توظيف هرم ماسلو لبناء الإنسان المستدام بتطبيق القيم والحوكمة في زمن التحول الرقمي في ضوء رؤية 2035 … بقلم الدكتورة ابتسام عباس النومس

إيسايكو: توظيف هرم ماسلو لبناء الإنسان المستدام بتطبيق القيم والحوكمة في زمن التحول الرقمي في ضوء رؤية 2035 … بقلم الدكتورة ابتسام عباس النومس
في عصر التحولات الرقمية وتتداخل فيه التكنولوجيا مع كافة مناحي الحياة، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف الإنسان الفاعل ليس فقط بوصفه مستهلكًا للمعرفة أو مستخدمًا للتقنيات، بل كفاعل واعٍ ومبدع قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية، والمساهمة في التنمية المستدامة. وتحقيق هذا الهدف يتطلب أدوات نفسية واجتماعية فعّالة، من بينها نموذج هرم ماسلو للحاجات الإنسانية، الذي يمكن توظيفه بوصفه إطارًا بنائيًا لصياغة الإنسان القادر على التكيّف والتفوق في بيئة معرفية وتقنية متجددة.
هرم ماسلو، الذي صاغه عالم النفس الإنساني “أبراهام ماسلو”، يُقدّم تصورًا هرميًا لتدرج الحاجات الإنسانية، بدءًا من الحاجات الفسيولوجية، مرورًا بالأمان، والانتماء، والتقدير، وصولًا إلى التحقّق الذاتي. وفي سياقات أكثر تطورًا، أُضيفت مراحل “تجاوز الذات” و”التحقّق الأخلاقي”، ليصبح الهرم ليس مجرد تسلسل غريزي، بل خارطة لرحلة إنسانية متكاملة نحو النضج والبناء المجتمعي.
غير أن هذا النموذج، رغم قوته التفسيرية، لا يُحقق فاعليته في بناء الإنسان ما لم يُعاد توظيفه في ضوء منظومة قيمية حاكمة وسياق تنموي واضح. هنا تتجلى القيم والأخلاقيات كقوة ناعمة تسهم في توجيه السلوك البشري ضمن كل مرحلة من الهرم، بحيث يُصبح الإشباع غير مرهون فقط بتحقيق الحاجة، بل بكيفية تحقيقها، ومدى نفعها للذات والمجتمع.
فالإنسان الذي يُشبع حاجته للطعام أو الأمن أو التقدير ضمن أطر أخلاقية، هو إنسان يُسهم في بناء بيئة مؤسسية ومجتمعية أكثر توازنًا. وفي الحاجات العليا، يصبح التحقّق الذاتي أكثر عُمقًا عندما يُربط بالالتزام المهني، والإبداع المسؤول، والعمل من أجل رفاه الآخرين، لا التميز الفردي الأناني.
في ضوء ذلك، يمكن توظيف هرم ماسلو كإطار استراتيجي لبناء الإنسان المستدام في زمن التحول الرقمي، الذي لا تُقاس فاعليته بامتلاك المهارات التقنية فقط، بل بقدرته على توظيفها في خدمة قيم العدالة، والشفافية، والابتكار الأخلاقي. ومن هنا، تصبح القيم أداة للحوكمة السلوكية، تُوجّه استخدام التقنية نحو غايات إنسانية راقية، وتمنع انزلاقها إلى العبث أو السيطرة أو الإقصاء.
وهذا ما تسعى إليه رؤية الكويت 2035، التي تهدف إلى تمكين الإنسان الكويتي ليكون ركيزة للتنمية، وفاعلًا في الاقتصاد المعرفي، ومنتجًا للابتكار لا مجرد مستهلك له. وتحقيق هذا الطموح يتطلب أن يكون الفرد قادرًا على الارتقاء في مدارج ماسلو، لا بفعل الظروف فقط، بل بتفعيل السياسات التعليمية والتدريبية التي تُنمّي داخله الوعي القيمي، وتكسبه أدوات التفكير الناقد، والاختيار الأخلاقي، والمسؤولية الوطنية.
كما أن إدماج هذا النموذج في الخطط المؤسسية، وبرامج القيادة، وإعداد الكوادر الوطنية، يُعد خطوة حيوية لترسيخ حوكمة السلوك داخل المؤسسات، وتطوير بيئة عمل مستدامة، تُسهم في رفع الكفاءة، وتقليل الفساد، وتعزيز الشفافية. فالفرد الذي يُحقق ذاته عبر الانضباط، والعمل الجماعي، والالتزام القيمي، يصبح نموذجًا للمواطن الفاعل، الذي تحتاجه الدول لبناء مستقبلها في ظل التحديات الرقمية والاقتصادية المتسارعة.
رسالة، إن توظيف هرم ماسلو في بناء الإنسان المستدام لا يعني الاكتفاء بفهم الحاجات، بل يستلزم إعادة صياغة هذا الفهم في ضوء القيم والحوكمة. فبقدر ما يُتقن الإنسان أدوات الذكاء الاصطناعي، فإنه بحاجة إلى ذكاء أخلاقي يضبط سلوكه، ويوجّه قراراته، ويُسهم في تحقيق رؤى تنموية مثل رؤية 2035، التي لا تُبنى بالمشاريع فقط، بل بالإنسان أولًا.
الدكتورة ابتسام النومس