أخبار عاجلةمقالات

المخدرات الإلكترونية … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

إيسايكو: المخدرات الإلكترونية … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

منذ سنوات كمختصة في السلوك البشري وجهت الانظار علي خطورة هذا الجانب، حيث يعيش الجيل الرقمي المعاصر تحوّلات نفسية عميقة تتجاوز حدود السلوك الظاهري، وتطال أنماط التعلّق والانفعال والانضباط الذاتي. وفي هذا السياق، تبرز “المخدرات الإلكترونية” كمصطلح حديث يجمع بين التقنية والاضطراب، ويعكس بوضوح تحول بعض أشكال الاستخدام الرقمي إلى حالة إدمان سلوكي ونفسي ذات أبعاد تربوية واجتماعية مقلقة. فالمشكلة لم تعد محصورة في المواد المخدّرة الكيميائية، بل امتدت إلى أنماط من التحفيز الرقمي التي تُحدث تأثيرات مشابهة في الدماغ والسلوك، لاسيما لدى الفئات النمائية الحرجة، مثل الأطفال والمراهقين.
تعتمد المخدرات الإلكترونية على مجموعة من المثيرات الرقمية – صوتية أو بصرية أو تفاعلية – تنتج تأثيرات فسيولوجية وعصبية تحاكي في آلياتها استجابة الجسم للمخدرات التقليدية. مثلًا، تؤدي الأصوات الثنائية التردد (Binaural Beats)، أو الألعاب الرقمية فائقة الإثارة، أو مقاطع الفيديو القصيرة المتجددة إلى تنشيط مسار المكافأة العصبي وإفراز الدوبامين، مما يولد حالة من التعزيز الإيجابي المتكرر، ويعيد تشكيل مسارات الانتباه والدافعية، وهو ما يُفسّر الانجذاب القهري لهذه المواد الرقمية. وتكمن الخطورة في أن هذا النمط من الإشباع الفوري لا يتوافق مع النضج النفسي أو التقييم الأخلاقي للسلوك، ما يترك الباب مفتوحًا لتشكّل اعتماد نفسي وسلوكي طويل الأمد.
من منظور علم النفس السلوكي، يُعد هذا النمط الإدماني شكلاً من أشكال اضطراب التنظيم الذاتي، حيث يُستبدل الضبط الداخلي بالمثيرات الخارجية المتكررة. ومع مرور الوقت، تتكوّن لدى الفرد أنماط قهرية من التفاعل مع التقنية، وتتراجع قدرته على التحكم في الانفعالات، أو إدارة الوقت، أو الالتزام بالمثيرات الواقعية. ويمتد الأثر ليطال الصحة النفسية عبر ظهور أعراض مثل القلق، تقلب المزاج، نوبات التهيج، الأرق، الانسحاب الاجتماعي، أو حتى الاكتئاب، في حال الانقطاع عن الأجهزة أو فقدان الوصول إلى المنصات الرقمية المحفزة.
أما من زاوية علم النفس التربوي، فإن هذه الظاهرة تمسّ بشكل مباشر عملية التعلم والتطور النمائي، إذ يُظهر الحدث المتأثر بالمخدرات الإلكترونية ضعفًا في الانتباه الانتقائي، وتدهورًا في الذاكرة قصيرة المدى، وانخفاضًا في التحصيل الأكاديمي، إلى جانب تراجع المهارات الاجتماعية والتفاعلية. كما تتشكل تدريجيًا حالة من الانفصال عن العالم الواقعي، يُفضَّل فيها “الواقع الرقمي البديل” لما يوفره من مكافآت سريعة، وإشباع متكرر، وهروب من الضغوط الواقعية.
من المهم أن نُدرك أن هذه الظاهرة لا ترتبط بالضعف الشخصي أو سوء التربية فقط، بل هي نتاج تفاعل معقّد بين بنية الدماغ النامية، والثقافة الرقمية السائدة، والفراغ الانفعالي أو الاجتماعي، والبيئات التعليمية أو الأسرية التي تفتقر أحيانًا إلى الاحتواء أو التوجيه. لذلك، لا يمكن التعامل مع المخدرات الإلكترونية بوصفها ظاهرة سطحية، بل هي انعكاس لخلل في منظومة العلاقات والتربية والسلوك والانتباه المجتمعي لمتغيرات العصر.
من الناحية الوقائية والعلاجية، تبرز أهمية تصميم برامج نفسية وتربوية متكاملة، تركز على تنمية مهارات التنظيم الذاتي، والتفريغ الانفعالي، والتفكير النقدي، وبناء الهوية الرقمية الآمنة. كما يجب تدريب الكوادر التربوية والإكلينيكية على رصد العلامات المبكرة للاضطراب السلوكي المرتبط بالتقنية، وتقديم تدخلات معرفية-سلوكية (CBT) موجهة لمعالجة التعلّق غير الصحي بالتطبيقات أو الأجهزة، مع إشراك الأسرة في العملية العلاجية بوصفها بيئة مساندة وداعمة. في الوقت ذاته، ينبغي للمؤسسات التعليمية أن تعيد النظر في طبيعة البيئة الرقمية المقدّمة للمتعلمين، وتُدمج التربية الرقمية والصحة النفسية في المناهج، ليس فقط لحماية الطلبة، بل لبناء مناعة نفسية سلوكية مستقبلية.
رسالة، إن “المخدرات الإلكترونية” تمثل وجهًا جديدًا من وجوه الإدمان المعرفي والانفعالي في العصر الرقمي، وتتطلب من المختصين في علم النفس والتربية والصحة النفسية أن يتعاملوا معها بوصفها ظاهرة حقيقية وليست مجازًا لغويًا. فهي تفرض علينا تطوير أدوات تقييم وتشخيص جديدة، وفهمًا عميقًا للتفاعل بين التقنية والسلوك، ومقاربات علاجية وقائية تتجاوز المنع التقليدي نحو بناء الوعي، وتعزيز الكفاءة النفسية، وخلق ثقافة رقمية صحية، تتماشى مع تحولات العالم دون أن تفقد الإنسان قدرته على التحكم والسيطرة والاختيار.

الدكتورة ابتسام عباس النومس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى