أخبار عاجلةمقالات

أوجه الإدمان الحديثة … الدكتورة ابتسام النومس

إيسايكو: أوجه الإدمان الحديثة … الدكتورة ابتسام النومس

يتخذ الإدمان اليوم أشكالاً متشابكة تتجاوز الصورة التقليدية المرتبطة بالمواد المخدرة، ليشمل أنماطاً سلوكية ورقمية تتسلل إلى الحياة اليومية دون أن يلحظها الفرد أو المجتمع في بداياتها.

يمكن النظر إلى الإدمان الكيميائي بوصفه النموذج الأكثر وضوحاً؛ فهو يرتبط بتناول مواد تؤثر مباشرة في الجهاز العصبي، وتُحدث اعتمادية جسدية ونفسية تجعل الانفصال عنها أمراً بالغ الصعوبة. ويكفي مثال بسيط كاعتماد الشخص على المنبهات أو المسكنات بشكل مفرط يفوق حاجته الطبية، ليتحول مع الوقت إلى حالة لا يستطيع معها أداء يومه من دون الجرعة المعتادة. هذا النوع من الإدمان يحتاج إلى تدخل علاجي مهني يشمل العلاج الدوائي، وإعادة التأهيل السلوكي، ومتابعة طويلة الأمد للحد من الانتكاسات.

أما الإدمان السلوكي فيتعلق بأنماط من التصرفات التي تمنح الشخص مكافأة نفسية لحظية، فيعتاد تكرارها حتى تُصبح مسيطرة على روتينه وحياته. يتجلى ذلك في حالات مثل إدمان التسوق، حيث يفقد الفرد السيطرة على رغبته في شراء ما لا يحتاجه، أو إدمان المقامرة الذي قد يدفع الشخص إلى مجازفات مالية خطرة تحت تأثير الرغبة المستمرة في الفوز. خطورة هذا النوع تكمن في أنه غير مرئي غالباً، إذ لا تسبقه مؤشرات بيولوجية واضحة كما يحدث في الإدمان الكيميائي، لكنه يُحدث اضطرابات اجتماعية واقتصادية لا تقل خطورة.

أما الإدمان الرقمي، وهو الأحدث والأكثر توسعاً، فقد تشكل نتيجة التحولات الرقمية السريعة، واتساع نطاق الأجهزة الذكية والمنصات الرقمية. هنا يتحول الاستخدام الطبيعي للتقنية إلى حالة من الارتباط القهري، كما في الانغماس المفرط في الألعاب الإلكترونية أو التصفح المستمر لوسائل التواصل الاجتماعي إلى حد يؤثر في المسار الدراسي أو الإنتاجية المهنية أو العلاقات الاجتماعية. ورغم أن كثيرين ينظرون إليه بوصفه أمراً «عادياً» في زمن التكنولوجيا، إلا أن تراكم تأثيراته النفسية والسلوكية يجعل التعامل معه أولوية لا تقل أهمية عن أنواع الإدمان الأخرى.

تبدأ الوقاية من كل هذه الأنواع بوعي فردي ومجتمعي قادر على التمييز بين الاستخدام الطبيعي والسلوك الإدماني، مع تعزيز ثقافة التوازن واليقظة الذاتية. ويعدّ الاستثمار في التربية الإعلامية والرقمية داخل المدارس، وتوفير برامج تدريبية للوالدين والمعلمين، خطوة أساسية لصدّ السلوكيات الإدمانية قبل تشكلها. كما أن إتاحة خدمات استشارية نفسية يسهل الوصول إليها، وتسليط الضوء إعلامياً على هذه الأنماط بعيداً عن الوصمة، يعزز فرص التدخل المبكر ويمنح الأشخاص مساحة آمنة لطلب المساعدة.
على مستوى المجتمع، يصبح من الضروري تطوير منظومة تشريعية وتنظيمية تسهم في الحد من محفزات الإدمان، كتقنين الإعلانات الرقمية الموجهة للأطفال، ووضع ضوابط واضحة للمنصات الرقمية والألعاب الإلكترونية، وتعزيز الرقابة على تداول الأدوية. أما بالنسبة للمسؤولين، فإثارة انتباههم إلى خطورة هذه الإدمانات—وخاصة الرقمية والسلوكية منها—يتطلب خطاباً قائماً على الحقائق، مدعوماً ببيانات إحصائية وطنية تُبرز التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة، إضافة إلى مبادرات مجتمعية تظهر الحاجة إلى سياسات وقائية أكثر صرامة.

إن الإدمان، بكل أشكاله، ليس مجرد سلوك فردي، بل قضية صحة عامة تحتاج إلى إدراك شامل، وتعاون متعدد الأطراف، ورؤية طويلة الأمد تحمي الأجيال الحالية والقادمة من الانزلاق في أنماط يصعب الفكاك منها. بهذه المقاربة المتوازنة يصبح المجتمع أكثر قدرة على كشف الخطر قبل تفاقمه، وعلى بناء بيئة واعية قادرة على مواجهة هذا التحدي المتجدد.

الدكتور ابتسام النومس

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى