أخبار عاجلةمقالات

بين الحاجة والإرادة: كيف يعيد الإدمان الرقمي تشكيل الدماغ؟ … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

إيسايكو: بين الحاجة والإرادة: كيف يعيد الإدمان الرقمي تشكيل الدماغ؟ … بقلم الدكتورة ابتسام النومس

في الحضور الرقمي لحياتنا اليومية، لم تعد علاقتنا بالتكنولوجيا مجرد وسيلة للاتصال أو الترفيه، بل تحوّلت إلى علاقة معقّدة تتقاطع فيها الحاجات النفسية مع التحفيزات الرقمية المستمرة، لتنشأ بذلك حالة من الاعتمادية التي باتت تُعرف بالإدمان الرقمي. إنها ليست فقط مسألة إدمان على استخدام الأجهزة، بل هي تحوّل فعلي في طريقة عمل الدماغ واستجابته، يؤثر في توازننا الداخلي وقدرتنا على اتخاذ القرار.
فأصبح يتفاعل الدماغ مع التقنية كما يتفاعل مع المخدرات؛ وقد أشارت الأبحاث في علم الأعصاب إلى أن الاستخدام المتكرر والمفرط للأجهزة الرقمية يؤثر على نفس الدوائر العصبية التي تنشط في حالات الإدمان على المواد الكيميائية، مثل الكحول أو المخدرات. كل تنبيه رقمي – كإشعار، إعجاب، أو محتوى جديد – يفرز دفعة صغيرة من الدوبامين، وهي المادة المرتبطة بالشعور بالمكافأة في الدماغ.

ومع التكرار، يبدأ الدماغ بتفضيل هذه “المكافآت السريعة”، مما يغيّر أولوياته ويضعف قدرته على مقاومة الرغبة في العودة إلى الهاتف أو الحاسوب. كما تنخفض كفاءة المنطقة الدماغية المسؤولة عن ضبط السلوك واتخاذ القرار (قشرة الفص الجبهي الأمامي)، بينما تنشط مناطق أخرى مسؤولة عن الانفعالات والرغبات، فيتراجع التحكم الذاتي لصالح الاستجابة التلقائية.

فقد أصبحت الحاجة فطرية في بيئة مصطنعة، فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يحتاج إلى التواصل والانتماء. ولأن التكنولوجيا الرقمية توفر هذا الاتصال بسهولة وفي أي وقت، تتحول من أداة إلى مصدر دائم للإشباع النفسي. لكن هذه الوفرة قد تتحول إلى عبء، حيث يفقد الفرد قدرته على تنظيم وقته وانتباهه، ويبدأ في الشعور بما يُعرف بـ”تشظي الانتباه”، أي العجز عن التركيز لفترات طويلة، ما يؤثر على التفكير العميق وجودة المشاعر.

ومع الوقت، يعيد الدماغ تشكيل نفسه ليناسب هذا النمط الجديد من التحفيز السريع، مما يجعل العودة إلى الحياة الطبيعية – كالقراءة أو الحديث الطويل أو التأمل – أمرًا صعبًا ومملًا.

وهنا نطرح السؤال “هل نختار ما نريده فعلًا؟”
مع تطور خوارزميات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التتبع، لم تعد البيئة الرقمية محايدة. فهي لا تكتفي بعرض المحتوى، بل توجّه رغباتنا وتؤثر في اختياراتنا، أحيانًا دون أن نشعر. والسؤال الجوهري الذي يُطرح هنا: إلى أي مدى نبقى أحرارًا في قراراتنا؟ وهل ما نرغبه فعلًا هو ما اخترناه نحن، أم ما صُمم لنا أن نرغبه؟

لفت المفكر الكندي “مارشال ماكلوهان” منذ عقود إلى أن وسائل الإعلام لا تغيّر فقط ما نعرفه، بل تغيّر طريقة تفكيرنا. وفي ضوء هذا التحول، قد تصبح إرادتنا عُرضة للتآكل التدريجي، ليس بالإجبار، بل بالإغواء المستمر.

لذلك لا بد من استعادة السيطرة ،التي تبدأ بالوعي، من خلال الدماغ القابل للتغيير الإيجابي أيضًا، وهذه المرونة العصبية يمكن توظيفها لاستعادة السيطرة من جديد. إن فهم آلية الإدمان الرقمي هو الخطوة الأولى نحو التحرر منه. ويمكن لكل فرد أن يبدأ تدريجيًا عبر بعض الممارسات الواعية، مثل:
• الصيام الرقمي: تخصيص أوقات محددة للابتعاد عن الشاشات، مما يساعد على إعادة ضبط النظام العصبي واستعادة التوازن الكيميائي في الدماغ.
• تنمية الانتباه الواعي: من خلال التأمل أو التركيز على نشاط واحد بعيد عن المشتتات الرقمية.
• تعزيز العلاقات الواقعية: بإعطاء أولوية للتفاعل وجهاً لوجه، وهو ما يعيد الإشباع النفسي من مصادر أصيلة.
نصيحة
نحن اليوم أمام مفترق طرق بين ما نحتاجه فعلًا، وما يُفرض علينا عبر الشاشة. ولم يعد كافيًا أن نلوم التكنولوجيا، بل علينا أن نعي كيف نستخدمها، ومتى نتوقف. فاستعادة الإرادة ليست مهمة مستحيلة، بل تبدأ من لحظة وعي، تتبعها خطوات بسيطة لكنها فعّالة. إن إعادة تشكيل الدماغ تحت ضغط الإدمان الرقمي ليس نهاية، بل دعوة لبدء حوار داخلي مع الذات… من أجل أن نكون نحن من يُشكّل التقنية، لا العكس.

الدكتورة ابتسام النومس

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى