فضفضة قلب، من المسؤول؟ … بقلم الدكتورة هلا السعيد

إيسايكو: فضفضة قلب، من المسؤول؟ … بقلم الدكتورة هلا السعيد

أحيانًا أسمع أولياء أمور الأطفال ذوي الإعاقة يتحدثون بمرارة، يحمّلون الدولة والمجتمع مسؤولية ما حدث، وكأنهم يقولون: “لو كانت الخدمات أفضل، لو كان الوعي أعلى، لو وُجدت الرعاية منذ البداية… ما كان ابني بهذا الحال.”
وأنا أفهم تمامًا هذا الصوت المليء بالوجع، لأن وراءه رحلة طويلة من القلق، والتعب، والاصطدام بالواقع. فحين يُولد طفل مختلف، تشعر الأسرة بأن الأرض تهتز تحتها، وأن الأحلام التي رُسمت بعناية تتبعثر أمامها فجأة.
لكن الحقيقة المؤلمة أن لا أحد يمكنه منع القدر أو تغييره.
وجود الإعاقة ليس خطأ أحد، لا هو ذنب الأبوين، ولا هو تقصير من الدولة، بل هو جزء من تركيبة الحياة التي فيها الاختبار والعطاء والرحمة معًا.
ومع ذلك، يبقى للوجع مساحة مشروعة، فالأهل يتألمون حين لا يجدون الدعم الكافي، أو حين تصطدم أحلامهم بجدران البيروقراطية أو نقص الخدمات. وهنا يبدأ الغضب، وتبدأ الاتهامات، وكأننا نحاول أن نُسكت الألم باللوم.
لكن في لحظة هدوء صادقة، ربما نحتاج أن نسأل أنفسنا:
هل تحميل الآخرين المسؤولية يخفّف الألم أم يطيله؟
هل نحتاج إلى من نلومه، أم إلى شراكة حقيقية بين الأسرة والمجتمع والدولة؟
حين يتحول الغضب إلى وعي، نبدأ نرى الصورة بوضوح أكبر.
الدولة مسؤولة عن توفير الرعاية والخدمات والدمج والتعليم، وعن دعم المراكز المتخصصة وتدريب الكوادر وتأمين مستقبل هذه الفئة.
والمجتمع مسؤول عن القبول، عن النظرة الإنسانية، عن أن يرى في ذوي الإعاقة قدراتهم لا إعاقتهم.
أما الأسرة، فهي الأساس، فهي الحضن الأول، والمدرسة التي يتعلم فيها الطفل كيف يرى نفسه وكيف يواجه العالم.
وأنا، كأم قبل أن أكون متخصصة، عشت هذه التجربة بكل تفاصيلها.
لم أحمل يومًا أحدًا مسؤولية ما حدث، ولم أثقل على كاهل دولتي.
سعيتُ طوال حياتي، بكل ما أوتيت من طاقة وإيمان، لأوصل ابني إلى برّ الأمان.
لم أنتظر ما ستقدّمه الدولة، بل سعيت لأن أوفّر له بنفسي أفضل الأجهزة، وأحدث البرامج، وأكفأ المدربين.
كنتُ أؤمن أن القوة الحقيقية تبدأ من داخل البيت، من قلب الأم الذي لا يعرف الاستسلام، ومن يقينها بأن الله لا يضع في طريقها ابتلاءً إلا وفيه خير ورسالة.
إنّ تحميل جهة واحدة كل المسؤولية ظلم للواقع وللطفل معًا.
فالإعاقة ليست نهاية، بل بداية طريق مختلف يتطلب تضافر الجميع. الدولة تُشرّع وتُقدّم الدعم، والمجتمع يفتح الأبواب، والأسرة تزرع الأمل وتروي الحلم بالإصرار والصبر.
حين يفهم كل طرف دوره، ننتقل من دائرة الشكوى إلى دائرة الفعل، ومن جلد الذات إلى البناء.
همسة أخيرة:
إلى كل أم وأب يسكن قلبهما طفل مختلف…
اعلما أنكما لستما وحدكما، وأن ابنكما لا يحتاج دولة كاملة ليكبر، بل يحتاجكما أولًا؛ حبكما، صبركما، إيمانكما به.
طالبا بحقوقكما، نعم، لكن لا تجعلا الشكوى تسرق منكما الفرح.
ازرعا في بيتكما طمأنينة، وفي قلب طفلكما يقينًا بأنه محبوب وقادر، فذلك أعظم دعم يمكن أن تقدماه له.
وصدقاني… حين يرى ابنكما الأمل في عيونكما، سيصنع معجزته الصغيرة كل يوم.
الدكتور هلا السعيد




