فن مواجهة التأثيرات الاجتماعية في عصر الضغوط السريعة … بقلم الأستاذة نوف الدوسري

إيسايكو: فن مواجهة التأثيرات الاجتماعية في عصر الضغوط السريعة … بقلم الأستاذة نوف الدوسري

في زمن تتسارع فيه الحياة وتتداخل فيه مصادر التأثير، أصبح الإنسان يواجه ضغوطًا اجتماعية تحيط به من كل اتجاه؛ من الأسرة، الأصدقاء، المدرسة، العمل، وصولًا إلى وسائل الإعلام ومنصات التواصل التي أصبحت جزءًا من تفاصيل يومه. لم يعد التأثير الاجتماعي مجرد عامل ثانوي في تشكيل السلوك، بل بات قوة مؤثرة ترسم طرق التفكير، وتوجّه القرارات، وتصنع نماذج قد يتبعها الفرد دون وعي أو قصد.
فتظهر التأثيرات الاجتماعية في حياتنا اليومية بطرق متعددة. فقد يجد الشخص نفسه يقلد الآخرين رغبة في القبول والانتماء، أو يخشى الرفض فيساير سلوكًا لا يشبهه. وقد تأتي المقارنة الرقمية لتفرض نفسها بقوة، حيث يصعب مقاومة الصور المثالية التي تعرضها المنصات، فتجعل الفرد يشعر بأن حياته أقل قيمة من حياة الآخرين، رغم أنها مجرد لقطات منتقاة لا تمثل الواقع الحقيقي. وغالبًا ما تتفاعل هذه المؤثرات مع الحاجة الفطرية للانتماء، مما يجعل الفرد أكثر قابلية للتأثر، خاصة في المراحل العمرية الحساسة التي تتشكل فيها الهوية.
ومع توسّع هذا التأثير، تظهر نتائجه السلبية على النفس والسلوك. فالإفراط في مسايرة الآخرين يضعف الثقة بالنفس، ويجعل الشخص يتخذ قرارات لا تعكس قيمه الحقيقية. وقد يتحول الأمر إلى عبء نفسي من القلق والتوتر والشعور الدائم بعدم الكفاية، بينما يفقد الإنسان جزءًا من ذاته في كل مرة يستجيب فيها لضغط لا ينسجم مع شخصيته. ويتحوّل السلوك إلى ردود فعل مبنية على الخوف والبحث عن القبول، بدل أن تكون نابعة من قناعة داخلية.
غير أن مقاومة التأثيرات السلبية ليست مستحيلة، بل تبدأ من لحظة وعي صادقة. فالإنسان حين يدرك ما يريده حقًا، وما يؤمن به، وما يستحقه، يصبح قادرًا على التمييز بين ما يناسبه وما يُفرض عليه. ويأتي التفكير النقدي ليكون خط الدفاع الأول، حيث يساعد الفرد على تحليل ما يمرّ به، بدل تقبله كما هو. كما أن اختيار علاقات صحية ودوائر اجتماعية مشجعة يعزز القوة الداخلية، ويقلل الشعور بالحاجة المستمرة لإرضاء الآخرين.
وتُعد مهارة الرفض الإيجابي أداة مهمة في هذا السياق، إذ تمنح الفرد القدرة على قول “لا” بلطف وثقة دون الإحساس بالذنب. ومع الوقت، يتعلم الإنسان وضع حدود واضحة تحمي سلامه النفسي. ولا يقل دور إدارة استخدام وسائل التواصل أهمية؛ فالاستخدام الواعي يقلل المقارنات، ويعيد للفرد تركيزه على واقعه الحقيقي بدلاً من الانجراف خلف عالم رقمي لا يخلو من التجميل والمبالغة. كما أن الاهتمام بتقوية الهوية عبر الأنشطة والهوايات وتطوير المهارات يجعل الشخص أكثر ثباتًا أمام المؤثرات الخارجية.
إن مواجهة التأثيرات الاجتماعية ليست مجرد مهارة مكتسبة، بل هي رحلة وعي مستمرة، يتعلم فيها الإنسان كيف يكون قريبًا من ذاته، وكيف يصون قيمه وسط عالم مليء بالأصوات. وكلما كانت الذات واضحة ومستقرة، قلّت قدرة الآخرين أو الوسائل الرقمية على تشكيلها. فالقوة الحقيقية لا تكمن في مسايرة التيار، بل في أن يمتلك الفرد القرار الذي يشبهه ويلائم حياته.
وفي النهاية، يبقى الإنسان صاحب القرار في مدى السماح لهذه التأثيرات بالتسلل إلى داخله. فحين يختار أن يكون نسخة صادقة من نفسه، يصبح العالم أقل قدرة على التأثير عليه، وأكثر قدرة على احترامه. هكذا فقط يمكن للفرد أن يعيش بوعي، ويقف بثبات، ويواجه الضغوط بثقة وراحة نفسية.
الأستاذة نوف خليفة الدوسري




