مُسالم مُتسامح ومُتوافق مع فطرة الإنسان السّليمة، مُسلماً لله سبحانه وتعالى، لِتبدأ البشريّة مرّة أخرى بِنواتها وفطرتها السّليمة في أبونا نوح عليه السلام وذريّته من سام وحام ويافث، وهي فرصة ثمينة للصلاح والإصلاح ونشر العدل والمحبّة والسلام في العالم الجديد، ولكن كيف ذلك؟ ولا زال العدوّ حيّاً! فَكَما أغْوَى الشيطان يام بن نوح في عصيانه لله ومُجادلة والده واعتماده على عقله وتقديره الخاطئ لِلأمر المبني على قياسات دنيويّة مثل الصّعود إلى أعلى الجبل لِيَحمي نفسه من الغَرَق! وإن كان ذلك صحيح ومنطقي، إلا أنّ الأصح منه ذلك الأمر الربّاني المُتمثّل في بِناء سفينة خشبيّة في عُمق الصحراء! ولكن… لم يردع يام ذلك المشهد الاسْتثنائي لِنهاية الظّالمين، فقد استغلَّ الشيطان تلك الأنفس البشرية الأمارة بالسوء لِمحاربة الله ورسوله، فهو يؤزّهم أزّا لنشر الإلحاد من خلال الفلسفة والمنطق! ونشر الفساد من خلال وجهات النظر المبنيّة على قياسات دنيويّة! وتحقيق مآربه وأهدافه التي أقسم بالله لَيُحقّقها! لِيَصدّ النّاس عن الحق، ويأمرهم بِتغيير دِين الله واسْتحلال المعاصي وتأخير التّوبة وتسويفها بعد ارتكاب المعصية، والمُجاهرة بِالمعاصي بعد أن سَتَرها الله عليهم، فَتَكاثر أهل الشرّ قُبحا وعُدوانا، وطَغَت فِئة المُجرِمين على فئة المُؤمنين، فَبَلغ الفساد مَبْلَغه، وأصبح هناك ناجٍ واحد مِن كلّ ألف هالك! فَظَلَم أكثر النّاس أنفسهم! بل أصبحوا منابر شيطانيّة يهْدُون النّاس للضّلال!!
وهكذا حال الدّنيا، فهي دار عمل واختبار، دار تَعَب ومشقّة، وأيضا دار فتنة، ولن يترك الله الناس الذين صدحوا بإيمانهم هكذا بِغير ابتلاء يُمحّص بِه قلوبهم ليُزكّيهم ويُطهّرهم من الذّنوب ثمّ يعوّضهم الجنّة جزاء صبرهم لِلابتلاء واحتسابهم الأجر من الله.
هذه مُقدّمة تاريخيّة نابعة من الكتاب والسنة ارتأيت الدخول من خلالها لِموضوع أهل المعروف، وكيف يصنع الإنسان الخير ويسديه لِلآخرين، فيجتهد في قضاء حوائجهم وخدمتهم وتقدير ظروفهم ومتابعة أحوالهم، رغبة فيما عند الله، والأصل في النّاس أنهم يُحبّون الذي يُساعدهم ويقدّم لهم الخدمات، إلاّ أنّ بعضهم يحاول إخفاء مافي قلبه من مشاعر الشُّكر والتقدير لِصاحب المعروف حَسَدا لِيُقَابلوا المُحسن بعد التمكّن من قضاء حوائجهم بِالجحود والنُّكْران! وفي بعض الأحيان تصل بهم الحالة للانتقام من صاحب المعروف! مِمَّا تسبّب ذلك بِطُغيان الجاحد وتوتّر المُحسن الذي بَدَأ التّفكير جديَّا بِالتوقّف عن خدمة ومُساعدة الآخَرين! وتلك مرحلة حرجة في حال تمامها، فسينقطع المعروف وينعدم الخير ويطغى الفساد وينحرف أكثر الناس عن جادّة الصواب، وفي حال انطفاء روح العطاء لدى هذه القلّة المُباركة من أهل المعروف الذين يعيشون في مُجتمعات سلبيّة! فَسَيَطغى الشرّ، ويعمّ الفساد، ويحلّ العقاب الجماعي.
وبِهدف تقديم العلاج الناجع جاءت ضرورة تناول الطبيعة البشرية لِهذه الشّخصيات التي لم تحترم أبناء جلدتها ولم تحفظ لهم الود! فَكابروا بِصنيعهم لِقطع سبيل المعروف! دون أيّ إحساس بِالمسؤولية تجاه الآخرين من ضعاف اليَد والحِيلة، وهذه مشكلة بِحدّ ذاتها! إن لم تكن ظاهرة اجتماعية سلبيّة يُعاني منها المُبادرون بالخير من أصحاب الأنفس النقيّة والأيادي البيضاء، الذين أصبح حالهم كحال الزّارع في أرض مجدبة.
ولِتَزداد الأنفس المُطمئنة هدوءاً، ولِتُحجَّم الأنفس الأمّارة بِالسوء، فسأكشف عن علاقة هؤلاء الجاحدين بِالله عزّ وجل، وكيف أنهم ما قَدَرُوا الله حقّ قدره وهو ملك الملوك سبحانه وتعالى، وإن كانوا يجحدون فضل الخالق سبحانه وتعالى! الكبير المُتعال! فمن باب أولى أن يجحدوا معروف المخلوق البسيط؟ الضّعيف العاجز؟
وعليه فَأهل المعروف على صواب ويسيرون على نهج الأنبياء والصالحين في طريق مُبارك وإن ضاق بهم الدّرب، وهم مأجورين على عملهم المُوفّق وإن جحد الجاحدون، والمُجرم لا يُمثّل أُسْرته ولا قبيلته ولا حتى مُجتمعه! وإنَّما يُمثّل نفسه فقط لا غير، بل هو أداة شيطانيّة هدفها نشر الفساد بين الناس لإهلاكهم بِالذنوب.
ومِن هُنا وجبَ التعرّف على التّاريخ النّفسي لِشخصية الجاحد الظّلوم، وحقيقة أعداء البشريّة في الدّنيا والآخرة! الذين يعلمون بِوجود الله عزّ وجل وصِدق رسالة سيّدنا ونبيّنا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، ولكنّهم يستكبرون عن عبادة الله! ويتبجّحون في تناول الموضوعات العقديَّة وصولا لِلإلحاد تحت حجج واهية يرمون بها على قلوب وعقول عامة الناس لِتضليلهم!
فيعيش أهل الضّلال غيّهم في الحياة الدنيا، يُحاربون الله ورسوله، لايُراعون قرابة ولا صداقة في الاعتداء والظّلم والكذب والزّور على الآخرين.
إنَّ الذي طَغَى في الدّنيا بعد أن رأى تِلك المُعجزات العظيمة هو نفسه الذي سَيَطْغَى يوم يَرَى أهوال يوم القيامة! ولن يردعه إلاّ السَلاسل والأغْلال ثمّ الجحيم.
فَبدلا من أن يقول مُتواضِعا مُخْبِتا: يا رب سبحانك خلقتني في أحسن تقويم وأكرمتني بِالعقل عن سائر المخلوقات، وأنعمت عليّ بِالسمع والبصر وجميع الجوارح! ولكنّي في المقابل قصّرت بِحقّك جاهلا ولم أعبدك حقَّ عبادتك! فإن هذا الإنسان الجاحد لأنْعُم الله، يقول بِكلّ جُرأة: يارب! كيف تحشرني أعمى لا أرى شيئاً باستثناء عذاب جهنّم! وأنا الذي كنت بصيراً في الحياة الدّنيا! ومِن غرائب الشخصيّة البشريّة غير السويّة أنها تُطالب بِحُقوقها دون أداء واجباتها!
فانْظر إلى قُبح المخلوق عندما يُعاتب خالقه! فهذا الإنسان لا يُعظّم الله! ولايصمت لحظة عن الكذب والزّور والتّبرير، فيقدّم عُذرا أقبح من ذنب، جاحداً رسالة الأنبياء في الحياة الدنيا، مُدّعيا أنّه طوال حياته لم يكن يعلم بيوم الحساب! فهو يُسِيء إلى الأنبياء والرُّسل، ومن قِلَّة أدَبه معهم يتّهمهم بِعدم إيصال الأمانة، فهل سَتَسْلم أنت من أذاه؟
وبِعِلم الله أن هذا الجاحد لن يقف عن تبريراته الكاذبة، فعندها يأمر الله جوارحه لِتنطق وتعترف وتشهد عليه، ومع ذلك لم يتوقّف عن الكذب، ليقوم بِعِتاب جوارحه، وكيف أنّها شهدت عليه! فتردّ عليه تلك الجوارح بأنّ الأمر ربّاني وأن الله خلقها وكتب عليها الحشر والنُّطق يوم الدّين.
ومع ذلك … لم يخجل من الله سبحانه وتعالى ولم يتوقّف عن الكذب! هروبا من هول الموقف وشدّة العذاب، ولكن أنَّا له ذلك، فقد انتهى العمل وبدأ الحساب، وبعد أن جحد رسالات الأنبياء، فقد بدأ بِتقديم عذر آخر! لِيقول بِأنّه لم يُعمّر في الدّنيا طويلا، وأنّه ما لَبِث في الحياة الدّنيا غير يوم أوبعض يوم! ومع ذلك لم يقف عند هذا الحدّ! بل استدلّ أمام الله سبحانه وتعالى بِالحُسّاب الذين يعدّون الشهور والأيّام تأكيداً على تبريره الكاذب، فكيف بِعاقل أن يكذب على الخالق ويستدلّ بِمَخلوق!
والله عليم بِأن هذا المخلوق كاذبا ولن يتوقّف عن تقديم الأعذار الكاذبة والتبريرات الخائبة وإن عادت به الحياة فلن يعمل صالحا، وسَيعود إلى كُفْره وطُغْيانه! وفي تلك اللّحظة وَجَب عليه الحُكم الربّاني… لِيختم الله على أفواه الظّالمين، فلا يستطيعون حديثا، وهم يرون أمام أعينهم كيف أن الأيدي والأرجل تشهد عليهم بِما عاثوا به فساداً في الأرض! دون أن يستطيعوا التحدّث! فقط يروا كذبهم بِأعينهم، فَاليَد التي بطش بها شهدت عليه! والرِّجْل التي مشى بها لِلفساد شهدت عليه أيضا! وكذلك جميع جَوارِحه، يا له من مشهد عظيم مُخيف! إنّهم يريدون التحدّث كذباً وزوراً، ويمنعهم الله منه عدلاً وإنصافاً.
وعندها يأمر الله ملائكته بِأن يسحبوا هؤلاء الفُجّار على وجوههم في نار جهنّم لِيذوقوا سُوء العذاب بِما كَسَبت أيديهم، فالمُلْك يومئذ لله الواحد القهّار.
إلى كُلّ مُتفضّل يتألّم من صَنِيع الجاحِدين!
إذا علم حقيقة وطبيعة بعض البشر غير السويّة. فليعلم أنَّ له دور رئيس في تكوين الألم، فهو الذي يرى عظيم إحسانه قليل في حقّ الآخرين! وهذامن تواضعه، وتأصّل العطاء في طباعه.
وهو الذي يُحْسِن الظنّ ويرى الخير فيمن لا يستحقّ ذلك!
فكيف يعجب من غدرهم! فَالعَجَب يدلّ على إحسان الظنّ بهم! والصّدمات على قدر التوقّعات!
ولِذلك فهو بِحاجة إلى إعادة برمجة أفكاره! وأن يكون واقعي في نظرته لِلآخرين! كما يجعل الخيريّة التي هي دافع رئيس لِمُساعدته لهم نُصبَ عينيه! لِيَستطيع مُمارسة دوره المُبارك في ظلّ وجود أمثال هؤلاء الأشرار! فَيَنْعم بِحياة طيبة مختومة بِحُسن خاتمة بإذن الله.
فَالحقيقة أن تِلك جُرأة الجاحد على الله، فهل سَيُعجزه نُكران وجحود أفضال الآخرين عليه؟
وإن كانت هذه حَقيقة الشّخصيات المُنحرفة!
فهل سيضيق صدر أحدهم عندما يُبادر ويُكرم أهل الجاحد ويسْدِي إليهم معروفاً، وذلك إحسانا وطِيبا منه، فَيَجْحده الآخرون بُغْضاً وحَسَدا منهم؟وهل سَيَضيق صدره أحدهم عندما يُعاتب الجاحد على ذنبه بِحقِّه فيقدّم له أعذاراً قبيحة؟ لِيَكتم عمّا في قلبه من إحساس حقيقي بِفَضله عليه!
وإن كنت من أهل صنائع المعروف، فلا تقطع المعروف وإن جَحَدك الأشرار! فالله يُحبّ عباده على قدر مُساعدتهم لِلآخرين، وَلْتَقُم بِدورك المُبارك في الحياة الدّنيا اتِّقاء نار جهنّم، فَلعلّها تكون المُنجية، ولعلّك تكون منأصحاب الجنّة بِسبب حُبّك وتفكيرك وقولك وفعلك لِلخير خالصاً لِوجه الله، فَلْتَسْتمر بِالعطاء لِتَنْمو حُبّاً وكرامة، ولتَحتَسِب الجَزَاء من الله الكريم، ولاتنتظر من النّاس شيئا.
الدكتور مرزوق العنزي