أخبار عاجلةمقالات

فضفضة قلب – حين يصبح رضا الوالد رحلة صبر وحب … بقلم الدكتورة هلا السعيد

إيسايكو: فضفضة قلب – حين يصبح رضا الوالد رحلة صبر وحب … بقلم الدكتورة هلا السعيد 

جاءتني شكوى من قلبٍ حائر… قلب ابنة تحاول بكل ما أوتيت من حب وصبر أن تُرضي والدها الكبير في السن، لكنها تصطدم في كل مرة بنقده الدائم، وضجره من كل شيء، ورغبته المستمرة في العودة إلى البيت. كانت كلماتها تختبئ خلفها دموع صامتة، وتقول:
“يا دكتورة… مهما سويت ما يعجبه، وكل شي ينتقده.”

هذا الشعور يمرّ به كثيرون، حين يجدون أن من يحبونه أصبح أقل صبرًا، وأكثر حساسية، وكثير الانتقاد. وكأن العمر، بدل أن يمنحهم هدوءًا، صار يضيف فوق أكتافهم أثقالًا لا يرونها، لكن يشعرون بها.

في الحقيقة… كبار السن لا ينتقدون الأشخاص، بل ينتقدون إحساسهم الداخلي بالتعب. ينتقدون خوفهم من المجهول، وقلقهم من الخروج من المكان الذي اعتادوه، وضعف أجسادهم الذي لا يحبون الاعتراف به. وعندما يريد والدك العودة إلى البيت بسرعة، أو لا يعجبه شيء، فهو لا يقصدك أنت… بل يقصد أن قلبه لم يعد يحتمل الزحام، وأن التغيير أصبح عبئًا عليه.

وأحيانًا، ما يزيد ألم الأبناء أن هذا الوالد الذي كان يومًا رمز القوة، يتحول أمامهم إلى شخص سريع الانزعاج، لا يحتمل الانتظار، ولا يتقبل الاقتراحات. فيقفون بين حبّهم الكبير له، وشعورهم بالعجز أمام تذمر لا يعرفون كيف يوقفونه. لكن الحقيقة أن هذه المرحلة ليست ضعفًا منهم… بل مرحلة طبيعية من العمر، تصبح فيها المشاعر مرهفة، والذاكرة أثقل، والطاقة أقل.

أحيانًا نأخذ كلماتهم على محمل شخصي.
وأحيانًا نشعر أننا مقصرون.
وأحيانًا نعاتب أنفسنا: “ليش ما ارتاح؟ ليش مو راضي؟”

لكن الحقيقة مختلفة تمامًا…
هو لا يبحث عن “الكمال”، ولا يريد “أفضل الأماكن”… هو يريد فقط الأمان.
والأمان بالنسبة لكبير السن يعني: مكانه المعتاد، روتينه، كرسيه، غرفته، درجة الحرارة التي يحبها، والوقت الذي يرتاح له، وبساطة اليوم التي يشتاق إليها.

وحين نفهم هذا، تهدأ قلوبنا. ندرك أن دورنا لم يعد أن “نُسعدهم” كما نريد نحن، بل أن “نؤمّنهم” كما يحتاجون هم.
أن نمنحهم الشعور بالسيطرة، حتى لو كان ذلك عبر خيارات بسيطة مثل:
“تحب نقعد خمس دقايق زيادة ولا نرجع الآن؟”
وعند انتقاد شيء في البيت نقول:
“ما شاء الله… عينك ميزان. مثل ما تحب، راح نصلح كل شيء.”
أو:
“إحنا بدنا راحتك… واللي تريده يمشي يا بابا.”

وفي اللحظة التي نمارس فيها هذا الصبر، ندرك أن رعاية كبار السن ليست اختبارًا للسعادة… بل اختبارًا للمحبة.
اختبار لقدرتنا على أن نكون كبارًا حين يعود آباؤنا صغارًا في احتياجاتهم.
اختبار لرحمةٍ تليق بمن تعبوا علينا عمرًا كاملًا.

وهنا… تتحول الرحلة من محاولة إرضاء مستحيلة، إلى حضن واسع من الرحمة.
ومن معركة يومية مع النقد، إلى فهم عميق لضعف لا يقولونه.
ومن ضيق داخلي… إلى صبر يليق بمن ربّونا يومًا ونحن لا نفهم شيئًا.

قد يستمر والدك في النقد… وقد يصر على العودة… وقد لا يعجبه شيء.
لكن يكفي أنك أنت تعرفين أنك قدّمتِ كل ما تستطعين.
يكفي أن الله يرى صبرك، ونيتك، ومحبتك التي لا يسمعها أحد.

وفي نهاية اليوم، حين ينتهي التعب، وحين تضعين رأسك على الوسادة، تذكّري هذه الآية التي تلخص كل الرحلة، بكل ما فيها من ألم ومحبة:

﴿وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾

دعاءٌ هو المعنى الأعمق لهذه الرحلة… يذكّرنا أن ما نفعله اليوم هو امتداد لفضلهم بالأمس.
وأننا، رغم كل الصعوبات، ما زلنا نستطيع أن نكون لهم الأمان الذي يبحثون عنه.

الدكتورة هلا السعيد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى