أخبار عاجلةمقالات

السلوك السوي طريق الرؤية … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

إيسايكو: السلوك السوي طريق الرؤية … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

تشير التجارب التنموية المقارنة إلى حقيقة لافتة: الدول التي تتقارب في الموارد والإمكانات قد تتباين جذريًا في النتائج، لا بسبب اختلاف الخطط، بل بسبب اختلاف السلوك المجتمعي في تنفيذها. فالدراسات الحديثة في مجالات الاقتصاد السلوكي وصنع السياسات العامة تؤكد أن ما يقارب ثلثي فجوة الأداء بين الرؤية والتطبيق يعود إلى أنماط السلوك اليومي للأفراد والمؤسسات، لا إلى نقص التشريعات أو ضعف الرؤى. وفي عصر رقمي تتسارع فيه القرارات، وتُقاس فيه السمعة الوطنية بالتفاعل والسلوك قبل المؤشرات الرسمية، يصبح السلوك السوي هو الحلقة الحاسمة التي تنتقل عبرها الرؤية من كونها نصًا استراتيجيًا إلى واقع قابل للقياس.
ينطلق السلوك السوي من كونه منظومة متكاملة من القيم والأنماط السلوكية التي تقوم على الوعي والمسؤولية والقدرة على التكيف الإيجابي مع المتغيرات. وهو لا يقتصر على الالتزام بالقوانين أو الأعراف، بل يمتد ليشمل السلوك الرقمي، وأخلاقيات التواصل عبر المنصات الإلكترونية، وإدارة الاختلاف الثقافي والفكري في فضاءات تتسم بالانفتاح والتأثير المتبادل. ومن منظور علمي، يشكل هذا النوع من السلوك عامل توازن بين متطلبات الانفتاح العالمي والحفاظ على الخصوصية الثقافية، وبين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية، بما يحفظ التماسك المجتمعي ويعزز الاستقرار القيمي.
وتتجلى العلاقة الوثيقة بين السلوك السوي والاستدامة البيئية في كون الإنسان هو المحرك الأساسي لأي سياسة تنموية. فترشيد استهلاك الموارد، والحفاظ على المرافق العامة، والالتزام بالممارسات البيئية المسؤولة، كلها سلوكيات يومية تشكل العمود الفقري للاستدامة. وتشير التجارب التنموية إلى أن فعالية السياسات البيئية تعتمد بدرجة كبيرة على مستوى الوعي السلوكي لدى الأفراد والمؤسسات، ما يجعل السلوك السوي أداة تنفيذ غير مباشرة، لكنها حاسمة، في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وضمان حقوق الأجيال القادمة.
وفي قطاع السياحة، الذي يمثل أحد المسارات الواعدة لتنويع الاقتصاد الكويتي، يكتسب السلوك المجتمعي أهمية مضاعفة. فالتجربة السياحية لا تُقاس فقط بجودة البنية التحتية أو تنوع الخدمات، بل تتشكل أيضًا من خلال طبيعة التفاعل الإنساني، واحترام التنوع الثقافي، ومستوى السلوك الحضاري في الفضاءات العامة. ويؤدي السلوك السوي دورًا محوريًا في تعزيز صورة الكويت كوجهة آمنة ومرحبة، ودعم مفهوم السياحة المستدامة التي توازن بين الانفتاح على الزوار والحفاظ على الهوية المحلية والقيم الاجتماعية.
أما في المجال التعليمي، فإن السلوك السوي يمثل ركيزة أساسية في بناء المواطن القادر على التفاعل الواعي مع التحول الرقمي. فالمؤسسات التعليمية لم تعد معنية بنقل المعرفة فقط، بل أصبحت مسؤولة عن تنمية التفكير النقدي، وترسيخ القيم الأخلاقية، وبناء الانتماء الوطني في بيئة رقمية مفتوحة. ويسهم دمج السلوكيات الإيجابية في المناهج والممارسات التعليمية في إعداد مواطن رقمي مسؤول، قادر على مواجهة التأثيرات الثقافية غير المنضبطة، والتفاعل مع الاختلاف بروح الحوار والاحترام.
وفي عالم سيبراني تتسارع فيه وتيرة التفاعل العابر للثقافات، تبرز تحديات حقيقية أمام الهوية الوطنية، لا سيما في ظل التعرض المستمر لمضامين رقمية متنوعة قد تحمل أنماطًا قيمية مغايرة. وهنا يؤدي السلوك السوي دور خط الدفاع الأول عن الهوية، من خلال تمكين الأفراد من الانفتاح الواعي دون الذوبان الثقافي، وتمثيل القيم الكويتية بصورة إيجابية في المنصات الرقمية، وتحويل التعدد الثقافي من مصدر تهديد محتمل إلى فرصة للحوار والتفاعل الحضاري.
ولا يمكن إغفال أن بناء هذا السلوك في سياق معقد ومتشابك يتطلب جهدًا مؤسسيًا منظمًا، وتوجيهًا متعاونًا من مختصين محترفين في مجالات التربية، وعلم النفس، والإعلام، والتقنية، وصنع السياسات. فالتوجيه السلوكي الفاعل لا يقوم على الخطاب الوعظي وحده، بل يستند إلى البحث العلمي، وتحليل الواقع الاجتماعي، وتصميم برامج توعوية قائمة على الأدلة، وسياسات سلوكية رقمية تواكب التحولات وتحمي الفرد والمجتمع.
إن السلوك السوي، في المحصلة، لم يعد مسألة أخلاقية هامشية، بل أصبح طريقًا واضحًا لتحقيق الرؤية الوطنية، واستثمارًا وطنيًا طويل الأمد ينعكس أثره على الاستدامة البيئية، والتنمية الاقتصادية، وجودة الحياة، وتعزيز الهوية الوطنية. فالرؤى الطموحة لا تتحقق بالنصوص والخطط وحدها، بل بسلوك واعٍ يترجمها إلى ممارسة يومية، ويحوّل الأهداف الاستراتيجية إلى واقع ملموس في عالم سريع التغير. ومن هنا، فإن تبني خطاب علمي–إعلامي متوازن، يعزز الوعي السلوكي ويقوده مختصون، يمثل خطوة جوهرية نحو بناء مجتمع كويتي مستدام، منفتح على العالم، ومتجذر في قيمه وهويته.

الدكتورة ابتسام النومس

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى