قنبلة نووية اقتصادية … بقلم الدكتور أحمد لطفي شاهين
إيسايكو: قنبلة نووية اقتصادية … بقلم الدكتور أحمد لطفي شاهين
أصدر الرئيس الروسي قبل ايام قرارًا للمؤسسات الحكومية في روسيا باستلام ثمن الغاز بالروبل الروسي، بدلًا من اليورو أو الدولار من الدول التي دعاها بـ “غير الصديقة”، وهذا القرار خطير و يمكن تسميته قنبلةً نوويةً اقتصادية في وجه العالم كله، وحاولت الدول الأوروبية وامريكا ان ترد على هذا القرار وتقلل من شأنه وتحاول التخفيف من الاعتماد على الطاقة الروسية عموما، لكن عاد الرئيس الروسي ليفاجئهم بتوقع قرار جديد بإمكانية تلقي ثمن الغاز بالعملة المشفرة البيتكوين . حيث ان روسيا هي الثالثة عالميًا في السيطرة على العملات المشفرة بعد امريكا وكازاخستان ويصل حجم تعاملاتها إلى خمسة مليار دولار سنويًا. .. وفي حين حاول بعض الاقتصاديين التقليل من شأن هذه الخطوة مؤكدين أن القرار غير مدروس ولن يؤدي إلى فوائد تُذكر لروسيا، إلا أن الكثيرين أكدوا خطورة الأمر وأنه بمثابة قنبلة نووية اقتصادية في وجه أوروبا تحديدًا، التي تعتمد على 40% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، وفي ذات الوقت فإن الاحتياطي الروسي من الغاز يكفي روسيا مدة 50 عامًا على الأقل وهذا يعني قدرة روسيا على تحصيل طلباتها وعدم حاجتها لاحد، وقبل انا اكمل مقالي فإنني اؤكد ان مقالي في التنمية المستدامة والاقتصاد ولا اتبني أي وجهة نظر سياسية اطلاقا في هذه الحرب
إن واقع الاقتصاد الدولي يثبت مدى خطورة هذا القرار الروسي فعند دعم العملة الروسية لن تحتاج موسكو فعليًا إلى عملات أجنبية لدعم اقتصادها، فضلًا عن قرارها بقبول البيتكوين لشراء الغاز مما يضع الدول الأوروبية وامريكا في مأزق حقيقي وستزداد خطورة المأزق إذا قرر بوتين توريد كل السلع سواء القمح أو المعادن بالطريقة نفسها مما قد يهدد العالم كله وليس فقط أوروبا وامريكا. ومما قد يترتب من اثار اقتصادية على قرار روسيا باستبدال البيع بالدولار بالروبل الروسي او البيتكوين ما يلي :
1 – الارتفاع الجنوني في سعر الغاز في اوروبا حيث قفزة واحدة بنسبة 30% وهذا الامر يهدد تشغيل الصناعة في أوروبا، ومن ناحية ثانية فإن هذا الارتفاع سيصب في مصلحة الخزانة الروسية وارتفاع النقد الروسي أكثر فأكثر. وهذا الارتفاع الكبير في سعر النفط عالميا قد يؤدي الى اجبار الدول التي تدور في فلك امريكا على مضاعفة انتاجها وهذا الامر يستنزف جهود وطاقات كثيرة وسيجعله مكلف اكثر وسيؤدي الى زيادات متلاحقة في اسعار النفط والغاز وسيتضرر الاقتصاد العالمي كله وليس فقط اوروبا وامريكا خصوصا اذا استمر الاستهداف المتبادل لمخازن الوقود في الدول المتحاربة وهذا استنزاف غير طبيعي للموارد الطبيعية وسيؤثر سلبيا على مستقبل الاجيال القادمة بلا شك
2 – إجبار الدول الغربية على التعامل مع البنوك التي حظرت امريكا واوروبا التعامل معها خصوصا البنك المركزي الروسي و صندوق الثروة السيادي الروسي أو وزارة المالية الروسية ، ولكن قرار ضرورة الدفع بالروبل مقابل الغاز سيجبر الدول الأوروبية على التعامل مع تلك المؤسسات للحصول على الإمدادات الضرورية من الروبل الروسي للحصول على الغاز الضروري للدول الأوروبية عمومًا، وألمانيا خصوصًا، والتي تحصل على 55% من احتياجاتها من الغاز عن طريق روسيا.
3 – إجبار الدول الغربية على التعامل بالنظام SPFS البديل للسويفت بعد منع الدول الأوربية لروسيا من استخدام نظام سويفت، ، ولقد بدأت روسيا الاعتماد على نظام SPFS، الذي تم إطلاقه عام 2014 على خلفية التهديدات الأمريكية بطرد روسيا من نظام سويفت عقب أزمة شبه جزيرة القرم مع أوكرانيا والخطير في هذه الجزئية ان البنك المركزي الروسي أكد أن البنية التحتية المالية لروسيا ستعمل دون أعطال وان قرار الدفع بالروبل يضع نظام SPFS في بؤرة الاهتمام أكثر وهذا الامر قد يهدد نظام سويفت العالمي نفسه، الذي تسيطر عليه امريكا مما يُقوِّض بالتالي الكثير من الهيمنة الأمريكية على النظام الاقتصادي العالمي ويضع روسيا في وضع مساوي لأمريكا عالميا في الاقتصاد الدولي – وكنت نشرت مقالا بعنوان – معنى نظام “سويفت” – لمن اراد ان يفهم الفكرة اكثر
4 – دعم الروبل الروسي : حيث ارتفع ثمن الروبل 9% أمام الدولار بمجرد الإعلان عن القرار وحتى قبل تطبيقه فعليًا، ليتراجع سعر صرف الدولار إلى 95 روبل، وهذا للمرة الأولى منذ مارس 2022 بعد أن كان وصل في وقت سابق إلى 117 روبل، وبالمثل هبط اليورو إلى 110 روبل مما يزيد من قوّة العملة الروسية في الأسواق العالمية عمومًا وفي روسيا خصوصًا، وهذا الامر له نتائج عكسية على الدولار الامريكي واليورو وباقي العملات خصوصا ان الروبل الروسي يتمتع بغطاء كامل من الذهب وهو عمليا اقوى من الدولار الذي تغطيه الهيمنة العسكرية الامريكية ويتم طباعته في اكثر من مكان في العالم بإشراف البنك المركزي الامريكي بالإضافة الى أن أي دولة في العالم يهمها مصلحتها ولن يتردد أي محتاج للمنتجات الروسية من الشراء بالروبل او بالذهب بأي وسيلة لتأمين احتياجاته في زمن حرب.
5 – التخفيف من تأثير العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الأوروبية وأمريكا على روسيا في محاولة لمنعها من الاستمرار في الحرب، وكان أهمها تجميد أصول كافة البنوك الروسية في الدول الغربية بما يصل إلى 300 مليار دولار واستبعاد البنوك الروسية من النظام المالي البريطاني ومنع الشركات الروسية من الحصول على أموال أو إيداعها في البنوك البريطانية والأمريكية بالإضافة لتلك العقوبات المفروضة على الأشخاص البارزين، وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين نفسه ووزير خارجيته سيرغي لافروف، وحتى الناطق العسكري باسم الجيش الروسي .. وهذه العقوبات كان يمكن أن تؤدي لانهيار اقتصادي تام في روسيا لولا قرار البيع بالروبل ثم بالبيتكوين والعملات المشفرة. وبالتالي فإن روسيا قادرة الآن على فرض المزيد من الشروط لإعادة تحرير الأصول المجمدة على الأقل أو تجنب المخاطر الشديدة لها بزيادة أسعار الطاقة لأضعاف ما كانت عليه وهو ما قد يُجبر أوروبا وأمريكا على تخفيف حدة العقوبات خصوصا أن روسيا لم تتراجع عن العملية العسكرية ويبدو انها لم تتأثر بالعقوبات.
6 – تراجع الدولار أمام العملات الأجنبية الأخرى فعدم البيع بالدولار وخصوصًا في مجال الطاقة الأكثر أهمية عالميا، سيؤدى بالفعل إلى تراجع تدريجي في سعر الدولار عالميًا،. خصوصا ان هناك طلب اوروبي على الوقود الروسي (ولاتزال خطوط الامداد تعمل لهذه اللحظة) و هذا الانهيار للدولار سيؤثر بالطبع على الداخل الأمريكي والدول الغربية مما قد يخفف أيضًا من حدة العقوبات الاقتصادية على روسيا. كما أن قرار الاعتماد على الروبل و البيتكوين سيشكِّل ثغرة حقيقية في فرض العقوبات على روسيا، التي تعمل بالفعل على تحويل قدرٍ كبير من الروبلات إلى البيتكوين، ما أدى إلى ارتفاع كبير في سعر العملة المشفرة ليصل إلى 45 ألف دولار للمرة الأولى في تاريخه.
7 – استنزاف احتياطي النفط الأمريكي ف.للمرة الثالثة في غضون أربع سنوات، تلجأ الولايات المتحدة لتحرير جزء من الاحتياطات الاستراتيجية للنفط، بهدف خفض الأسعار محليا. حيث يتم سحب مليون برميل من النفط يوميا للأشهر الستة المقبلة من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي لأمريكا و هي أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم، بمتوسط يومي 17 مليون برميل، (وتعتبر ثاني أعلى بلد مصدّر للانبعاثات الكربونية بعد الصين)، وإن قرار روسيا بيع وقودها بالروبل سيعيق تعويض النقص في المخزون الاستراتيجي الامريكي خصوصا اذا انخفضت قيمة الدولار واذا اختارت الدول عملات اخرى للبيع والشراء وخصوصا الروبل الروسي
الخلاصة وما يهمنا هو ان لا يتأثر العالم العربي بأضرار اقتصادية بالغة من هذا القرار مع ارتفاع أسعار الطاقة وانهيار الدولار حيث سيرتفع سعر تشغيل المصانع وتكلفة النقل، فضلًا عن أن العقوبات على روسيا تمنع الحصول على مجموعة ضرورية من السلع التي تدخل في الحياة اليومية للمواطن العربي مما يعني تراجع نسبة العرض مقارنة بالطلب وبالتالي ارتفاعات جنونية في اسعار كل السلع و قد تصل في بعض الدول إلى المجاعة، لذلك فإن المطلوب من الامة العربية والاسلامية اليوم ان تجد بدائل تنموية محلية للحفاظ على حياة ومستقبل الشعوب وان نتوقف عن الهلع والقلق وان نفكر جيدا في ترشيد الاستهلاك من هذه اللحظة والبدء الفوري بزراعة واستصلاح اراضي بكل اشكال المزروعات المفيدة والممكنة والبديلة والناجحة حسب طبيعة كل بلد .. وبخصوص مصادر المياه اللازمة للزراعة يجب الاستفادة من المياه التي يمنحها الله لنا في فصل الشتاء وان نصنع طرق ووسائل لتخزين تلك المياه وان نركز على صناعة محطات تحلية مياه البحر لتصلح للشرب ومحطات تكرير مياه الصرف الصحي لتصلح للزراعة وان نعتمد في ذلك على الطاقة الشمسية وان نفكر في البدائل النظيفة للطاقة
المسالة خطيرة جدا و تتطلب صحوة عاجلة وافاقة من غيبوبة المتفرج وان يخلق الإعلام العربي ثقافة عامة ووعي عام حتى يدرك الناس خطورة الوضع الاقتصادي الدولي وحتى يتكاتف الجميع من مزارعين وتجار ورجال اعمال عرب للوصول الى تحقيق الامن الغذائي للشعوب العربية والاسلامية لتأمين مخزونها من السلع الاستراتيجية واحتياجاتها الغذائية.
ويجب ان تتبنى الحكومات العربية استراتيجيات خاصة للتنمية المستدامة “تتضمن عدة أهداف ذات صلة مباشرة بتعزيز الحق في الغذاء، وأهمها زيادة الرقعة الزراعية، وبالتالي زيادة الإنتاج الزراعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من عدد من السلع الاستراتيجية، وحماية الأراضي الزراعية، وتطوير التكنولوجيا الزراعية، وإنشاء تجمعات للصناعات الزراعية، والتوجه نحو الزراعة المستدامة، وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية وان نعتمد على الطاقة البديلة خصوصا الشمسية وكل تلك الامور ممكنة في عالمنا العربي خصوصا اننا نمتلك الارض والموارد الطبيعية والموارد البشرية ولكن نحتاج الى قرارات مسؤولة والى تخطيط سريع وعاجل ونحن نمتلك الكفاءات والعقليات الابداعية والايدي العاملة التي تبحث عن فرص للتطور والابداع وتحقيق الذات وحان الان دور الشباب وحان الان دور الحكومات في تكليف الشباب بهذه المهمة وهذا المقال اوجهه الى كل الامة العربية والاسلامية وليس خاصا بالشأن الفلسطيني
أرجو أن نتعامل بجدية وبشكل عملي وتنفيذي مع المتغيرات الاقتصادية الدولية الحالية لتحقيق الأمن الغذائي للشعوب العربية وإلا سنموت جوعا وسيلعننا التاريخ وسينطبق علينا بيت الشعر :
كَاَلْعَيْرِ فِي اَلْبَيْداءِ يَقْتُلُها الظَّمَأُ . . والْماءُ فَوْقَ ظُهورِها مَحْمولٌ
د.احمد لطفي شاهين
كاتب مختص في التنمية المستدامة